بقلم / محمـــد الدكـــروري
الحمد لله خلق الخلق وبالعدل حكم مرتجى العفو ومألوه الأمم كل شيء شاءه رب الورى نافذ الأمر به جف القلم، لك الحمد ربي من ذا الذي يستحق الحمد إن طرقت طوارق الخير تبدي صنع خافيه إليك يا رب كل الكون خاشعة ترجو نوالك فيضا من يدانيه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، أسلم له من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا ثم أما بعد، إن البكاء من الوفاء ومن أفضل أعمال الأولياء، خاصة إذا كان ندما من معصية وعند فوت طاعة، ووجلا من عذاب ورحمة لمصاب ورقة عند موعظة وخشية عند تفكر، ولا يحمد البكاء على الدنيا.
فهي أقل وأرخص من يبكى عليها فليست أهلا لذلك، فكان بكاؤه صلى الله عليه وسلم أجل وأفضل البكاء، وهو ما دلّ على يقين وعظمة خوف وشدة رهبة من الجليل، وصدق معرفة وحسن علم بعاقبة، فأعماله صلى الله عليه وسلم كلها في أرقى مقامات الأعمال وأسمى غايات الأحوال، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهلوع الجزوع الذي يأسف على فوات الحظوظ الدنيوية ويجزعلى ذهاب المكاسب الدنيّة، ولم يكن بالفرح البطر القاسي الذي لا تؤثر فيه المواقف ولا تحركه الأزمات، بل كان بكاؤه وندمه وأسفه في مرضاة ربه، وكان تبسّمه وضحكه وسروره في طاعة خالقه، ففي كل خصلة من خصال النبل وفي كل صفة من صفات الفضل هو المثل الأعلى والقدوة الحسنة حيث قال تعالي " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة "
ولقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم ينظرون إليه على المنبر ودموعه تذرف ونشيجه يتعالى، ولصدره أزيز ولصوته أزيز من حينها يتحول المسجد إلى بكاء ودموع، والكل يحني رأسه ويترك التعبير لعينيه أمام هذا المشهد الذي لا تمحوه الأيام ولا تنسيه الليالي، فهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا أمام الناس، وهكذا تسحّ دموعه وتتساقط على وجنتيه وهو أعرف الناس بالله تعالي وأدراهم بالوحي وأعلمهم بالمصير، فيبكي من قلب ملؤه الخوف من الله عز وجل ومن نفس عمَرها حب الله تعالي، فتكاد دموعه تتحدث للناس، ويكاد يكون بكاؤه أبلغ من كل موعظة وأفصح من كل كلمة، ولقد كان رسول الله المصطفي محمد صلي الله عليه وسلم إذا جاد بلغ المدى في السخاء، وفعل ما لم تفعله الأنواء، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويهب هبة من أرخص الدنيا وزهد في الحطام.
وعاف البقاء ورجا من الله الخلف، يداه غمامة أينما هلت، وكفّه مدرارا أينما وقع نفع، جاد بمهجته فعرّضها للمنايا في سبيل الله، وقدمها لشفرات السيوف لرفع لا إله إلا الله، فما شجاعته صلي الله عليه وسلم إلا آية لجوده، وما إقدامه إلا برهان على سخائه، يعطي ما يملك في ساعة، ويهدي ما عنده في لحظة، هانت عليه الدنيا فمنح أجلاف العرب مئات الإبل، ورخصت عنده الأموال فجاد بالغنائم على مسلمي الفتح " والذي نفسي بيده، لو أن لي بعدد عضاة تهامة مالا لأنفقته ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا" وسئل قميصه فخلعه وأعطاه، وجاد بقوته فعصب بطنه على حرّ الجوع وبلواه، جود حاتم للصيت والسمعة والرياء، وجود خاتم الأنبياء لمرضاة رب الأرض والسماء، فأنفق من فاقة وأعطى من فقر.
وآثر من حاجة، ووصل مع العوز، وكان إذا عفا على الجاني أسره بإحسانه، فلا يعاتبه ولا يطالبه ينسى الإساءة ويدفن الزلة ويمحو بحلمه لذنب، ويغطي بصفحه الجرم، قاتله قومه ونازلوه، فآذوه وسبّوه وشتموه، وطردوه وحاربوه وجرحوه، فلما انتصر عفا وصفح، وحلم وسمح، وصاح في الدهر صيحته المشهورة وكلمته العامرة "اذهبوا فأنتم الطلقاء"
إضافة تعليق جديد