كتب /أيمن بحر
القاهرة.. حين يلتقى تاريخ مغرق فى القدم بحداثة جارفة، بعد أن صنّف دليل السفر "الكوكب الوحيد" العاصمة المصرية القاهرة ضمن أفضل الوجهات السياحية لعام 2020. محررة دويتشه فيله عائشة الكيلانى شدت رحالها إلى مصر لمعرفة ما الذي جعل القاهرة مدينة متميزة للغاية مع الدعاء بألا أفقد أعصابى فى منتصف الطريق، توجهت بخطوتى الأولى نحو النفق. هيمن علىّ شعور جارف من السوريالية بسبب شجاعتى فى جو من الرهبة لدخول هرم خفرع ثانى أكبر أهرامات الجيزة بطول 136 متراً. أشعر برقة الهواء وأن درجة الحرارة ترتفع بشكل ملموس فى الممر الضيق بطول 54 مترًا والذى ينتهى بحجرة للدفن ذات إضاءة خافتة. هنا لم أحاول التفكير فى الكتل الحجرية التى لا حصر لها بل فى القاء نظرة إعجاب على تابوت الجرانيت الصلب. بعدها أخذت نفساً عميقاً لتحدى العودة الى ضوء النهار مجددا. حقيقة القيت نظرة على أهرامات الجيزة فى الليلة السابقة، عندما كنت أشاهد عروض بالصوت والضوء. الإضاءة والرسوم المتحركة الهيروغليفية وأصوات الرواة ترددت فى الصحراء. ساعة مرت سريعاً من سحر قصص الفراعنة وعائلاتهم وأدواتهم. فى إطار إخلاصهم الكبير للعديد من الهة مصر القديمة قامت 30 أسرة على مدار ثلاثة آلاف سنة (3100 قبل الميلاد - 332 ميلادية) ببناء الأهرامات والمعابد والمقابر في أنحاء البلاد.
خلال حكم الأسرة الرابعة فى مصر القديمة بنيت أضخم وأشهر أهرامات فى العالم مع تصميم مربع فى الأساس وأسطح ناعمة في القمة. بدأ الملك الفرعونى خوفو مشروع أول وأكبر أهرامات الجيزة تبعه إبنه خفرع ببناء هرم أصغر مشابه إنتهاءً بهرم حفيده منقرع. منذ ذلك الحين تقف هذه الأهرامات الثلاثة الشهيرة فى الجيزة على بعد حوالى 15 كم من وسط القاهرة لتذكرنا بثلاثة أجيال فى المملكة القديمة.
مدينة الجيزة الحديثة (وهى جزء من القاهرة الكبرى) باتت أقرب من الأهرامات الثلاثة، فقط الطرق شديدة الإزدحام هى التى تفصل المدينة المترامية الأطراف عن تلك الصحراء حول الأهرامات حيث يتحرك البشر كالنمل. السيارات والأتوبيسات فى كل مكان والناس على الجمال والخيول تتجه الى المعالم السياحية العظيمة الثلاثة المدرجة على لآئحة اليونسكو كموقع تراث عالمى. إنه ذورة الفصل السياحى فى مصر بالنظر الى أعداد السياح الذين يحيطون بك. إنحرفت عن الزحام الى أن وصلت الى ظل الهرم الأكبر (المعروف بهرم خوفو) حيث إستراحة ممتعة من الشمس المصرية القاسية. إرتفاع البناء يصل الى 139 متراً (456 قدماً) فى السماء. أتأمل فى الكتل الحجرية الضخمة المصنوعة من الحجر الجيرى والجرانيت المتراصة الى ما لا نهاية فوق بعضها البعض.
يقال إن الهرم بنى بأكثر من مليونى قطعة من تلك الأحجار. تركت يدى تنزلق فوق إحدى الكتل الحجرية الملساء وتخيلت كيف تم إستخراجها فى المحجر ونقلها الى هنا عبر نهر النيل. منذ أكثر من 4600 عام إنتهى بناء هرم خوفو وتم تغطيته بالكامل بطبقة من الجير الأبيض. اليوم لم تعد تلك الطبقة البيضاء موجودة لذلك يجب على الزائرين تخيل روعة هذا المبنى الذى لايزال مثيراً للإعجاب.
