رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأربعاء 24 أبريل 2024 5:07 ص توقيت القاهرة

سامي بوادي يكتب.. الشك آفة المرحلة

إن من ضمن الملوثات التي تسربت للفكر  المعاصر تحت ستار مشروعية التساؤل والفضول المعرفي، إعلاء شأن الشك باعتباره بوابة المعرفة، وذَمِّ اليقين بوصفه تسليماً أعمى دون نظر. وبدلاً من محاولات تقويم مثل هذا الفهم المُعوَجّ البنية والمتضارب المنطق وجدنا من يغذيه وينصره  بمأرب واغراض خبيثة دون اي ادراك من متلقي تحفيزهم لاغراضهم ونوايتهم
 فالشّك آفة خطيرة  لأنه من صنع الخيال وحده، وإذا تحكّم الخيال السوداوى فى شيءٍ أفسده وألغى حكم العقل وترك المجال للتصرفات الرعناء، والتدبر والتفكر والمقارنات المعتدلة شيءٌ مطلوبٌ ومهم ولكن دون أن تصل لمرحلة الشك، وهذان نوعان لا يجوز الخلط بينهما، لأن تفاقم ظاهرة "التشكيك في الطرف الآخر" عند  الاختلاف في طرح القضايا أو تأييدها سرعان ما يتحول إلى اتهامات وتشكيك في ميول وعقيدة ودوافع ووطنية الطرف الآخر،  وهذا  يوصف بـ "آفة المرحلة" لخطورته على النسيج المجتمعي والثقافي للمجتمع.
ويصبح الشك مرض ويكون بسوء الظن المستمر بالأفعال أو الأقوال التى تصدر عن الآخرين، وبدون أى حجج أو براهين مقنعة، ومن صفات الإنسان الشكاك:
إنه  يُكثر من المجادلة ويسارع كثيراً من الدفاع عن نفسه إما بالفعل أو فى القول، وإن منعه أحد عن ذلك فإنه أحياناً يضمر الشر والحقد فى قلبه، وينتظر الفرصة المناسبة للرد، وكذلك الخوف والحذر من الآخرين، حيث إنّ لديه تصوراً بأن العالم هو غابة كبيرة، وفيها العديد من الحيوانات الشرسة والقويّة، والتى تلتهم الحيوانات الصغيرة.
وهو يتملكه الغرور، حيث يرى بأنه شخصٌ كامل، ولا يشوبه أى نقصٍ أو جهل.
كما لديه ميل إلى التطفل على خصوصيات الآخرين، والرغبة الشديدة فى معرفة كل ما يفكرون به أو يخطر على بالهم، ومن ناحيةٍ أخرى يميل هذا الشخص إلى الغموض ، وكتمان أى شيءٍ يتعلق بحياته الخاصة، وذلك لأنه يخاف من أن يتم استخدام هذه المعلومات ضده فى أحد الأيام.
ودائما تجده ذو إصرار وحب التنافس بسوء نية والتحدى بشكلٍ كبير وميله إلى جمع المعلومات السلبيّة عن الأشخاص الذين ينافسونه سواء فى مجال العمل أم الدراسة، وحفظها جيداً، والاستشهاد بها عند الحاجة مع تضخيمها.
، فلنرسي الأصول من البداية، ونقيم التصور الصحيح على بصيرة:
ولنتعرف اولا ما هو الشك؟
الشك في لسان العرب: "نقيضُ اليقين. فهو تجويزٌ لأمريْن لا مَزِيَّة لأحدهما على الآخر، أو أن يبقى الإنسانُ متوقّفاً بين النّفي والإثبات...". وإذا كان الشك "نقيض" اليقين أصلا، فأنى يكون بوابة له تبعاً؟  وإنما مذهب الشك هو العماد الذي يتكئ عليه الفكر العلمي  غير النمطي (المغاير بالضرورة في المنطلق والمنتهى)، ومع ذلك اقتبسه منه الفكر العربي الموجه بكثير من التشوه والاختزال، وشرع يطبقه بكثير من الخبط والسطحية.

