رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الخميس 20 يونيو 2024 2:40 م توقيت القاهرة

العجوز والبحر قصة قصيرة .. بقلم مصطفى حسن محمد سليم

كل ما يمر بعقلك من ذكريات مرت عليك في حياتك قد يمحوه الزمن في يوماً ما، ربما قد ترحل من داخلنا العديد من الذكريات، ولكن من المؤكد أن الذكريات السيئة هي فقط كل ما يتبقي بداخلنا .....
مر علي شتاء هذا العام بفترة عصيبة، لم يكن الرزق وفير فيها مثل كل سنة، ربما كان ذلك بسبب العواصف الشديدة والجو الممطر والنوة التي أغرقت المركب في ذلك اليوم، وبات من الواضح أن الديون التي تكاثرت علي قد تصبح كابوس لي مع مرور الأيام القادمة ولكني لن أستسلم لذلك، وهذا ما سيدفعني أن ابذل المزيد من العمل علي مدار الأيام القادمة لسداد هذه الديون المتراكمة، دار هذا الحديث في رأس حامد وهو ينظر إلي الشاطئ وهو يبتعد عنه، لقد مر عليه ذلك اليوم سريعاً وقد شارفت الشمس فيه علي المغيب، ولكن ذلك لم يمنعه من السعي خلف رزقه، مسح حامد بعض حبيبات العرق التي تجمعت علي جبينه وهو يزفر في عمق من حرارة الجو التي يشعر بها في ذلك اليوم الخانق الحرارة، وعندما أختفي الشاطئ عن عيونه أمسك بحقيبته وهو يبحث فيها عن زجاجة الماء وهو يبعد بيديه تلك المعلبات التي امتلأت بها حقيبته وهو يمسك في يده بكيس من الخبز وهو يتناول منه لقمة صغيرة، وبدأ يسبح في ذاكرته مرة أخري وتوقفت ذاكرته عندما كان طفل صغير وهو يقف أمام أبيه شيخ الصيادين والدموع تتساقط من عينيه، بعد أن عنفه أبوه علي فشله في المدرسة، ومن خلفه صوت أمه يتعالي من داخل غرفتها ده مش نافع في الدراسة يا سعيد باين عليه جنية البحر ندهته خده معاك البحر أحسن يمكن ينفع، وبدأت صورة البحر تتراقص أمام عينيه كما يحدث له دائماً، كان كل يوم يهرب من المدرسة ويذهب للبحر ينتظر عودة الصيادين بالرزق الوفير وصورة المراكب وهي تتهادي علي صفحة مياه البحر تصيبه بالجنون وهي ترسو علي الشاطئ، شيء ما بداخله لا يعرفه يدفعه نحو البحر، ربما جنية البحر التي تقول أمه عنها، وربما حياة المخاطر التي يعشق سماعها من حكاوي الصيادين عن البحر والصعوبات التي يواجهونها كل يوم، أفاق حامد من شروده سريعاً وهو يتذكر فجأة صوت أبوه الجهوري وهو يصفعه بكل قوته بالقلم أنا ح أشغلك معايا في البحر بس عارف لو مفلحتش ح احبسك في البيت زي البنات، أنت عاوز الصيادين يضحكوا عليا لما يقولوا ابن شيخ الصيادين فاشل، ربما الدموع الساخنة التي تتقافز علي وجهه من أثر الضربة التي صفعه أبوه له قد أختلطت بالفرحة العارمة التي تجتاح جوانبه عندما عرف أنه سيحقق حلمه بالفعل، ومن الصباح الباكر حاول أن يثبت لي أبوه أنه قد خلق ليكون صياد وأنه كان علي حق عندما أختار طريق البحر، وتمر الأيام سريعة ويموت أبوه بعد غرقت به المركب في يوم عاصف، وها هو يري أبنه يعيد نفس التجربة عشقه للبحر مثله عندما كان في نفس سنه وهو صغير، وبدأ حامد يستنفر كل حواسه علي أثر سقوط قطرات المطر علي وجهه وهو يرفع رأسه للسماء وهو ينظر إليها بعيون خبيرة، ثم يرنو ببصره إلي الشاطئ الذي أختفي وقد أحاطت به مياه البحر من كل جانب، ثم زفر في عمق قائلاً من الصعب الرجوع الآن بعد أن بذلت كل ذلك المجهود في الابتعاد عن الشاطئ، ووقف بداخل المركب وهو يقذف بكل قوته شبكة الصيد وينظر إلي قطرات المطر في ترقب ويده تمسك بغزل الشبكة في قوة وكأنه يناشد البحر أن يأتي له بالخير ويمني نفسه بصيد وفير، وبدأت الشمس تغيب وخيوط الليل الرفيعة تتسلل إلي السماء، وقد بدأ مشهد البحر في الليل مرعب والظلام يحيط به من كل جانب، ولكن ذلك الرعب تلاشي من داخله بسرعة بعد مرور كل هذ العمر عليه في البحر لقد تعود منه علي ذلك، وشعر حامد بتكسير في عظام ظهره من الفترة الطويلة التي مرت علي جلوسه داخل المركب، ثم تنهد في عمق وهو يتمتم في خفوت يبدو أن السن له حكمه، حاول أن يتراجع في مكانه للخلف وهو يشعر بتثاقل في جفونه وبدأ يقاوم ذلك الشعور الذي يصيبه بالخدر، ولكن مع الهدوء الذي يحيط به ورذاذ الماء الخفيف الذي تقذفه صفحة مياه البحر نحو وجهه قد بدأت بالفعل جفونه تتثاقل وسيطر النوم عليه، ولم يشعر بنفسه وهو يستسلم لسلطان النوم كم مر عليه من الوقت، وهو يفتح جفونه في صعوبة وحرارة الشمس مسلطة علي وجهه وصوت صفارات إنذار السفينة العملاقة التي تمر بجواره تنبه أنه أوشك أن يرتطم بها، مد حامد يده نحو جانب مركبه يبحث عن غزل شبكة الصيد ولكنه لم يجدها، وأصابه الاضطراب لعدة لحظات وهو يتسائل بداخل نفسه أين ذهبت شبكة الصيد، وتذكر تحذير الصيادين له من قبل وهم يقولون له أن غزل الشبكة التي معه لن تصمد أمام قوة أي سمكة كبيرة تستقر بداخلها وأنها ستذهب مع ذلك الصيد إلي عمق البحر، وعندما ضحك الصيادين عليه بدأ الحزن يتسلل إلي ملامحه من سخريتهم عليه وهم يستطردون أن تلك الشبكة أصبحت عجوزة مثلك، وبدأت الدموع تتسلل من عينيه وهو يتذكر أبوه وهو يترجاه أن يعود إلي دراسته من جديد، ربما لو كان تم تعليمه وسمع نصيحة أبوه وكان يعمل الآن في أي مهنة أخري غير الصيد لكان له نصيب في أن يعود إلي منزله كل مساء وهو يحمل معه رزق أولاده، وبدأ حامد يحاول التركيز في البحث عن طريق العودة إلي الشاطئ وهو يشعر أن هذه الرحلة هي بالفعل ستكون آخر رحلة له، وعندما سيعود لن يجعل ابنه يترك دراسته ويمر بنفس تجربته، مهما كلفه ذلك من عناء في البحث عن الرزق في أي طريق آخر.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.