رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الجمعة 3 مايو 2024 11:27 م توقيت القاهرة

الدكرورى يكتب عن رحلة الإسراء والمعراج " الجزء الثانى عشر "

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الثانى عشر مع رحلة الإسراء والمعراج، ولقد كانت تلك الرحلة العظيمة هى تصفية الصف المسلم وتنقيته حيث أن الكثرة لا تفيد إن لم تكن ذات قيمة، وثوابت تربت عليها، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان مقدما على مرحلة جديدة، هى مرحلة الهجرة، والانطلاق لبناء الدولة، فيريد الله تعالى للبنات الأولى في البناء أن تكون سليمة قوية، متراصة متماسكة، فجعل الله تعالى هذا الاختبار والتمحيص ليخلص الصف من الضعاف المترددين، والذين في قلوبهم مرض، ويثبت المؤمنين الأقوياء الخلص، الذين لمسوا عيانا صدق نبيهم صلى الله عليه وسلم، بعد أن لمسوه تصديقا، وشهدوا مدى كرامته على ربه، فأى حظ يحوطهم، وأى سعد يغمرهم، وهم حول هذا النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد آمنوا به، وقدموا حياتهم فداء له ولدينهم؟ فكم يترسخ الإيمان في قلوبهم أمام هذا الحدث الذي تم بعد وعثاء الطائف، وبعد دخول مكة بجوار، وبعد أذى الصبيان والسفهاء، ولقد كان هناك جمله وهى " أترجع إليهم وقد أخرجوك؟ قالها زيد بن حارثة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، بعد عودته من رحلة الطائف، قبل رحلة الإسراء والمعراج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم واثقا في نصر الله تعالى له وحفظ الله إياه " إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، إن الله ناصر دينه ومظهر نبيه" عندها جاءت بوادر الأمل، ومشاعل النور، وبشائر النصر وصدق الصادق الأمين" إن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب" وإن هذا يعلمنا أن الأمل هو إكسير الحياة، وباعث نشاطها.

ومخفف ويلاتها، وصانع البهجة والسرور فيها، إنه شيء حلو المذاق، جميل المحيا، عالي القيمة، وينبهنا أن المؤمن أوسع الناس أملا وأصفاهم نفسا وأطهرهم قلبا وأرحبهم صدرا، وأكثرهم تفاؤلا واستبشارا، لأنه يؤمن بأن هناك قوة تدبر هذا الكون لا يخفى عليها شيء ولا تعجز هي عن شيء، قوة غير محدودة وغير محصورة وغير متناهية، هي قوة الله، إنه يؤمن بالله قاهر غالب، قدير رحيم، يحيي ويميت، يغني ويفقر، يعطي ويمنع، يعز ويذل، يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، يمنح الجزيل ويغفر الذنوب، يقبل التوبة عن عبادة ويعفوا عن السيئات، إله هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأبر بخلقه من أنفسهم، وهذا ما أراد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، أن يورثه في أمته، إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، فما الذي حدث؟ فقد جاء عداس نصرانيا يحمل قطفا من العنب، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يأكل فقال بسم الله الرحمن الرحيم، يورث آداب الإسلام، لم ينس ربه، ولم يفقد مهمته رغم الأذى والبلاء فتعجب عداس وقال هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلدة، قال النبي صلى الله عليه وسلم، من أي البلاد أنت قال من نينوى وهى بلد في العراق فقال النبي صلى الله عليه وسلم، بلد أخي يونس ابن متى، فانكب عداس يقبل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويده وتحول الصد والإعراض هناك إلى عناق وقبلات هنا، وأسلم الرجل في هذا الموقف، وقد دخل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، مكة في جوار المطعم بن عدي، حيث أعلن الأخير في قومه إني قد أجرت محمدا.

