رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الخميس 25 أبريل 2024 8:45 ص توقيت القاهرة

حين يحدق بك رجلٌ مسنٌ يريد أن يطلب شيءً ، ماذا تفعل؟ (من حكايات طريق الجنة)

بقلم سيد محمد الياسري
ينظر الي ، وامامه طبق الطعام ، انه نفس الطبق ، وبقربه طفل امامه نفس الطبق ، كنا ثلاثة ، وكان اثنين ، هو وطفل ، أشحتُ بنظري عنه ، ثم أعود اراه ينظر الي ، نظراته موجوعة الى حد بدت حاجباه موقوسان كأنه يريد ان يطلب شيء ، ويمنعه الحياء ، لا ادري ما العمل ؟ غير اني فضلت الانتظار حتى يتكلم .
ثم دنا ، وتكلم بمديح وهو لايعرفني ، جعلني مديحه اتلعثم في الجواب ، بعدها قال : اريد ان اطلب منك شيء ؟ كل شخص مكاني يبادره بكلمة : تفضل ، اطلب ، بخدمتك ، ويتبادر لذهن الجميع انه سيطلب نقودا ! هكذا نفكر جميعنا ! فيما اعتقد الا من سما وعلا عنا !
او ماقاله قبل الطلب : اني عبدالجبار ، نطق اسمه وبكى !؟
كان الرجل ُ مسنا ، بدا عليه تعب مسير ( طريق الجنة ) حلكت بشرته الشمس ، ونحت الزمان في وجهه حزن ابدي ، يظهر من عينيه حين تحدق بهما، قد ترك الدمع اثرا في خدوده ، لا تتعجب من ذلك عندما تنظر الى جفونه ، تجزم انه بكّاء ، او قل كثير البكاء ، لربما الدمع في مصطلح الأوليين يخفف من حزنه ، والا مات كمدا .
شدد على طلبه ، كثيرا ، كثيرا ، ولم يطلب ، وكأنه يريد مني عهدا عليّ ،.. كي احققه له ، ثم اخذ العهد بشرط الاستطاعة ، فعاد للبكاء وقال : هل اطلب الان ؟
قد حيرني الرجل ، وصدمني بالطلب المحزن ، فقال : امشي في طريقي وابصر الوجوه حتى اطلب ، وطلبت الشفاعة من الحسين ع ، ان يدلني الله الى شخص اطلب منه ولا يردني الله فيما اطلب - عبارة كبيرة جدا - والان سأطلب منك !؟ ثم عاد بوجع وحزن وقال : هل اطلب ؟
بعدها تكلم وطلب !؟ وكانت المآساة تنحدر كانحدار السيل !
قال : اريد ... ان ... تقرأ .... الفاتحة ... لولدي الشهيد .... وانهمر الدمع .
لم تكن هذه قصة خيالية ، بل واقع ، ولم تكن دموعه ولوعته على ابنه ، من بنات أفكار الروائيين ، ولا ملكة خيال قاص ، بل هي حقيقة وامامك ، كانت حشرجة صوته مع دموعه تقطع نياط القلب ، وطفق يسرد قصة ولده الشهيد
- احفظ يا سيد ، اسمه علي عبدالجبار ، عمره ١٧ ربيعا ، عندما سقطت الموصل بيد الظالمين ، هب ولدي لدفاع عنها ، كباقي العراقيين في الفتوى الجهادية ، لم يملك شيء غير روحه ، حاولت ان اثنيه عن عزمه فلم يقبل ، ثم باركت له طريقه ، الى الجهاد ، لم يكن له مال ، فطفق يعمل في اجازته ، كي يحصل على عتاد وبندقية ، وكي يجمع له مصروفا ، كي يلتحق للجبهة ، وهكذا العشرة أيام الاجازة يقضيها عاملا .... لم يسترح حتى في أيام اجازته ...
تقطع صوته وبكى وكانت الحسرة والوجع والالم ، خناجر في صدره ، قرأنا له الفاتحة ، كلنا الحاضرون : رياض ، شهاب ، وبقربنا ثلاثة لانعرفهم يسمعون الكلام ، ثم قلنا له ، سنهدي له خطوات من طريق الجنة ، فبكى ، وطفق يحكي ان له أولاد كثير ولكن هذا الولد لايمحى من ذاكرته ، لازال يشم عطره ، ويسمع صوته ، ويشعر بانه لازال يضمه ، ثم قال اريد ان اطلب شيء اخر : هل تنفذه ؟ فقلت تفضل ؟ فاخرج مبلغا من المال ، وقال اريدك ان تشتري كوفية ( شماغ ) بثوابه كي تتذكره وتقرأ له الفاتحة ، واخذ يلح وانا أقول له لا البس الشماغ ، ولم يقبل الا بعد ذلك حين بدأت اطرح له حلاً ان ارسل النقود الى ايتام ، وان اصلي له أسبوعا ، فرضى !؟ والدمع يكيل بين كفيه !
( علي ) بعمر ١٧ ربيعا عرف طريق الجنة ، وذهب سعيدا اليه ، وترك اباه يلوع بفقده ، بينما الساسة مازالوا على نقاش من يستلم الوزارة وكيف الكتل تستفيد ، بتقسيمات فئوية جعلت الناس متناحرين ، من منهم يستطيع ان يخفف الم عبدالجبار على ولده ، من يجفف منهم تلك الدموع ، ويرسم البسمة ، مستحيل كان عبدالجبار :
يشمُ اخر عطرا من ولده ، ويسمع ضحكاته في زوايا البيت ، ويحضن طيفه ، ويسأل الماره ، كي يخلّده في العليين .
شباب بعمر الورد ، رأت الطريق ، لم يترك لهم الزمن ان يتعلموا ويحصلوا على شهادات علمية ، لكنهم حصلوا على شهادات تثبت بطولتهم وبصيرتهم وعلمهم ، وتثبت للساسة العراقيين ان شهادتهم عبارة عن جيفٍ ، وان شعرهم الأبيض الذي يلمعونه بعضهم سوادا بصبغ الأحذية – الذي كثيرا عليهم - وكأنها عمر اختزل للنذالة والخسة وهم يسرقون بسمة الأطفال ، وانين الثكالى ، وبكاء الاباء ، كأن علي عبدالجبار يقول : أيها الساسة كلكم داعشيون ، لازالت دمعة ابي تنتظر الشرارة كي تحرقكم ...
والسؤال : هل نسى الجميع علي عبدالجبار ؟ وهل نسوا ماقدمه من حياته السبعة عشر ربيعا ؟
ربما يدرك الجميع ان الساسة حين تأتي الريح الصفراء عليهم ، يتذكرون ذلك ، وحين ينفرج وينزون على العرش ، ينسون كل شيء ، ليس علي عبدالجبار فحسب ، بل ينسون شمعة علي عبدالجبار ، علي بن ابي طالب ...

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.