بقلم د/سماح عزازي
في وطنٍ يُناضل لاسترداد ملامح العدالة الاجتماعية وترميم ثغرات التشريع، تتبدّى أمامنا واحدة من أكثر القضايا العقارية إثارة للجدل والتعقيد، قضية لم تعد تحتمل التأجيل ولا تصلح معها أنصاف الحلول... إنها أزمة قانون الإيجار القديم، التي تمخّضت عن عقود من التجميد التشريعي والتغافل الإداري، فأنتجت واقعًا مختلًّا يئنّ فيه المالك تحت وطأة الإهمال، ويتوجّس فيه المستأجر من المصير المجهول.
ليست القضية في جوهرها صراعًا بين طرفين، بل هي اختبار حقيقي لقدرة الدولة على إنصاف الحقوق دون هدم الاستقرار، وعلى المواءمة بين العدالة الدستورية والواقع الاجتماعي. فبين حق ملكيةٍ مصان بنصوص الدستور، وحق السكن الذي ترفعه الشعارات الحكومية، تضيع الحقيقة في دهاليز الزمن والتشريعات العتيقة.
منذ أكثر من سبعة عقود، تشكَّل واقع عقاري مشوَّه في مصر تحت وطأة ظروف استثنائية، تمثلت في الحروب والنزوح السكاني والأزمات الاقتصادية، فتدخلت الدولة آنذاك لحماية المواطن من جشع السوق، فأصدرت قوانين تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، كان أبرزها وأطولها عمراً قانون "الإيجار القديم". غير أن القانون الذي صدر لحماية الطبقات الفقيرة، تحوّل بمرور الزمن إلى مأساة قانونية ومعاناة مزمنة لطرفي العلاقة: مالك لا يملك من أملاكه إلا الاسم، ومستأجر يتمسك بقانون وُلد في زمن غير الزمن.
جذور الأزمة... تشريع في غير زمنه
بدأت القوانين الاستثنائية بتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر في مصر منذ صدور القانون رقم 121 لسنة 1947، تلاه عدد من القوانين اللاحقة، كان من أبرزها القانون رقم 49 لسنة 1977 بشأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، والذي نص في المادة 29 على الامتداد القانوني لعقد الإيجار لورثة المستأجر بعد وفاته، وهي المادة التي أصبحت إحدى بؤر الجدل.
ثم جاء القانون رقم 136 لسنة 1981، مؤكداً نفس الفلسفة، ومعمقًا الأزمة بإبقاء العلاقة الإيجارية جامدة، دون مراعاة المتغيرات الاقتصادية والتضخم الذي طال كل شيء، ما عدا الإيجار.
أرقام تعكس اختلال العدالة
وفقًا لتقارير وزارة الإسكان، يوجد أكثر من 3.5 مليون وحدة خاضعة لقانون الإيجار القديم، منها نحو 1 مليون وحدة مغلقة، يرفض شاغلوها ردّها أو استخدامها، رغم أن آلاف الأسر لا تجد مأوى لائقًا. كما تشير الإحصائيات إلى أن آلاف العقارات المؤجرة بقيم تقل عن 10 جنيهات شهريًا تُدر على أصحابها دخلًا لا يكفي ثمن فنجان قهوة، في حين تتجاوز قيمتها السوقية ملايين الجنيهات.
المحكمة الدستورية تدخل المشهد
في الطعن رقم 11 لسنة 23 قضائية "دستورية"، قضت المحكمة الدستورية العليا في عام 2018 بعدم دستورية استمرار عقود الإيجار للأماكن غير السكنية لأشخاص الاعتبارية، وعلّلت ذلك بقولها إن: "الامتداد القانوني غير المحدود لعقد الإيجار يصادر حق المالك في استغلال ملكه، وينطوي على عدوان على جوهر الملكية، بما يُخلّ بمبدأ التوازن بين المصلحة العامة والخاصة".
وقد استندت المحكمة إلى المادة 35 من الدستور المصري، التي تنص على أن:
"الملكية الخاصة مصونة، ولا تُمس، إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل يُدفع مقدمًا".
بين مطرقة البرلمان وسندان الحكومة
تكررت المحاولات التشريعية لتحرير العلاقة الإيجارية. ففي عام 2019، تقدمت الحكومة بمشروع قانون لتحرير الإيجارات لغير الغرض السكني، وقد أُقر في البرلمان، إلا أن الإيجارات السكنية ظلت منطقة محظورة لم تُمس بعد.
