( السحرة المؤمنين)
كتب سامى بوادى:
حلاوة الإيمان هي جنة الدنيا، وهي أثر من آثار رحمة الله بأوليائه تثبيتًا لهم؛ لما يجدون مِن هذه الحلاوة أمام ما يجدون مِن فتن وبلايا ومحن،وتجعل من ينعم الله عليه بهذه اللذة حريصًا كل الحرص على المحافظة عليها، فتجعله يكره أن يتركها ويعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار
ان الإيمان له بالغ الاثرفي تثبيت أهله، وفي صمودهم ولابد ان ينبع من عقيده وعلم ودراية ليست موجهة او مغرضة عقيده وطن وشعب ودين وسطى قويم تقوي اصحابها فى مواجهتهم المغريات والتهديدات -أيًّا كان قائلها-، ومِن أمثلة هؤلاء الذين ذاقوا حلاوة الإيمان: سحرة فرعون الذين أحيا الله بالإيمان قلوبهم، وأنار به بصيرتهم، وأحدث لهم تغيرًا شاملًا في إراداتهم وتوجهاتهم، عندما أرسل الله سبحانه وتعالى نبيه موسى عليه السلام إلى فرعون أمره أن يتلطف معه، وأيده بمعجزات حِسَّية ليقف بها أمام فرعون وغروره بالعلم الذي عنده، فالسحرة هم جماعة مأجورة، تبذل مهارتها مقابل الأجر الذي تنتظره؛ ولا علاقة لها بعقيدة ولا صلة لها بقضية، ولا شيء سوى الأجر والمصلحة. وهم هؤلاء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم في الخداع.وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الأجر. بل يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه. وهو بزعمه الملك والإله! وهذا إن دل فإنما يدل على ضعفه وعجزه بل وإنه غير واثق من فوزه في هذه المعركة الايمانية غير أن سحرة فرعون لما عاينوا عصا موسى تبتلع جميع حبالهم وعصيهم خروا سجدًا لله تعالى قائلين: آمنا بالله الذي هو رب هارون وموسى. فهداهم ألله بذلك البرهان الإلهي، هذه الهداية العظيمة.
لان النفس البشرية حين تستيقن حقيقة الإيمان، تستعلي على قوة الأرض، وتستهين ببأس الطغاة، وتنتصر فيها العقيدة على الحياة, وتختار الخلود الدائم على الحياة الفانية إنه الإيمان الذي لا يتزعزع ولا يخضع. فيعلن السحرة حقيقة المعركة فلا يطلبون الصفح والعفو من عدوّهم، إنما يطلبون الثبات والصبر من ربهم فيقف الطغيان عاجزا أما هذا الوعي وهذا الاطمئنان. عاجزا عن رد هؤلاء المؤمنين لطريق الباطل من جديد. فينفذ تهديده، ويصلبهم على جذوع النخل. أنَّهُ موقفٌ من المواقفِ الحاسمةِ في تاريخِ البشريةِ، هذا الموقفُ بينَ فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرةِ السابقين. وإنَّهُ لموقفٌ حاسمٌ ينتهي بانتصارِ العقيدةِ على الحياة، وانتصارِ العزيمةِ على الألم، وانتصار الإنسان على الشيطان .
لقد دارالموقف بداية بالحوار النظري العقائدي بين نبي الله موسى وفرعون في حضور خاصته ووزرائه، وفي هذا الحوار تفوق نبي الله موسى تفوقًا بارعًا على فرعون، وطلب منه فرعون البراهين المادية على صدق رسالته فأراه آية العصى، وآية يده، وآيات أخرى وهنا بدأ الترتيب للموقف العملي الموسع بين نبي الله موسى عليه السلام وفرعون. في هذا الموقف قاد الطرف الأول نبي الله موسى عليه السلام، وقاد الطرف الثاني سحرة فرعون. ويستهدف فرعون وملئه.سحرة فرعون.وبني إسرائيل.
ولكن كيف تم التجهيز للموقف سنوضحه في نقاط
1- يرسل فرعون في المدائن حاشرين لجمع السحرة.
2- فرعون يجمع كيده من سحره وخيله وجنده وشعبه.
3- يأتي سيدنا موسى عليه السلام وأخوه هارون وبنو إسرائيل، ومعهم عصى موسى يتحدى بها هذا الجمع من الكهنة، والسحرة، والوزراء، والجند والأتباع والناس.
4- يطلب سيدنا موسى عليه السلام أن يكون التجمع يوم تفرغ، فطلب أن يتم الاجتماع يوم الزينة فيجتمع أكبر عدد من الناس.
5- طلب سيدنا موسى أن يعقد الموقف ضحى؛ حتى تكون الرؤية واضحة والإضاءة كافية.
وبدء تنفيذ الموقف كالتالي
1- يجتمع الناس يوم الزينة في مكان فسيح يتسع لأعدادهم وهم يقولون: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 40] ويعلو فحيحهم وضجيجه
2- يجتمع السحرة مع فرعون: {فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 41].