فألبسوا أسلحتكم، وكونوا في أركان البيت، ثم خرج إلى مكة وقال يا معشر قريش إني أجرت محمدا فلا يهجه أحد، وخرجت كتيبة بأسلحتها تستقبل النبي صلى الله عليه وسلم وتحيط به، حتى وصل إلى الكعبة وصلى فيها، ثم استقبل وفود الحجيج صلى الله عليه وسلم، يعرض عليهم الإسلام، حتى دخلوا في دين الله أفوجا، ليثبت للدنيا بأسرها أن الأمل لا بد منه لدعم الرسالات، وإقامة النهضات، ونجاح البطولات وإذا فقد المصلح أمله فقد دخل المعركة بلا سلاح يقاتل به، بل بلا يد تمسك بالسلاح، فأنى يرتجى له انتصار؟ أو يأتي إليه فلاح، أما إذا استصحب الأمل فإن الصعب سيهون، والضر سينكشف، والبعيد سيدنو فالأيام تقرب البعيد والزمن جزء من العلاج، وليعلم الدنيا كلها أن المنحة في طيات المحنة، وأن الخير يكمن في الشر، وأن مع الكرب فرج ومع العسر يسر، فإذا كانت الأرض قد ضاقت به ذرعا، فإن السماء فتحت له أبوابها فتنقل بينها سماء بعد سماء، وإذا كان أهل الأرض تنكروا له فإن أهل السماء رحبوا به والتفوا حوله، فكان قائدهم وإمامهم، واستمعت الجن له، وبلغت عنه، ومانت هدية الأمة المحمدية فرضية الصلاة في السماء خمس في العمل وخمسون في الأجر فكانت صلة الأرض بالسماء، والمخلوق بالخالق، والدنيا بالآخرة، حتى أن محطات الرحلة كانت مراتع الصلاة في أعظم بيوت الله عز وجل، وإن الحديث عن الإسراء والمعراج كخارقة ليس شيئا عاديا، صحيح أنها رحلة من حيث الانتقال من أرض إلى أرض، لكنها ليست ككل الرحلات بكل المقاييس.

وقيل أن تسميتها رحلة مجاز أكثر من كونها حقيقة لكنها كخارقة أصح حقيقة وأثبت، كيف يصح أن نطلق عليها رحلة وفيها ما فيها من الخوارق وغرائب وعجائب الأحداث؟ وفي هذه الرحلة العجيبة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشيب له الرأس مما أعده الله للمخالفين العصاة من أمته ممن يتركون الحلال الطيب من النساء إلى الحرام الخبيث من معاشرة العاهرات، وممن يباشرون المعاملات الربوية وممن يعاقرون الخمر، وممن يتركون الصلاة، وغير ذلك كثير، ولقد بدأت السورة بالتسبيح، وهو التنزيه والتقديس لأن هذا الحدث فوق قدرات البشر، ولا يقوم به إنسان، مهما أوتي من جبروت العلم، وسطوة الفهم، والمتأمل فيه يوقن بأنه حدث الأحداث، ومعجزة المعجزات إذ كيف يمكن لبشر أن يأخذ بشرا في رحلة أرضية من مكةَ المكرمة إلى بيت المقدس، هذه المسافات الطويلة، ثم يُعرج به إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى، ويريه كل تلك الآيات الباهرات، ثم يعود به قبل أن يبرد موضع نومه، حتى إن العرب أنفسهم الذين يعرفون بُعد المسافة بين المسجدين استبعدوا ذلك، وقالوا تأتي بيت المقدس الذي نضرب له أكباد الإبل شهرا، ثم تعود إلى دارك في هذه اللحظات القليلة الرمزية، وكان الجواب عليهم هو نعم، لإن أول أهداف الإسراء هو بيان القدرة الإلهية، وإيضاح المعجزة الربانية، والهيمنة الحقيقية على كل من وما في الكون لأن الله خلق الزمن فكيف يحيط به الزمن، وخلق المكان فكيف يحويه مكان، إن الله تعالى لا يعالج الأمور والأشياء كما نعالجها نحن.

إنما كل شيء عنده يتأهب لسماع "كن" فيكون في الحال ويحدث على الفور، وكل شيء عنده بمقدار، وأما ثاني تلك الغايات فهو التسلية والتسرية عن حبيبه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو مفهوم من معنى الإسراء وهو التسرية والتخفيف، حيث بلغ بقريش معه حدا بعيدا من الظلم والتجني والاضطرار إلى الخروج، وحيث أدميت قدماه الشريفتان، وهذا يتجهم، وذلك يحاول التصدي له وامتلاك دعوته، وثالث يساومه على تركها، حتى قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس برحمتك يا رب العالمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن يحل بي سخطك، أو ينزل عليّ غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك" فكان دعاء الحبيب للحبيب، فيه إخبات وخشوع، وخضوع ودموع، رقة متناهية، وتوكل صادق، ويقين كامل بنصرة الله عز وجل، فتتنزل رحمة الله تعالى به في رحلة أرضية سماوية تخفف عنه، وتمسح على جبينه، وتكفكف دمعه، وتربط على كتفيه، وتشعره أنه ليس وحده في هذا الوجود، وإنما معه ربه لا ينساه، ومعه مولاه يرعاه، ويرعاه، ولقد كان لهذه الرحلة العظمى غاية عظيمه وهو بيان الآيات وشرح مستقبل الأمة وأخذ الحيطة والحذر من كل ما يقع، وكيفية الخروج منه، فهو رحلة تبصير وتنبيه.

