كتب المهندس احمد الغمري
من اجمل ماقرات هذا الصباح قصة عزة لمن يتعظ يحكي ان صاحب أحد المطاعم وقف ينظر لصالة الطعام بمطعمه وجدها فارغة .
لم يكن الحال كذلك أبدًا إلى أن تغير تدريجيًا منذ بضعة أيام .
الزبائن لم تعد تاني للمطعم بلا سببٍ واضح !
عاد صاحب المطعم إلى مكتبه داخل المطعم يفكر في القيام بأي إجراءٍ يجذب به الزبائن مرةً أخرى .
"سوف أقدم وجباتٍ مجانيةٍ للمحتاجين"
عبارةٌ قالها في نفسه ثم توقف عن التفكير عندما تذكر الوجبات المجانية ، لينادي على كبير الطهاة بالمطعم ،
فسأله : هل حضرت «أم أمل» اليوم لتأخذ الطعام ؟
ردَّ : لا لم تأتِ ، كما لم تأتِ في الأيام السابقة أيضًا ،
فسأله : منذ متى ؟
فأجابه : منذ عدة أيامٍ حين كان المطعم مزدحمًا ، و أقبلتْ لتأخذ الطعام كعادتها ، لكنك حينها صرختَ في وجهها و قلتَ لها أن هذا ليس الوقت المناسب للتسول !
بُهِتَ وجهُ صاحب المطعم و هو يتذكر تلك الواقعة .
كانت تلك سيدةٌ مسنةٌ ترمّلت و هي في الأربعين ،
فاضطرت للعمل حتى أعياها المرض فاكتفت بجلستها لتبيع الخضروات في السوق تتكسب قليلًا من المال لا يكاد يسد رمق أطفالها الثلاثة .
مرَّ بها صاحب المطعم في أحد الأيام فدعته أن يشتري منها بعض الخضروات ، فجلس أمامها بعد أن جذبته طيبة وجهها الصبوح المبتسم ، و حكت له قصتها .
منذ ذلك الحين طلب منها أن تمر يوميًا على مطعمه ليعطيها بعض الطعام لها و لأطفالها ، وظلت على ذلك شهورًا طويلةً دون أن تنقطع يومًا واحدًا .
تذكر صاحب المطعم أنه منذ ذلك الوقت و أعمال مطعمه في رواجٍ و رخاءٍ ، تذكر أيضًا دعوات «أم أمل» الصادقة و عيونها الشاكرة و هي تأخذ الطعام لأطفالها .
خرج صاحب المطعم من مطعمه قاصدًا المكان الذي كانت تجلس فيه « أم أمل» في السوق ، ليجد المكان مشغولًا بسيدةٍ أخرى ، فاقترب منها و سألها : هل تعرفين «أم أمل» التي كانت تبيع الخضروات هنا في السوق ؟
ردت السيدة و هي ترفع يديها داعيةً : اللهم خفف عنها و اشفها يا ربّ ،
فزع صاحب المطعم و سألها : ماذا حدث لها ؟
ردت السيدة : لقد عادت إلى منزلها في إحدى الليالي لا تحمل عشاءً لأطفالها كما اعتادت ، فأصيبت بحزنٍ شديدٍ أفقدها وعيها و سقطت .
كاد قلب صاحب المطعم أن ينخلع من مكانه ، فهو يعرف أنه السبب فيما حدث ، فعاد و سأل السيدة : هل تعرفين أين تسكن ؟
ردت السيدة بالإيجاب ، و وصفت له مكان المنزل ، فرجع مسرعًا إلى المطعم و أمر كبير الطهاة بتجهيز طلبٍ من أشهى مأكولات المطعم ليحمله و يذهب به إلى ذلك العنوان .
طرق الباب فسمع صوت طفلةٍ تسأل من ؟
قبل أن يجيبها : أنا صاحب المطعم .
