بقلم / محمــــد الدكــــرورى
من الآداب الشرعية التي أدب الله عز وجل بها عباده المؤمنين، هو أن أمرهم أن لا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأنسوا أي يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده لإيناس من في البيت وإزالة الوحشة من نفوسهم، ولتمكينهم من الاستعداد لاستقبالهم، حتى لا يفاجئوهم على حالة لا يحبون أن يراهم عليها أحد، ولهذا فإن عليه أن يستأذن ، وكذلك على الذي يريد الزيارة أن يستأذن ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا رجع ، فيقول الله عز وجل ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ سورة النور .
ولا شك أن هذا الأدب يبين فعلاً رغبة الشريعة في هذه الرفعة والمكانة ، والإنسان صاحب غرائز وشهوات وميول ورغبات، والله يعلم ذلك، وحينما حرم الزنا، حرم دواعيه من النظر والخلوة والتبرج، وكل ما يؤدي إليه ، ومن المعلوم خطورة النظر في المجتمع الإسلامي، وإنه إذا أطلق يؤدي إلى الوقوع في المحرمات، ولذلك كان شأنه خطيراً، فنزلت أحكام الاستئذان لمعالجة قضايا البصر.
وإن شريعة ربكم خير شريعة بين شرائع الناس أجمعين، ودينكم أحكم دين،ألا يكفي أن الذي شرعها ونظمها وتعبدنا بها هو اللطيف الخبير؟ وهو الذي يعلم ما يصلحنا وما يسعدنا،فما بال أقوام بهروا بحضارة مادية أو تقاليد اجتماعية فتناسوا عظم هذه الشريعة ونسوا أن يطبقوها في كل شئون حياتهم ، وفي تشريع هذا الأدب ودقة تنظيمه ما يدل على عظمة هذا الدين الذي اعتنى أشد العناية بخصوصية الفرد المسلم، ولنا أن نتخيل مجتمع خلا من هذا الأدب كيف تنتهك فيه الخصوصية الفردية ويُتكشف فيه على الأعراض .
وأدب الاستئذان ليس مجرد أدب يلتزم به الفرد إن شاء بل هو دين يتعبد الله به العبد المؤمن ويعلم أنه إن لم يتقيد به فإن عليه إثم ترك هذا الأدب،بل أن الإسلام يهدر عين من تلصص بالنظر إلى عورات أهل بيت وهم لا يعلمون ، ويبدأ الاستئذان وتعلمه والتعود عليه من البيت فيقول الله عز وجل فى كتابه الكريم .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )
فهذه الأية تنظم الحركة داخل البيت فقبل صلاة الفجر ووقت الراحة في الظهيرة وبعد صلاة العشاء ، ولاينبغي للولد ذكراً كان أو أنثى أن يدخل على والديه بغير استئذان، وكم نرى ونسمع أن الأولاد في هذه الأيام بعيدون عن هذا الأدب فتجد الولد يأتي ويدفع الباب على والديه في أي وقت من الأوقات وكم تحدث من الإحراجات والمضايقات بسبب عدم تربية الأولاد على هذا الأدب ، وإذا وجد الولد أن الباب مغلق أخذ يضرب عليه مصراً أن يُفتح الباب لأنه ما تعلم أن يستئذن وقد يؤذن له وقد لايؤذن .
ولذلك ينبغي على الأباء أن يعودوا أولادهم على الاستئذان في هذه الأوقات فإذا دخل عليهم الولد ولو كان الباب مفتوحاً فإنه يؤمر بالرجوع والاستئذان ومع تكرار هذ الأسلوب يتعود الولد على الاستئذان ثم يؤذن له كثيراً ولكن لابد من عدم الإذن له في بعض الأحيان وإفهامه إن يعود بنفس طيبة على أن يؤخر مالديه من موضوع لوقت آخر، ويُلحظ هنا أن الاستئذان في الأية في الأوقات الثلاث للأطفال الذين لم يبلغوا الحلم وملك اليمين وهم العبيد والجواري وفي زماننا لايوجد ملك اليمين لكن هناك الخادمات والخدم والسائقين ونحوهم .