فى الساعات القادمة، تعلمت أن جميع الأهرامات كانت مقابر للفراعنة مجهزة بكل شئ للسفر الى الحياة الأخرى. فى مصر القديمة، كان البشر يعتقدون أن السماء الزرقاء كانت بحراً يتم عبوره بعد الموت من أجل العيش إلى الأبد، وبالتالي هؤلاء الفراعنة يحتاجون إلى سفن. وجرى حفر خمس حفر طويلة كان من المعروف أنها تحتوى على قوارب يستخدمها الملك خوفو خلال حياته. هذه السفينة عثر عليها فى عام 1954 وأعيد ترميمها بـ 1.224 قطعة خشبية سيتم عرضها فى المتحف الكبير المتاخم للأهرامات الذى سيتم إفتتاحه العام المقبل كما تقول الحكومة المصرية. هكذا يمكن للزائرين تخيل كيف كان المصريون قديماً يخططون لدفن موتاهم.
بعد صباح ممتع فى الجيزة، إتجهت إلى ميدان التحرير وسط القاهرة والذى كان معقل المتظاهرين خلال ثورة 25 يناير عام 2011 التى قادت للإطاحة بالرئيس المصرى محمد حسنى مبارك من منصبه. منذ ذلك الحين إكتسب ميدان التحرير شهرته التى يمكن الشعور بها حتى اليوم.
فى ساحة الميدان تسود الحياة اليومية من ناحية ومن ناحية أخرى يقوم رجال الشرطة المدججين بالسلاح بدوريات فيه على مدار الساعة. هكذا الحال فى مناطق الجذب السياحى. يوجد العديد من الإحتياطات الأمنية مثل تفتيش السيارات وأجهزة الكشف عن المعادن وقوات خاصة وكاميرات مراقبة أيضاً لكننى أشعر بالأمان مع ناس ودودين ومرشدين سياحيين يساعدونك للتغلب على حاجز اللغة ويشعرونى بمزيد من الأمان.
يشرح المرشد السياحي محمد سمارة، البالغ من العمر 35 عاماً تاريخ مصر الحديث لى لم نشهد ثورة فى عام 2011 فحسب، بل فى عام 2013 كانت هناك واحدة أيضاً. كان لكل منهما تأثير قوى على السياحة. وخلال هذه الفترة لم يأت سوى عدد قليل من الزوار الى هنا، أى حوالى 3 إلى 4 ملايين. لمدة ثلاث سنوات لم أتمكن من العمل فى السياحة، لكن كان على كسب أموالى من عمل آخر كموظف فى خدمة العملاء، والآن عاد الحال الى ما كان عليه. كل عام نستقبل حوالى 14 مليون سائح يبدى محمد ثقته فى المستقبل. حالياً، الزوار الألمان والفرنسيين هم الذين يقضون عطلاتهم فى مصر لكن عدد الزوار الصينيين فى تزايد. محمد شغوف بعمله كمرشد سياحى ويحب بلده. درس التاريخ وكان مرشداً سياحياً باللغة الإنجليزية منذ عام 2007. كما كان دائماً يحلم بهذا العمل كوظيفة له.
وعلى بعد خطوات من ميدان التحرير ستجد نفسك أمام المتحف المصرى الشهير والذى يحتوى على حوالى 120.000 قطعة للعرض. اخذنى محمد من غرفة الى أخرى لمشاهدة القطع الفنية، والتى تحكى قصصاً وتوضح رموزاً. ومررنا بتمثال عاجى صغير لخوفو، ولوحة نارمر والتى تعد أشهر اللوحات الفنية فى العالم ومثالاً مبهراً لبدايات نقش اللغة الهيروغليفية على صخور الطمى المتحجر، بالإضافة لمشاهدتنا تحف فنيةأخرى يعود عمرها الى آلاف السنيين.