لم يُكْمِل كلماته لينفتح الباب و يرى طفلةً بعمر ابنته على وجهها ابتسامةٌ صافيةٌ ، ترحب به و تدعوه للدخول .
دخل فوجد «أم أمل» تجلس على فراشٍ ، تتطلع في عينيه بنظراتٍ ملأتها لومًا وعتابًا ، و صبيين يجلسان بجوارها ، عيونهما معلقةٌ باللفافة التي يحملها بعد أن ملأت روائح الطعام الغرفة .
اقترب منها ، فابتسمت و أشارت إليه ليجلس على طرف الفراش ، فجلس و تطلع في وجهها الذي أشرق بابتسامة رضًا وترحيبٍ استقبلها باستحياءٍ قبل أن يبادرها بقوله : أردتُ أن أتناول طعامي معكم ، فهل تسمحين لي أن نتشارك الطعام ؟
هربت دمعةٌ من مقلتها كادت تحرق وجدانه الذي يَئِنُ من الإحساس بالذنب، لترد عنها ابنتها «أمل» : أمي لا تتكلم منذ عدة أيام ، و لا تكف عن البكاء .
أحس بغُصةٍ في صدره قبل أن يحاول تصنع المرح و هو يفتح لفافات الطعام
و يهتف : دعونا إذًا نُطعمها و نحاول أن نسعدها .
بدأوا في تناول الطعام و «أمل» تطعم أمها ، و حين جاء وقت الانصراف وقف أمام «أم أمل» يستجديها : سيدتي ، لا أملك أن أستعيد كلمةً خرجت من لساني دون وعيٍ مني ، و لكني أملك الشجاعة للاعتراف بالخطأ و طلب المغفرة ، و أعرف أنك كبيرة القلب لن تبخلي عليّ بالصفح ، أشاحت بوجهها عنه و عادت تبكي بكاءً صامتًا ، ليقف لثوانٍ طويلةٍ منتظرًا عفوها دون جدوى ، ليطرق رأسه حزنًا و يلتفت ناحية الباب مغادرًا ، قبل أن يتوقف فجأةً على صوتها و هي تنطق بضعف : أشكرك ، ربنا يسعدك و يسترك و ينور طريقك .
كلماتٌ بسيطةٌ تساوي عنده الدنيا و ما فيها ، وعدهم أنه سوف يعودهم حتى تتعافى أمهم ، ثم غادرهم بعد أن أعطاهم قدرًا من المال .
عرج مرةً أخرى على المطعم ، و ما إن وصل هناك حتى هاله ما وجد ، زحامًا شديدًا بصالة الطعام ، و زبائن على قائمة الانتظار ، و العاملين كخلية النحل لا يكادون يستطيعون تلبية كافة الطلبات .
اندفع إلى داخل المطعم ، و ما أن قابل كبير الطهاة حتى استفسر منه عن سبب ما حدث فأخبره أن أشهر ناقدِ طعامٍ في البلد زار المطعم ، و طلب عدة أنواعٍ من الأطعمة ، و صور تجربته مباشرةً على صفحته الخاصة على فيس بوك ، و وصف تجربته بأنها رائعةٌ ؛ مما دفع الزبائن للحضور .
كان ذلك منذ ساعتين تقريبًا .
نظر صاحب المطعم في ساعته و عرف أنه نفس توقيت وصوله عند «أم أمل» ،
ليتعلم الدرس ؛ و يعرف أن ( المال مال الله ) هو الرزاق العاطي يُعطيِنا من كرمه لنعطي نحن عباده ، و أن الكلمة تُحيي و تميت ، و أن لا مال ينقص من صدقةٍ ؛ و أن الفقير هو من يتصدق على الغني حين يرضى و يقبل عطفه و إحسانه.
يقول الله تعالى :
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ ،
و يقول :
﴿وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ .
و يقول الرسول صلى الله عليه و آله وسلم :
" مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ " .
إضافة تعليق جديد