وأود أن أنبه أن البعض يعامل إخواننا من هذه الفئة كملك اليمين من حيث أحكام الكشف والغطاء والتساهل في الحديث وأقول بأن هذا لاينبغي فالخادمة هي امرأة أجنبية على الرجل يجوز له أن يتزوج بها وبالتالي فإنه يحرم منها مايحرم عليه من أي امرأة أجنبية من النظر إليها أو مخالطتها والتباسط معها، وكذا الأمر بالنسبة للسائق مع النساء فهو رجل أجنبي ليس بمحرم يعامل كما يعامل أي رجل أجنبي في الشارع فلا يتباسط معه النساء في الكلام وكثرة التعامل المباشر معه، وهؤلاء شأنهم شأن الأجانب يستأذنوا في جميع الأوقات ، أما الخادمة مع النساء فإنها تستأذن في هذه الأوقات الثلاث، وكذا الرجل من سائق أو خادم مع الرجال، أما بعد أن يبلغ الأطفال الحلم فإنهم يستئذنوا في سائر الأوقات .
وعن أبي موسى حين استأذن على عمر بن الخطاب ثلاثًا فلم يؤذن له فرجع، فقال عمر بعد ذلك: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له ، فطلبوه فوجدوه قد ذهب، ثم جاء بعد ذلك فقال له عمر: ما أرجعك؟ فقال: إني استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي، وإني سمعت رسول الله يقول: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فلينصرف"، فقال عمر: "لتأتيني على هذا بالبينة وإلا أوجعتك ضربًا" رواه البخارى .
وهذا أسلوب كان يتبعه عمر بن الخطاب حتى لا يزين لكل امرئ أن يقول قولاً ثم يقول: إن رسول الله هو الذي قاله، مع حسن الظن بخير خلق الله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن كان هذا مسلكه، فذهب أبو موسى إلى ملأ من الأنصار فذكر لهم ما قاله عمر فقالوا: "لا يشهد لك إلا أصغرنا: أبو سعيد الخدري، فذهب معه فأخبر عمر بذلك فقال عمر: ألهاني الصفق بالأسواق"، أي أن خروجي للتجارة والعمل كان يفوت عليّ أن أسمع بعض ما سمعتم.
ألا وإن مما يقع فيه بعض الناس من مخالفات أدب الاستئذان أن بمجرد أن يرى سيارة الرجل أمام منزله ظن أن هذا إذن له يوجب أن يستقبله رب الدار فيطرق باب العمارة الخارجي فإن لم يجب صعد وطرق باب شقته فإن لم يجب تمنى لو كان معه من يعينه على خلع الباب،بل وقد يحمل في نفسه بغضاء على الرجل لماذا لم يأذن له، وبعضهم إذا خرج صاحب الدار واعتذر له وطلب منه الرجوع اعتبرها كبيرة من الكبائر وشنع على الرجل مع أن الله عز وجل يقول:( وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) إلا يريد المستأذن هو أزكى لكم .
وقد يكون المرء في حال لايستطيع معها فتح الباب فضلاً عن أن يستقبل ضيوف، فينبغي للمرء المسلم أن يستأذن ثلاثاً فإن لم يؤذن له سواء بعدم الإجابة أو بالاعتذار عن استقباله فليرجع بنفس طيبة وليستحضر هو أزكى لكم،ولايفهم أن الاستئذان هو أدب خاص شرعه الإسلام في الدخول على الناس فقط بل هو أدب عام في حال استخدام أي حق للأخرين .