أستطيع أن أعدّد ما رأيته فى صالات العرض الأخرى لكن أودّ ان القى بالضوء على التحف ذات الصِّلة بالملك الفرعونى توت عنخ آمون وهو أحد أفراد الأسرة الثامنة عشرة التى حكمت مصر على مدار عشر سنوات. توفى هذا الملك بعمر التاسعة عشر، الا أن شهرته الحقيقية ظهرت بعد وفاته. ففى نوفمبر 1922 إكتشف عالم الآثار البريطانى توارد كارتر مقبرته المحفوظة تماماً فى وادى الملوك بمدينة الأقصر، والتى كانت تحتوى على قناع توت عنخ آمون المصنوع من الذهب الخالص والذى بلغ وزنه عشرة كيلو جرامات والمعروضة حالياً بالمتحف المصرى. فما كان منى إلا أن أنظر برهبة لتلك المعروضات المليئة بالذهب والفضة والأحجار الغالية. هكذا أخذت أتجول من صالة لأخرى حتى ظننت أننى شاهدت كل المعروضات حتى وجدتنى أقف أمام أجداد توت عنخ آمون؛ يويا وزوجته تويا. تسبب مظهرهما المحفوظ جيداً من هندام الشعر لمظهر الشفايف والأظافر وعظام الوجنتين بسريان قشعريرة فى عمودى الفقرى. فقد تم إكتشاف مومياء كل منهما فى حالة جيدة جداً والتى تشير الىّ جودة عملية التحنيط، هذا الطقس المصرى القديم والذى يتم على مدار 70 يوماً وبشكل منهجى ليبتدى بنزع المخ ويمتد لسائر الأعضاء الداخلية ثم فرك جسد المتوفى بنبيذ النخيل والروائح العطرية. لتاتى بعد ذلك مرحلة إستخدام الصوديوم لسحب المياه من الجسم وأخيراً لف الأجسام المحنطة من الرأس الى أخمص القدمين فى ضمادات (شاش طبى).
بعد يوم ملئ بالمعلومات أصبح لدى رغبة بعدم القيام بأى شئ سوى الغرق فى تيه أسواق خان الخليلى. هذا السوق الذى يرجع تاريخ تأسيسه لأواخر القرن الرابع عشر، ويعد واجهة جاذبة للسياح. هنا مركز جذب عدد هائل من السياح فى أجواء من بساطة لغة الدعاية التى يقوم بها الباعة لترويج بضاعتهم وهناك وجدت لفائف ورق البردى، وسجاد يدوية الصنع وأكواب مرمر وتوابل عطرية. يتيح هذا المكان إظهار قدراتك فى المساومة على الأسعار مع الباعة حول كل شئ من الأدوية وحتى الملابس. وأظن أننى كنت مستعدة لذلك وإننى أبليت بشكل حسن، وبعيداً عن مخاوفى على ما فى جيوبى، إلا أننى شعرت بأمان وراحة وسط السياح الذين يتحدثون الانجليزية والمواطنون الذين يتحدثون العربية.
عندما وصلت للقاهرة لاحظت على الفور كم هى مزدحمة ومليئة بالضوضاء، هناك إصطدمت بسحابة الغبار الصحراوى التى تحيط بالجو وصوت الآذان الذى ينطلق خمس مرات من المآذن وإختناق الشوارع فى ساعة الذروة. وعلى الرغم من أن زيارة تلك المدينة مرهق الا أنها مبهجة للغاية لأن هناك الكثير من الخبرات التى يمكنك أن تكتسبها من خلال الزيارة.
فى مسافة زمنية قصيرة إستطعت أن أرى غروب الشمس على نهر النيل من نافذة غرفتى، وإستمعت بزيارة غصت بها فى عمق الأهرامات والتقيت وجهاً لوجه مع المومياوات وغمرت نفسى فى حياة المدينة المضطربة. فى القاهرة يلتقى التاريخ القديم بالحداثة فى مزيج مثير للإهتمام.
إضافة تعليق جديد