فقد رأى صلى الله عليه وسلم، مرئيات كثيرة ولها دلالات عظيمة، منها ما يتعلق بأثر الكلمة ودورها في المجتمع، ومنها بيان قيمة الزمان في المجتمع الإنساني، ومنها خطورة الربا وآثاره المدمرة، ومنها الحرص على قدسية المرأة، وعدم الاختلاط الداعي إلى الزنا، وحياة الفحش والخنا، ومردود ذلك على المجتمع، ومنها التحذير من الدنيا وزينتها، ومنها خطورة الاغتياب، وعواقبه السيئة، ومنها بيان طبيعة الدين الإسلامي النقية، السهلة، السلسة، وتعاليمها الواضحة الهينة اللينة، ومنها مكانة المجاهدين، ومنزلة الجهاد عند الله سبحانه وتعالى، ومنها بيان مكان الصلاة، وأنها معراج المؤمن إلى ربه، وصلة العبد بمولاه، ومنها ما يتعرض له الإسلام ودعاته من عواصف هوج، وأباطيل، وعراقيل، وابتلاءات واضطهاد من هنا وهناك، وما يحيط به، ويحيك به من دسائس ومكر، وخطط ماكرة لطمسه، وقتل أنصاره، ووجوب الصبر، والتجمل، الكثير، والكثير من الرؤى والرموز، والدلالات، والمفاهيم، فإن الإسراء له مفاهيم، وتحيطه غايات، ويشتمل على معان ودلالات، ومرادات، يجب علينا أن نعيشها، ونتأملها، ونعمل بمقتضاها، ولكن هناك حقيقة، وهي أن المسلمين اعتادوا أن يحتفلوا بذكرى الإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، واعتقد الكثيرون أن الإسراء كان في هذه الليلة، وهذه ليست حقيقة مؤكدة، والتحقيق في هذا أن العلماء قد اختلفوا اختلافا كبيرا في يوم الإسراء بل في شهر الإسراء بل في سنة الإسراء فقد قال السدي كان الإسراء في شهر ذي القعدة.

وقال ابن عبدالبر كان الإسراء في شهر ربيع الأول، وقال النووي كان الإسراء في شهر رجب، وقال الواقدي كان الإسراء في شهر شوال، وقيل كان الإسراء قبل الهجرة بستة أشهر، وقيل كان الإسراء قبل الهجرة بتسعة أشهر، وقيل كان الإسراء قبل الهجرة بسنة، وقيل كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وستة أشهر، وقيل كان الإسراء قبل الهجرة بثلاث سنين، كما قال ابن الأثير، ومن ثَم فإن اليوم والشهر والعام لا يعلمه إلا الله، والتحديد للإسراء بيوم وشهر ضرب من المجازفة والتخمين، لا دليل عليه من الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، والتحقيق أن الإسراء كان بعد البعثة وقبل الهجرة، من مكة إلى المسجد الأقصى، ثم من المسجد الأقصى إلى السموات العلا، كما جاءت به الأخبار الصحيحة عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الإسراء والمعراج فهو حدث عظيم في حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وحدث مفصلي في عمر الدعوة الإسلامية العريقة، وحدث هام عند المسلمين في أرجاء المعمورة إذ فرق بين الحق والباطل، وأظهر الغث من السمين، وعرى أعداء الدين، ووضح الأهداف الجليلة للمناضلين والمجاهدين في طريق رب العالمين، وإن الإسراء يعلمنا أن اليسر مع العسر، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، فهذه الشدة التي يحياها المسلمون شدة أرادها الله، لكن الله بيده كل شيء، بيده أن يزيحها عنهم، ولكن لا بد من أن يصطلحوا معه، هذه الشدة زوالها مرهون بتوبتنا، وإن تعودوا نعد، وإن تغيروا يغير الله ما بنا، والتوبة بداية الفرج.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.