والإستئذان هو أدب رفيع يدل علي حياء صاحبه وشهامته، وتربيته وعفته، ونزاهة نفسه وتكريمها عن رؤية ما لا يجب أن يراه عليه الناس، أو سماع حديث لا يحل له أن يسترقه دون معرفة المتحدثين، أو الدخول على قوم وإيقاعهم بالمفاجأة والإحراج، ومع تقدم الحضارة، وصناعة البيوت المقفلة، والأبواب المحكمة ، وما زال هناك من يدخل دون سلام، أو يغشى غرفة غيره، أو يقتحم مجلسا دون إعلام واستئذان .
ثم إن رسول الله نفسه وهو المرغوب في دخوله البيوت والجلوس والاجتماع معه لما في ذلك الخير والعلم والتأدب ، هو نفسه كان يستأذن ثلاثًا، فإن لم يؤذن له رجع، وفي ذلك ما رواه أحمد عن أنس قال: " استأذن النبي على سعد بن عبادة فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، فلم يسمع النبي، ففعل ذلك النبي ثلاثًا، ورد سعد ثلاثًا، فرجع النبي فتبعه سعد وقال: يا رسول الله: بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلا وهي بإذني، وإنما أردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيبًا فأكل ثم قال: " أكل طعامك الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون". رواه أبو داود والنسائي.
ومن آداب الإسلام للزائر أن لايقف قبل الباب حال الاسئذان بل يقف عن يمينه أو شماله وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ وَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ،وليس معنى هذا أنه مع وجود الستر أو الباب يحل للمرء الوقوف أمام الباب لأنه قد يفتح الباب فتكون أمامه مالا يحب صاحب البيت أن يراه الزائر،ثم يستأذن ثلاث مرات فإن أُذن له وإلا رجع .
وأخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن رجلاً ينظر بفتحة الباب، وكان في يده مدراة يسوي بها شعره لها حد، فأخبر الرجل أنه لو علم أنه ينظر إليه لأدخلها من الباب ففقأ عينه، ولذلك نص العلماء على أن الذي ينظر من خرم الباب على شخصٍ في بيته وملكه بغير إذنٍ، فأدخل، صاحب البيت، شيئاً في الثقب ففقأ عين الناظر أنها عينٌ مهدرة لا دية فيها ، وكل ذلك من حرمة البيوت ، والشريعة هذه تريد حماية حرمة البيوت، وتريد أن يكون المجتمع نظيفاً، والناس يعيشون في عفة، وتمنع الاطلاع على العورات، وتحفظ العورات .
فهذه العورات محفوظة في الشريعة، وليست فقط عورة البدن، بل كل ما يمكن أن يكون عورة، فللطعام عورة، وللأثاث عورة، وللباس عورة، وللبدن عورة، والإنسان يحب أن يطلع عليه الناس، وهو في حالة تجمل متهيئاً لنظرهم، ولذلك، فإن الناس لا يريدون أن يطلع شخصٌ على بيوتهم، وهي في غير ترتيب، ولذلك إذا استأذن شخصٌ على إنسان في بيته وفي غرفته، وهي ليست مرتبة سارع إلى ترتيبها.
ففي الاستئذان مراعاة لمشاعر الناس الذين لا يريدون إظهار أشياء، ليس من المناسب أن يطلع عليه الآخرون، وربما يكون في البيت بقايا طعام، ربما يكون إنسان فرغ لتوه من طعامه، ولا يريد من الشخص الغريب أن يدخل عليه وفي بيته بقايا طعام على سبيل المثال ، فالاستئذان يفيد ، فيرفع بقايا الطعام قبل أن يدخل الضيف، إذ ليس من المستحسن عنده أن يدخل عليه ضيفٌ فيرى البقايا أو أوساخ أو أشياء غير مرتبة، أو يرى في ثوب نوم أو بقميص داخلي، ولو كان ساتراً للعورة، لكن الإنسان لا يحب أن يراه غيره في هذه الحالة، ولذلك الاستئذان فيه مراعاة لمشاعر الناس، بالإضافة إلى قضية ألا يطلع أحد على العورة، وألا تثور الشهوة، وألا تقوم الفتنة، وألا يقع الزنا.
إضافة تعليق جديد