الصداقة... وشائج الأرواح وعطر الأيام بقلم د/سماح عزازي

مقام الصداقة في الوجدان الإنساني
في هذا العالم المتغيّر، حيث تتبدّل الوجوه كما تتبدّل الفصول، وتذوي العلاقات تحت وطأة المصالح العاجلة، تبقى الصداقة الحقيقية واحدة من أثمن الكنوز التي يهبها القدر للقلوب الصادقة. ليست الصداقة عقدًا مكتوبًا، ولا وعدًا عابرًا، بل هي شعور يتغلغل في الروح، وميثاق صامت يُعقد بين قلبين جمعتهما الألفة، ووحّدهما الصدق، وربط بينهما خيط من النقاء لا تقدر عليه رياح الزمن.
"صديقك من صدَقك لا من صدّقك." — مثل عربي أصيل
صديق القلب... لا صديق الظرف
الصداقة ليست بكثرة اللقاءات، ولا بطول السهرات، بل بما تتركه من أثر طيب في القلب، حين يغيب الصديق ولا تغيب ذكراه. فالصديق الصادق مرآة الروح، يرى عيوبك دون أن يفضحها، يحتمل زلاتك دون أن يُحاسبك، ينصحك دون أن يجرح، ويقف معك دون أن تُناديه.
قول الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:
"احذر عدوك مرة، واحذر صديقك ألف مرة، فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة."
لكننا هنا لا نتحدث عن صديق المناسبات، بل عن ذلك الرفيق الذي تشعر أنه امتداد لقلبك، يسمع صمتك، ويجبر كسرك، ويصون سرك.
الصداقة في التراث العربي
حفل الشعر العربي القديم بروائع في وصف الصداقة
ومقامها، حيث كانت معيار الرجولة والوفاء.
ومن أجمل ما قيل:
الشافعي يقول:
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلُّفًا
فدعه ولا تُكثر عليه التأسُّفا
ففي الناسِ أبدالٌ، وفي الترك راحةٌ
وفي القلبِ صبرٌ للحبيب وإن جفا
هنا يُحذّر الإمام من صداقة المصلحة،
ويُرشد إلى الكرامة في الودّ، والتأنّي في الصحبة.
مواقف لا تُشترى
الصداقة الحقة لا تُشترى ولا تُستجدى، بل تُهدى، وتُختبر في المواقف. في الفرح يُبارك لك دون حسد، وفي الحزن يُسندك دون تأفّف، وفي الغياب لا ينساك، بل يظل يدعو لك كأنك بين يديه.
وقال المتنبي في معنى مشابه:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكتهُ
وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
فالكريمُ صديقٌ بطبعه، يُقابل الودّ بودّ، ويُبادل المعروف بالجميل.
الصداقة جوهر لا مظهر
ليست الصداقة في الصور والتباهي، بل في جوهر الوفاء، في ذاك الذي لا يفرح لسقوطك، ولا يتخلّى عنك حين تتعثّر. هي علاقة قائمة على النقاء لا النفع، وعلى الإخلاص لا الانتفاع.
> ومما يُروى عن أعرابي سُئل عن الصداقة، فقال:
الصديق من إذا حضرتَ غاب همّه، وإذا غبتَ حضر دعاؤه، وإذا افتقرتَ أظهر نُبله.
الصديق كنز لا يُقدّر
الصديق الوفيّ هو نعمة من الله لا تُقدّر بثمن. فكم من روح تقاطعت معك في لحظة صدق، فغدت موطناً لا تغادره حتى وأنت بعيد! وكم من صداقة صنعت لنا أمانًا من نوعٍ خاص لا تُعطيه العائلة، ولا تُجيده العلاقات العابرة.
فيا من تملك صديقًا وفيًّا... تمسّك به، وارضَ عنه، وادعُ له. فالصداقة ليست كثرةً، بل قيمة، ومن ملك صديقًا صادقًا، فقد امتلك كنزًا لا يزول.
"المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالل." –
حديث شريف
قال الإمام الشافعي:
"سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها صديقٌ صدوقٌ صادق الوعد منصفا."