وأول من أَصَّلَ لذلك المذهب في الفكر الغربي هو المفكّر الفرنسي رينيه ديكارت، الملقب "أبو الفلسفة الحديثة"، في مقولته الشهيرة (والمختزلة من أطروحة طويلة): "أنا أشُكُّ، إذن أنا موجودٌ". والشك عند ديكارت هو السبيل الأمثل للتوصل لمعرفة الحقيقة بوضوح، ثم إنشاء اليقين بها.
ويخطئ أشد الخطأ من يتخذ من سيدنا موسى وسيدنا إبراهيم نموذجين "إسلاميين"، لتطبيق مذهب ديكارت الشكي! وفي هذا الترقيع من السطحية والجهل بمقتضيات مقامات النبوة ما فيه، فضلاً عن أن الإصرار عليه قد يبلُغ بصاحبه من سوء الأدب وسوء القول مع حضرة النبوة وجلال الله، ما لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى!

وتوضيح موقف سيدنا موسى حين طلب رؤية الله تعالى بعدما كلّمه، أنه كان بدافع محبة في التقرب من خالقه وشوقاً للرؤية بعد السماع، لا شكًّا في الله أو انتكاسا في الإيمان! حتى إنه بدأ مطلبه بقوله {ربِّ أِرِنِي أَنْظُرْ إليكَ}. فصيغة النداء وأسلوب الخطاب فيه من يقين النبوة ومحبة العبد المؤمن ما لا يخطئه فاهم. بل إنه بعدما أفاق عليه السلام، استغفر ربه وتاب إليه من طلبه ما لا طاقة له به، وليس من تشككه في وجوده تعالى!

وكذلك يقال في سيدنا إبراهيم عليه السلام لمّا طلب أن يريه ربه كيف يحي الموتى، إنما كان ليبلغ عَيْن اليقين بعد علم اليقين، كما أثبت القرآن جوابه حين سأله ربه {أَوَلَم تُؤْمِنْ}، فأجاب: {بَلَى، ولكن ليطمئن قلبي}. فالرد بـ "بلى" ينفي تَطرُّق أي درجة من ذبذبة الإيمان والشك من باب أولى، وقصده بالاطمئنان ليس ما يذهب له الفهم السطحي أنه تثبيت لقلقلة قلبية بل هو ترقٍّ في الثبات!

وأما حديث المصطفى عليه السلام: "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ" [البخاري ومسلم]، فقد وردت فيه شروح وافية، من يراجعها يجد أن خلاصتها نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، إمام الحُنفاء وخليل الله تعالى. ذلك أنّ الشك لا يقع ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ تلك الرتبة من النبوة والقربى ؟! وإنما الشاهد في الحديث "مشروعية التثبت" و"مواجهة الشكوك" بما بيّن الله تعالى من آياتٍ فيها الكفاية، لمن كان له قلب وأذن واعية. وليس الشاهد "مشروعية التشكك" أو مدحه بذاته، بل السياق يذم تكلّف التنقيب فيما لم يأذن الله لنا بإدراكه من الغيبيات، طلبا لبراهين مخصوصة تنفي الشك عن قلب لم يَكفِه ما آتاه الله بالفعل! {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144].
ان الشك المرضي أو التشكيكات الكثيرة المتتالية المتتابعة التي تكون كحلقات سلسلة لا متناهية، يحوّل حياة الأفراد إلى جحيم وينقلهم من بحبوحة الحياة السعيدة إلى درك الشقاء اللامحدود وكما قال سيدنا على رضي الله عنه (فَإِنَّ الشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ لَوَاقِحُ الفِتَنِ وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ المَنَائِحِ وَالمِنَن‌)
ولسنا بحاجة إلى الاستدلال على ذلك بعد شهادة حياة (الشكاكين) بالجحيم الذي يعيشون فيه 
ويكفي ان نتصور شاباً جامعياً أو تاجراً في السوق أو طبيباً أو مهندساً أو غير ذلك، يشكك في كافة أصدقائه وجيرانه فيُخيَّل إليه ان هذا يريد ان يسرقه وذاك يريد ان يطعنه والثالث يريد ان يغشه ويخدعه والرابع يخطط لكي يقتله وهكذا وهلم جراً، فهل تراه يمكن ان يستشعر طعم السعادة حتى وإن كان يعيش في أفخم القصور؟
ومن ذلك نعلم ان الشك وإن كان في بعض درجاته نافعاً إذا شكل الحافز والباعث للبحث عن الحقيقة، لكنه إذا تجاوز الحدود فانه يتحول إلى العدو الأول لسعادة الإنسان وأمنه النفسي والاجتماعي، بل انه يكون حينئذٍ الحاجز الأكبر الذي يحول دون إكتشافه للحقائق لأن داء التشكيك المرضي يصبغ الصديق بصبغة العدو ويلوّن الإيجابيات بلون السلبيات ويحوّل رحيق التفاؤل واليقين إلى سمّ العداوة والتردد  والبغضاء.
قال الله العلى  العظيم في كتابه الكريم: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)

