بقلم محمـــد الدكــــرورى
الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه، أعلم الأمة بالحلال والحرام، والذي أسلم وهو في الثامنة عشرة من عمره وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، إلا أنه خلال هذه الفترة القصيرة استطاع أن يسطر أمجاده المشرقة على صفحات التاريخ البيضاء، حيث أفنى حياته في الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، حتى أتاه اليقين من ربه.
معاذ بن جبل بن عمرو بن عائذ، السيّد الإمام أبو عبد الرّحمن الأنصاري الخزرجي، كنّي بأبي عبدالرحمن نسبة لولده عبد الرّحمن ، وصفه الواصفون بأنَّه كان طويلا حسنا جميلا حسن الثغر عظيم العينين ، وعندما أسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه سيد الخزرج الذي طلب من قومه أن يسلمـوا فأسلم الخزرج ومعهم معاذ رضي اللـه عنه
وقد اعتنق معاذ الإسلام وهو ابن ثماني عشرة سنة، وبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع من بايعه من الأنصار بيعة العقبة الثانية، وكان شابّاً يافعاً، ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين معاذ بن جبل وعبدالله بن مسعود، وذكر ابن هشام أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قد آخى بينه وبين جعفر بن أبي طالب ذي الجناحين.
وكان معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه شديد الكره للأصنام، يحتقرها ويهوّن من شأنها عند أهلها؛ ليدركوا أنّها لا تستحقّ العبادة، فقد ذكر ابن هشام في السيرة أنّ عمرو بن الجموح قبل أن يسلم كان له صنم في داره من خشب يقال له مناة، فلمّا أسلم فتيان بني سلمة، ومنهم معاذ، جعلوا يدخلون على صنم عمرو فيأخذونه ويطرحونه في بعض حفر بني سلمة، وفيها قاذورات الناس وأوساخهم منكساً على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال ويلكم من عدا على آلهتنا هذه الليلة ؟
ثمّ يغدو يلتمسه حتّى إذا وجده غسله وطهّره وطيّبه، ثمّ قال: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينّه، فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه، ففعلوا به مثل ذلك، فيغدوا فيجده بمثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطّهره ويطيّبه، ثمّ يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به كما فعلوا ، فلمّا أكثروا عليه استخرجه من حيث القوّة يوميّاً، فغسله وطهّره وطيّبه، ثمّ جاء بسيفه فعلّقه عليه ثمّ قال: إنّي والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السّيف معك .
فلمّا أمسى ونام عمرو عليه، أخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلباً ميّتاً فقرنوه به بحبل ، ثم ألقوه ببئر من آبار بني سلمة، فيها براز الناس، ثمّ غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الّذي كان به، فخرج يتبعه حتّى وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلب ميّت، فلمّا رآه وأبصر من شأنه، كلّمه من أسلم من رجال قومه، فأسلم يرحمه الله، وحسن إسلامه .
ولئن كانت شمس النبوة قد أشرقت على أرض الجزيرة ، فبددت ظلام شركها، وجعلت ليلها كنهارها، فإن الصحابة كانوا النجوم التي تعلقت بتلك الشمس، ودارت في فلكها، واقتبست من نورها، فإذا بالإسلام يتحول إلى واقع منظور، وإلى مجتمع متحرك، وإن تلك النجوم لا تـزال تتألق وتشرق وتنشر نورها على الدنيا، وإن من أعظم واجباتنا أن نتتبع أخبارهم، وأن ننشر على الدنيا عبير سيرتهم العطرة، وأن نقدمهم للبشرية كلها قدوة ومُثلاً عليا ، خاصةً وأننا نعيش زماناً قلت فيه القدوة من ناحية، واعتزت فيه الأمم والدول برجالها وقاداتها من ناحية أخرى .
ومع أنه لو وضع هؤلاء إلى جوار عظمائنا ورجالنا لكانوا بمثابة الشمعة التي جاءت لتضيء في حضرة الشمس في رابعة النهار، هذا إن أحسنا الظن بهم ، أي بهؤلاء الذين تفخر بهم أممهم ودولهم ، إذ أن البشرية اليوم تعظم وتكرم بناءً على المبادئ التي ارتضتها لنفسها، وقد اختلت عندها القيم واضطربت عندها الموازين، فقدم التافهون والفارغون والساقطون ليكونوا القدوة والمثال، وشتان شتان بين نور السها وشمس الضحى .
