بقلم / محمــــد الدكـــــرورى
إن أشرف بناء في قلوب المسلمين هو الكعبة المشرفة، وإن بقعتها أقدس البقاع ، فإليها تهوي أفئدتهم، وإليها تحن نفوسهم، وبمشاهدتها تتحرك مشاعرهم، وترق قلوبهم ، فكم من دعوات رفعت حولها ، وكم من عبرات سكبت أمامها ، وكم من قلوب تقطعت تريد بلوغها والتعبد عندها ، ويُرخّص المؤمن كل شيء من الدنيا ليصل إليها.
وإن عظمة الكعبة المشرفة نابعة من عظمة الله تعالى الذي أمر بتعظيمها، ورفع قدرها على سائر البنيات، ورغم تواضع بنائها، فلا تدانيها أفخم المباني وأروعها منذ أقدم العصور إلى عصرنا الحالي، وحتى يرث الله الأرض ومَن عليها، وهذا السبب هو الذي جعل العرب يحجمون عن حج كعبة أبرهة التي بناها وجعل فيها قبابا من ذهب.
ولكنهم فضّلوا عليها الكعبة المشرفة ، رغم جاهليتهم وشركهم، إلا أنه قد تأصّل في نفوسهم ورسخ في وجدانهم تعظيم هذا البيت وتلك البنِية ، والكعبة ، هي ذلكم البناء القديم، والبيت العتيق، وهو أول بيت وضع للناس، وأول بناء للعبادة بُني على الأرض، رفع الخليل وابنه عليهما السلام ، بنيانَه، ووضعه على أساس كان موجودا قبله.
ولم تسلم الكعبة المشرفة على مدار التاريخ من محاولات الهدم، أو التشويه، أو نشوب الحرائق بها، والكثير من الناس لا يعرف أن الكعبة المشرفة تعرضت لمحاولات كثيرة للهدم، وليس الأمر هو موقف جيش أبرهة الأشرم ، ومحاولاته هدم الكعبة، فقط، ولكن الذى يبحث فى التاريخ يجد أن الكعبة مرت بعدة محاولات، أو حوادث لهدمها، سواء كانت جراء الحرائق أو السيول، قبل أو بعد أبرهة الأشرم .
وكانت أقدم محاولة لهدم الكعبة بدأها أزماع تبع أسعد أبى كرب، وابنه حسان بن أبى كرب، ونقل حجارتها إلى اليمن، ليكون البيت اليمنى الجنوبى كعبة محجوبة للناس بدلا من الكعبة المشرفه، وكان الدافع وراء هذا الفعل هو المصلحة الاقتصادية، فكانوا يريدون أن تنصرف التجارة إليهم، ولكن هذه المحاولات كانت فاشله .
وثانى محاولات هدم الكعبة هى محاولة أبرهة الأشرم لهدمها، ونقل شعائر الحج إلى البيت الفخم الذى أقامه فى صنعاء وقد تقدم نحو الكعبة غازيا يدعم هيبته الفيل محمود ، وسار قادما وقد ذعر أهل الحرم من مقدم هذا الجيش الذى لا قبل لهم بوقف زحفه وانزعجت قريش وسيد مكة عبد المطلب ابن هاشم، لكن الله أهلكهم وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول .
ولكن قد هُدمت الكعبة بالفعل قبل البعثة النبوية بخمس سنوات، حين قامت قريش بهدمها حتى تجدد بناءها، حيث كانت السيول قد أثرت كثيرا فيها فرغبت قريش فى هدمها وتجديد بنائها ، وكانت المرة الثانية حين قام يزيد بن معاوية، بحصار مكة لتحصّن عبد الله بن الزبير فيها، وذلك فى شهر صفر سنة أربع وستين هجرية ,
فحاصروا ابن الزبير وقاتلوه ورموه بالمنجنيق، واحترقت من شرارة نيرانهم أستار الكعبة، وتهدم سقفها، فقام ابن الزبير بعد ذلك بهدمها، وإعادة بنائها من جديد إلا أنه أضاف إليها ستة أذرع وجعل لها بابين، وأدخل فيها الحجر.
وأما حادثة هدم الكعبة التالية وقعت فى خلافة عبد الملك بن مروان، وكان ذلك فى سنة ثلاثه وسبعين من الهجره ، حيث خرج الحجاج بن يوسف بجيش لإخضاع أهل مكة لخلافة بن مروان، وأخذ يرمون بالحجارة والمنجنيق فى كل مكان، فأصابت الكعبة، فتهدم جزء منها ،ولم يقصد أهل الشام وأمرائهم، سواء يزيد أو الحجاج أو حصين بن نمير، الكعبة بعينها وإنما مقصدهم محاربة أهل مكة.
وبعدها بمئات السنين نجح القرامطة فى هدم الكعبة، فى موسم الحج لسنة 317 هجرية، حيث كانت الطامة الكبرى حين أقدم أبو طاهر سليمان ابن الجنابى وهو من القرامطة، ودخل مكة يوم الترويه، وعرى كسوه البيت وأقلع بابه، واقتلع الحجر الأسود، وأخذه معه إلى البحرين حيث كانوا يسيطرون عليها، وتوفى فى رمضان عام 332هـ، ثم تولى بعده أخوه سعيد سليمان بن الجنابى، وهو الذى رد الحجر الأسود إلى العباسيين ونبذ المذهب والعقيدة القرمطية.
وتهدمت الكعبة مرة أخرى حين أغرقت السيول مكة سنة 1040 للهجرة فأثّرت كثيرا على الكعبة المشرفة، فأمر حاكم مصر محمد على باشا بهدمها، وتجديد بنائها بغرض تقويتها، وجرى العمل على ذلك لمدة تقارب نصف سنة وهو هذا البناء الماثل اليوم.
فلا يوجد مكان في العالم، يجب على جميع المسلمين أن يأتوه في عمرهم مرة واحدة على الأقل إلا مكة، ولا يوجد بنيان في العالم، يجوز الطواف به عبادة لله، إلا الكعبة، ولا يوجد حجر في العالم، يجوز مسحه تعبدا، إلا الأسود واليماني، ولا يوجد ماء في العالم يشرب تعبدا، وتؤجر على شربه، غير ماء زمزم ، وهذا البيت تضاعف فيه الصلوات، فكل صلاة مشروعة في المسجد تضاعف فيه أكثر من مائة ألف صلاه ، لمن أخلص لله.
إضافة تعليق جديد