رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأحد 22 يونيو 2025 10:36 م توقيت القاهرة

"أنا أنا... وأنت أنت" بقلم د/ سماح عزازي

في زمنٍ تُغلفه المقارنات، وتُحاصرنا فيه صورٌ مزيّفة لما "يجب" أن نكون عليه… يضيع منّا جوهرنا الحقيقي، وننسى أن لكلٍّ منّا بصمته الفريدة، وموسيقاه الخاصة التي لا يُجيد عزفها سواه. في زحام التوقعات، نحتاج إلى لحظة هدوء نهمس فيها لأنفسنا: "لستُ ملزمًا أن أُشبه أحدًا... ولستَ مضطرًا أن تُشبهني".
هنا تبدأ الحكاية...
حكاية الذات حين تختار أن تكون، لا كما يُريد الآخرون، بل كما أرادها الله: متفرّدة، حرّة، كاملة بنقصها وتمامها.
في هذا العالم المتشابك، المزدحم بالتصنيفات والتوقعات، قد ننسى أحيانًا حقيقة بسيطة وعميقة في آنٍ واحد: أننا مختلفون. وأن الاختلاف ليس عيبًا، بل هو جوهر الوجود، وسرّ التناغم في سيمفونية الحياة.
أنا أفعل ما يُناسبني، وأنت تفعل ما يناسبك.
ليس لأنني عنيدة، ولا لأنك متمرّد، بل لأن لكلٍّ منا روحًا ووجهة، وقلبًا ينبض بإيقاعه الخاص. لم أُولد في هذه الدنيا لأكون ظلًا لتوقعاتك، كما لم تأتَ إليها لتُسهم في تحقيق أحلامي المؤجّلة أو تسير على خارطة وضعتها أنا لك.
﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾
[الكافرون: 6]
في هذا القول، تختبئ أسمى معاني القبول... أن نترك للآخرين حق الاختلاف، دون كراهية، دون فرض، ودون استعلاء.
أنا لست نسخةً منك، وأنت لست مرآتي.
نحن نلتقي في بعض الملامح أحيانًا، ونفترق في كثيرٍ من التفاصيل... وهذا لا يفسد للودّ طريقًا.
فالحبّ لا يعني الذوبان، والصداقة لا تعني الذوبان، ولا حتى القُرب يعني الفَقد.
وهناك جمال خفيّ في أن أراكَ كما أنت... دون محاولات تعديل، دون قوالب جاهزة أضعك فيها.
جمالٌ يشبه الغيم وهو يمرّ حرًا في السماء، لا يُسأل: إلى أين؟ ولا يُطالَب أن يُمطر كل حين.
دعنا نقرّ بحقيقة تغيب عنا كثيرًا:
أنا أنا... كينونة مستقلة، واختيار حرّ، وطباع لا تُقصّ لتناسب مقاسات الآخرين.
وأنت أنت... لست امتدادًا لي، بل وجودٌ مكتمل بذاته، لا ينتظر منّي تصفيقًا أو اعترافًا كي يكون.
قد نلتقي في منتصف الطريق... وقد لا نتقاطع أبدًا.
وقد تصادف أرواحنا لحظة صفاء، فتنبت زهرة لا تُزهِر إلا مرة واحدة في العمر.
وقد نمضي في دروب متوازية، يظلّ بيننا ظل الاحترام وإن غابت الكلمات.
"فما كلّ من تهواه يهواك قلبه
ولا كلّ من صافيته لك قد صفا"
– من شعر الإمام الشافعي، يختصر عمق العلاقات الإنسانية: لا يُشترط أن نُجبرها لتُشبه ما نرجو، فبعضها جميلٌ كما هو، وبعضها لا يصلح إلا أن يُترك بسلام.
فإن تلاقت خطواتنا يومًا، فهذا من جمال الحياة... وإن لم تتلاقَ، فتلك سنّة الوجود، وسرّ حكمة الخالق في اختلاف الخلق وتباين الأقدار.
لا تسألني أن أكون كما ترى، ولا أطلب منك أن تُشبِهني...
فلعلّ ما يناسبني لا يُناسبك، وما يسعدك قد يُقيّدني، وما تختاره بقلبك الحرّ، أتركك فيه حرًّا كريمًا.
دعنا لا نحاول أن نُمسك الريح، ولا نُقيد الطيور،
فبعض الأرواح لا تُحب الأقفاص حتى لو كانت من ذهب.
وبعض القلوب لا تُزهر إلا في فضاء الحرية... حيث لا حواجز، ولا شروط، ولا توقّعات تعلو فوق إنسانيتنا.
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
[الأنعام: 164]
لكلّ منا شأنه وأمره... لا ينبغي لأحدٍ أن يحمل عبء شكل الآخر أو اختياراته، فكلٌّ يُحاسب على بصيرته، وكلٌّ يهتدي في طريقه.
لا نحتاج إلى نسخٍ أخرى من بعضنا، بل نحتاج إلى أن نتقبّل بعضنا كما نحن، بلا تشذيبٍ أو تزويق، بلا أقنعة أو تزييف.
الحياة أقصر من أن نقضيها نحاول إصلاح "الآخر" بما يلائم "أنا"...
فلنكن ببساطة ما نحن عليه،
ونسمح للآخرين أن يكونوا كما هم.
نُحبهم كما هم، أو نتركهم بسلام.
كن رقيقًا كالماء... دعني أكون كما أنا
واصغِ إليّ حين أختار الصمت، فالصمت لغة لا يُتقنها إلا من أحبّ بعمق.
ولا تجعلني مشروعا للتعديل، فأنا لست ناقصًا... بل مُكتمل بما فيّ وما ليس فيّ.
"إذا لم يكن صفوُ الودادِ طبيعةً
فلا خيرَ في ودٍّ يجيءُ تكلّفَا"
– بيت آخر للشافعي، كأنما كُتب ليكون ختام هذا المقال: الصفاء لا يُصطنع، والقبول لا يُفرَض.
لا أحد يملك مفاتيح روحك سواك، ولا أحد يملك الحق في هندسة مشاعرك على هواه.
دع القلوب تمضي حيث السلام، ودع الأرواح تختار من يشبه رقتها، أو يحتمل اختلافها.
فنحن لا نُخلق لنُرضي الجميع، ولا خُلقتَ أنت لتكون صورة عني.
يكفي أن نحيا بصدق… أن نكون أنفسنا دون خجل،
وأن نُدرك أن القبول الحقيقي لا يحتاج إلى تعديل، بل إلى محبة خالصة.
فأنا أنا… وأنت أنت…
وما بين المسافتين، تُولد أجمل العلاقات: تلك التي لا تُقيّد، ولا تُفسّر، ولا تُطالب… بل تُزهِر فقط.
في النهاية، ليست كل الطرق تلتقي...
وليست كل اللقاءات قدَرًا دائمًا...
لكن الاحترام يبقى، والودّ لا يُشترط له حضور دائم.
أنا أنا... وأنت أنت
وبين "أنا" و"أنت"
تتنفّس الحياة، ويكتمِل الوجود.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
6 + 12 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.