نعم إنه شاب أسلم في الثامنة عشرة من عمره وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، ففي ليلة من ليالي مكة، الليل دامس، والصمت مخيم، والظلام شامل، والسكون يضفي على الخيام في منى هيبة وإجلالاً ووقاراً، وإذ بكوكبة مضيئة من الأنصار رضي الله عنهم، يتسللون بين خيام منى تسلل القطا، يتلفتون وكأنهم قد سرقوا الإيمان سرقة، إلى أين أيها الأخيار الأطهار؟ إلى العقبة ، لماذا؟ لمقابلة النبي صلى الله عليه وسلم.
من أجل ماذا؟ من أجل البيعة ، ويلتقي هذا الصحب الكريم بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون له: على ما نبايعك يا رسول الله؟ فيقول النبى الكريم صلى الله عليه وسلم "تبايعوني على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب ، وعلى أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم وأزواجكم ولكم الجنة " .
فيقول البراء بن معرور رضي الله عنه "والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أسرنا، فبايعنا يا رسول الله فإنا والله أهل الحرب وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر " ويقطع القول أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه، فيقول للنبى الكريم صلى الله عليه وسلم: " يا رسول الله! إن بيننا وبين القوم ، أي: اليهود حبالاً ، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن أظهرك الله جل وعلا أن ترجع إلى قومك وتدعنا .
فقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: " بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم " فقال البراء بن معرور : " ابسط يدك يا رسول الله نبايعك " وبسط النبى الكريم صلى الله عليه وسلم يده الكريمة، يمينه المباركة، وامتزجت القلوب والأيدي في مهرجان حب وولاء لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً، ومن بين هذه الأيدي الكريمة تمتد يد صغيرة وضيئة لشاب كريم المحيا، براق الثنايا، يبهر الأبصار بهدوئه وسمته، فإذا ما تكلم ازدادت الأبصار انبهاراً وتقديراً وإجلالاً واحتراماً.
هذه اليد الكريمة المباركة تمتد من وسط هذه الأيدي الكريمة لتبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية، أتدرون يد من هذه؟ إنها يد مقدام العلماء، إنها يد إمام الحكماء، إنها يد سيد الدعاة الأتقياء، إنها يد القارئ القانت، إنها يد المحب الثابت، إنها يد السهل السري، إنها يد السمح السخي، إنها يد معاذ بن جبل ، وما أدراك ما معاذ؟!
إنه الشاب الذي نقدمه اليوم للشباب قدوة، إنه الكوكب الذي نقدمه اليوم للبشرية مثلاً أعلى، الذي أسلم في الثامنة عشرة من عمره، وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، وبالرغم من ذلك أقول: إنه خط هذا المجد على جبين الزمان، كان غرة في جبين الإسلام، وكان تاجاً بين الصحب الكرام، وكان شامة وعلامة، وكان شعلة من شعل الهداية، وكان داعية من دعاة الحق، إذا تكلم كأنما يخرج من فيه لؤلؤاً ونوراً.
ونام معاذ بن جبل ذلكم الشاب الوضيء الكريم المحيا، البراق الثنايا، الفقيه العلم، نام على فراش الموت في الثالثة والثلاثين من عمره، وينظر إلى أصحابه من حوله ويقول: " انظروا هل أصبحنا؟ فيخرجون ويقولون: كلا ، فيسألهم مرة أخرى: انظروا هل أصبحنا؟ فيرجعون ويقولون: نعم ، لقد أصبحنا، فيقول معاذ بن جبل أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار " .
معاذ الشاب الذي نشأ في الإسلام، شاب نشأ في عبادة الله، وعلى طاعة الله، أسلم يا في الثامنة عشرة، وهاهو الآن يسلم الروح إلى خالقها جل وعلا في الثالثة والثلاثين، حياته كلها شرف، كلها فخر، كلها عزة، كلها طاعة، ينام على فراش الموت، ويقول: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار.
ثم جعل يقول: مرحباً بالموت مرحباً، زائر جاء بعد غيبة، وحبيب جاء على فاقة، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك ولكني اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنني لم أحب الدنيا لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر ، وفاضت روحه الطاهرة ليلقى الأحبة محمداً صلى الله عليه وسلم ، وصحبه، رضي الله عن معاذ، وصلى الله على أستاذه ومعلمه النبى الكريم .
إضافة تعليق جديد