وفي دور الانعقاد الحالي، تتداول لجنة الإسكان والمرافق بمجلس النواب عددًا من المقترحات لتعديل القانون، أبرزها مشروع قانون قدمه النائب "معتز محمود" وآخرون، يتضمن فترة انتقالية مدتها 5 سنوات، وزيادة تدريجية للإيجار بنسبة 15% سنويًا، مع إنشاء صندوق لدعم المستأجر غير القادر، وفق ضوابط محددة.
الملاك يطالبون بالتحرير لا نملك من أملاكنا إلا الاسم
ترى جمعيات الملاك أن استمرار الوضع الراهن يمثل مخالفة صارخة للدستور، الذي يكفل حق الملكية الخاصة، مشيرين إلى أن المادة 33 من الدستور تنص على:
"تحمي الدولة الملكية بأنواعها الثلاثة: العامة، والخاصة، والتعاونية."
كما يؤكدون أن العديد من الملاك الحاليين ليسوا من أصحاب الثروات، بل ورثة لأملاك قديمة، حُرموا من الانتفاع بها لعقود، ويقفون عاجزين أمام تكلفة الترميم أو حتى الصيانة.
المستأجرون لا للمساس بالأمن السكني
على الجانب الآخر، يرى المستأجرون أن الدولة مسؤولة عن توفير السكن، وأن تعديل القانون قد يؤدي إلى طرد مئات الآلاف من الأسر. ويستندون إلى المادة 78 من الدستور المصري، التي تنص على:
"تكفل الدولة للمواطن الحق في السكن الملائم والآمن والصحي، بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية."
ويحذرون من تحريك جماعي للإيجارات دون دعم، مطالبين بتدخل الدولة لدعم الفئات غير القادرة، وليس إطلاق يد السوق وحدها في قضية تمس الأمن الاجتماعي.
حلول مطروحة تنتظر القرار السياسي
المقترحات المطروحة تشمل:
وضع جدول زمني تدريجي لتحرير العلاقة الإيجارية خلال 5 إلى 10 سنوات.
إعادة تقييم القيمة الإيجارية بناء على موقع ومساحة الوحدة.
إعفاء كبار السن وأصحاب المعاشات من الزيادات أو توفير سكن بديل.
إنشاء صندوق دعم تمويلي برعاية الدولة لتعويض غير القادرين.
تشجيع التصالح بين المالك والمستأجر بعقود جديدة تحقق التوازن.
هل اقتربت لحظة الحسم؟
الإيجار القديم ليس قضية قانون فقط، بل قضية عدالة اجتماعية واستقرار مجتمعي وحق دستوري. وبين رغبة المالك في استرداد حقه المشروع، وخوف المستأجر من المجهول، تبقى الدولة مطالبة بالحسم عبر تشريع متوازن وشجاع، يحفظ كرامة الجميع، ويعيد للعقار المصري عافيته، ويُنهي واحدة من أطول الأزمات القانونية في التاريخ المصري الحديث.
فهل نشهد قريبًا قانونًا يضع حدًا لسبعة عقود من التجميد؟
أم تبقى الحقوق مرهونة بخطابات التعاطف والمماطلة السياسية؟
إن أزمة الإيجار القديم لم تعد تحتمل مزيدًا من التجاهل أو الترقيع، فهي ليست مجرد خلاف على أرقام وحقوق، بل معركة بين العدالة والتاريخ، بين الجمود والتطور، بين واقعٍ وُلد في أعقاب الحرب وظلّ يحكم ما بعد الثورة.
وإذا كانت الدولة قد تعهدت بتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حقوق المواطن بمختلف فئاته، فإن أولى خطوات هذه العدالة أن تُقرَّ الحقوق لأصحابها دون انتقاص، وأن تُصان كرامة الساكن دون تهديد أو تشريد.
إن الحسم في هذا الملف لم يعد ترفًا سياسيًا، بل ضرورة قانونية، واجتماعية، واقتصادية، تأخُّرها يُفاقم الأزمة، ويُطيل معاناة الطرفين. ولذا، يبقى الأمل معقودًا على إرادة تشريعية شجاعة، لا ترضى بأن يبقى ملايين المصريين أسرى قانونٍ تجاوزه الزمن، ولا تسمح بأن تُهدَم بيوت على رؤوس قاطنيها باسم الإصلاح.
فهل آن أوان العدل؟ أم سيبقى القانون في غرفة الانتظار؟
إضافة تعليق جديد