3- يؤكد فرعون للسحرة أنه سيقربهم وينشئ لهم ديوانًا للسحر في بلاط الفرعون: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء: 42].
4- يخيم الصمت على المكان بعد الضجيج.
5- السحرة يقفون في صف فرعون وجنده والناس.
6- يقف سيدنا موسى عليه السلام مع هارون وقلة من بني إسرائيل.
7- يرتفع صوت يقول: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه: 64].
8- يقول السحرة: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه: 65].
9- {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} [طه: 66].
10- {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44].
11- {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} [طه: 67].
12- يأتيه مدد الله: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى} [طه: 68].
13- يقول الله تعالى لموسى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69].
14- {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45].
15- يخيم الصمت على الجميع ويأخذهم الذهول.
16- {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء: 46].
17- يرتفع صوت السحرة: { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 47].
18- يظن فرعون أنهم يقصدونه برب العالمين.
19- يقطع السحرة الشك بالقين قائلين: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 48]
20- يفقد فرعون عقله وعلمه وصوابه ووقاره: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ..} [طه: 71].
21- يتهم فرعون السحرة: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الشعراء: 49].
22- الناس تنظر ماذا سيفعل فرعون:
23- قال فرعون للسحرة: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الشعراء: 49] {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه: 71].
24- يقول السحرة: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72].
25- يغتاظ فرعون:
26- يقول السحرة: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73].
27- ينفض الموقف، وفرعون يتوعد.
28- يأمر الله نبيه موسى أن يسري بالمؤمنين؛ لأن فرعون سيتبعهم.
29- تعمل الدعاية المضادة والإعلام الكاذب عملها: {إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ{54} وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ{55} وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 54-56].
وينتهي الموقف الأول ليبدأ الموقف العملي الثاني:
فسحرة فرعون، كما أورد ابن كثير صفتهم: "وَلِهَذَا لَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ، وَقَدْ جَمَعُوهُمْ مِنْ أَقَالِيمِ بِلَادِ مِصْرَ، وَكَانُوا إِذْ ذَاكَ أَسْحَرَ النَّاسِ وَأَصْنَعَهُمْ وَأَشَدَّهُمْ تَخْيِيلًا فِي ذَلِكَ، وَكَانَ السَّحَرَةُ جَمْعًا كَثِيرًا، وَجَمًّا غَفِيرًا. قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: ثَمَانِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ" فقد كان هؤلاء السحرة في أول أمرهم يبحثون عن الأجر والمال كما قال ابن عباس: "كانوا أول النهار سحرة فجرة، وفي آخره شهداء بررة".
وجاءت اللحظة الفارقة في حياتهم التي أحيا الله بها قلوبهم، وانتشلت به هذه القلوب من وحل الضلال وحب الدنيا، فارتوت بالإيمان واستنارت به وهذه اللحظة الفارقة لما ألقى موسى -عليه السلام- عصاه، لما تبيَّن السحرة أن الذي جاءهم به موسى حق لا سحر، وأنه مما لا يقدر عليه غير الله الذي فطر السموات والأرض من غير أصل، خرّوا لوجوههم سجدًا لله، مذعنين له بالطاعة، مقرّين لموسى بالذي أتاهم به من عند الله أنه هو الحقّ، وأن ما كانوا يعملونه من السحر باطل، قائلين: (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الذي دعانا موسى إلى عبادته دون فرعون وملئه حلاوة الإيمان وأثره في تغيير القلوب وتحولها مهما كان حال صاحبها
والدروس المستفادة من الموقف:- ان الله أرسل أنبياءه لأقوامهم، وأرسل نبيه موسى عليه لفرعون؛ لأن فرعون رئيس دولة، والأمر في يديه والشعب تابع له، ولقد رأى الناس هزيمة السحرة وفرعون، ومع ذلك خرجوا مع فرعون لمطاردة موسى ومن معه.وهذا دليل أن صلاح الرؤساء صلاح للرعية، وفسادهم فساد للرعية. فالإيمان يصنع المعجزات، بدليل إيمان السحرة وطلبهم المغفرة من ربهم، ووقوفهم بكل شجاعة أمام طغيان فرعون.كما ان العلم يكشف الزيف والسحر. وأهل العلم الحقيقي أقرب الناس إلى الإيمان. وكذلك القلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء. لأن الأعمال بالخواتيم.
انَّ نورَ اللهِ مهما حاولَ المجرمون طمسَ معالمه، وأنَّ الطغاةَ وإن أثروا في عقولِ العامة فترةً من الزمنِ واستمالوهم بالخدع والوعود التي لايعلمها الا الله بان يمنوهم بالفوز بالجنه وحور العين ،فإنَّ القلوبَ بيدِ الله، يُصرفها كيف يشاء،وتأملوا في حالِ فرعون وسحرته، وكم وعدوا لقاءَ مواجهتهم موسى، ومع ذلك انقلبوا فجأةً عليه، واستهانوا بما وعد به حين أبصروا دلائل الإيمان، ولاذوا بحمى الملكِ الديَّان، فكانوا أولَّ النهار سحرة، وآخرهُ شُهداء بررة.
إضافة تعليق جديد