وقال جل اسمه: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)
يمكن ان نستلهم الحقائق التالية انطلاقاً من مفردتي الشك واللعب الواردتين في الآيات الكريمة:

لنفرق بين الشكاكّ اللاعب العابث، والشكاك الباحث عن الحقيقة

أولاً: الشكاك قد يكون لاعباً وقد لا يكون لاعباً بل يكون مجرد شاكٍ.

ثانياً: ان الشك قد يكون شك الباحث عن الحقيقة وقد يكون شك اللاعب العابث الذي اتخذ الشك لُعبةً يتسلّى بها، والقسم الأول من الشاك لا يكون معانداً عادةً بل يفتح صدره للحقيقة مهما كانت مُرّة المذاق صعبة الهضم شديدة الوطأ، أما القسم الثاني فانه يكابر الحقيقة عادةً وإن تجلّت له ناصعة بيضاء مشرقة كالشمس الصاحية أو القمر المزهر.
التشكيك كطريق للاسترزاق والشهرة

ثالثاً: ان الشاك اللاعب في تشكيكه قد يكون ممن أتخذ الشك والتشكيك هواية أو حِرفة له، فيكون ممن يعيش على الشبهات وينسج خيوط علاقاته بالتشكيكات، وهذا الشخص هو ذلك الذي استعبدته أهواؤه وشهواته حتى أصبحت التشكيكات بما هي تشكيكات هي التي تلبي طموحاته وتتناغم مع إنانيته، بل قد يكون ممن يعيش على ذلك ويكتسب الأموال السحت بذلك، تماماً كمن يعيش على استغفال الآخرين بالدراسات المزيفة والمعلومات المغلوطة سواءً أكان ذلك في وصفةٍ طبية أم في بدعةً دينية، بل كمن يعيش على السحر والشعوذة والدجل والخداع.

رابعاً: ان طريق التعاطي والتعامل مع النوعين من مثيري الشبهات والتشكيكات مختلفة، والآليات المستخدمة للتصدي للذين يسترزقون بإثارة الشبهات، تختلف عن الآليات التي تستعمل في الحوار مع الشاك المنصف، وربما لا يحتاج الأخير إلا إلى حوار علمي هادى موضوعي، أما الأول فلا بد، لدى الابتلاء به، من سلسلة من التدابير والأساليب التي تتكفل بمجموعها محاصرة سمومه وتطويق النتائج المدمرة لتشكيكاته.
ولننطلق الآن وبعد هذا، في رحلة نستجلي بها أولاً بعض أضرار التشكيك ومخاطره. لمعاجلة هذه الظاهرة التي أخذت تستفحل يوماً بعد يوم أكثر فأكثر في كافة المجتمعات، خاصة قليلة الخبرة منها.
 للشك نتائج مدمرة فيما إذا تحول إلى ظاهرة عامة تتحكم في حياة الأفراد أو الأمم؛ ذلك أن الشك كالنار التي إذا لم تخضع لضوابط منهجية صارمة، فإنها سوف تحرق الأخضر واليابس، فان الشك والتشكيك في حد ذاته تجاه أي قضية يحار فيها العقل أو يتوقف فيها الفكر، ليس مردوعاً عنه عقلاً مادام نوعاً من شك الباحث عن الحقيقة أولاً ومادام شكاً عقلائياً في حدوده المعهودة ثانياً، لكنه إذا تحول إلى (شك مرضي) أو إلى ما يشبه (الوسواس القهري) تجاه أي شيء أو شخص أو فكرة يواجهها الإنسان فعندئذ لا بد أن ندق نواقيس الخطر

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.