رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأحد 23 نوفمبر 2025 4:36 م توقيت القاهرة

سـامـى بـوادى يكـتب أقـوال صـائـم:أيام الهدي والفرقان

يمدح الله تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور ، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه ، وكما اختصه بذلك ، جعله المولي دوما شهر يحمل معه الخير والبركة، ويقدم لنا وسائل التوبة والانابة إلى الله عز وجل ذلك ان أبواب الخير مفتحة تنادي للولوج فيها وأبواب الشر موصدة تنادي للابتعاد عنه ومما يبرهن على عظم وفضائل شهر رمضان الفضيل، وما به من نفحات وتجليات وإكرام من المولى سبحانه، أنه كان "صلى الله عليه وسلم" يستقبله مع صحابته الكرام، فيعدد لهم فضائله الجامعة، وفي هذا ما رواه سليمان الفارسي، قال: خطبنا رسول الله في آخر يوم من شعبان قال: "أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيام نهاره فريضة، وقيام ليله تطوعًا، من تطوع فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وعتقًا لرقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء، قالوا: يا رسول الله! ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم، فقال رسول الله: "يعطي الله هذا الثواب من فطر صائمًا على تمرة، أو شربة ماء، أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار"، فأي جود وبركة وكرم وعطاء هذا، إلا العطاء الرباني.ا

وقد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في شهر رمضان ، في ليلة القدر منه ، كما قال تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [ القدر : 1 ] . وقال : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) [ الدخان : 3 ] ، ثم نزل بعد مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم
.فقد روي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود ، فقال : وقع في قلبي الشك من قول الله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) وقد أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع . فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان ، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس والاحداث والاحكام
.
أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه ) ودلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال ، والرشد المخالف للغي ، ومفرقا بين الحق والباطل ، والحلال ، والحرام .
أن القرآن الكريم جعل لهذا الشهر عنوانا كبيرا، وللصوم مقصدا أخلاقيا. أما العنوان فهو أنه شهر القرآن (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ) (البقرة 185)، ففي هذا الشهر تنزل القرآن ختاما لحلقات سلسة الوحي، فكان لحظة فارقة في تاريخ العالم، ذلك أن رسالته هي الرحمة الشاملة للإنسانية، بل للموجودات كلها: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء 107) و"العالمين" هم كل ما سوى الخالق سبحانه. فكأن هذا الشهر هو علامة الرحمة الإلهية بالكون ومن فيه
. ونحن في شهر رمضان، شهر الإيمان والقرآن، نعطف على صفحات كتاب الله الكريم لنرتشف من رحيقه، ونملي عيوننا بكلام ربنا عز وجل وآياته. ولكي نزيد من إدراكنا لما نقرأ، ونعرف حق المعرفة قيمة الكلام العظيم الذي تتلوه ألسنتنا، فلا بأس من أن نذكر المؤمنين ببعض من خصاص القرآن الكريم والتي تجعله يسمو على كل كتاب ويعلوه.
وقد اقتضت حكمةُ الله تعالى أنْ ينزّله منجماً وفقاً للحوادث؛ ليكونَ أرسخَ في مواجهة المحن والشدائد التي تنزل به وبأصحابه، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً *وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا *} [الفرقان: 32 ـ 33].

وحكمة أخرى، وهي أنْ يقرأه الرسول الكريم على المؤمنين به على مهل، وحيث يستوعبونه حفظاً وفهماً وعملاً، كما قال الله عز وجل:{ وقرآنا قرأناه لتقرأه عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً }[الإسراء: 106].

والقرآن عند الله تعالى كتاب معلوم أوله وآخره، مسجَّلٌ في أم الكتاب، أو اللوح المحفوظ، أو الكتاب المكنون، كما صرّحَ بذلك القرآن نفسه: {حم *وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ *إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ *}[الزخرف: 1 ـ 4].

وقال تعالى: {بَلْ هُوَ قرآن مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ *} [البروج: 21 ـ 22].

وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقرآن كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الواقعة: 77 ـ 80].

وأيُّ قارئ للقرآن ـ له عقلٌ وحِسٌّ ـ يستيقن أنّـه ليس كلام بـشر، وأنّـه متميز عن كـلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ الذي يتمثّل في الـحديث النبوي، وإن كـان في ذروة البلاغـة البشرية، وإنّ وجودَ آية قرآنية ضمن حديث نبوي، يجعل لها نوراً خاصاً يحسّ به مَنْ يقرؤها أو يسمعها، ويشعر أنّها ليست من جنس مـا قبلها وما بعدها.
قال ابن القيم :تأمّل في خطاب القرآن تجد ملكاً له المُلك كله، وله الحَمْدُ كله، أزمّةُ الأمور كلّها بيده، ومصدرُها منه، وموردُها إليه، مستوياً على العرش، لا تخفى عليه خافيةٌ من أقطار مملكته، عالماً بما في نفوس عبيده، مطّلعاً على أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى، يعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويقضي ويدبر، الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه، لا تتحرك ذرةٌ إلا بإذنه، ولا تسقط ورقةٌ إلاّ بعلمه، فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجّد نفسه، ويحمد نفسه، وينصحُ عباده، ويدلّهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغّبهم فيه، ويحذّرهم ممّا فيه هلاكُهم، ويتعرّف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبّب إليهم بنعمه وآلائه، يذكرهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذّرهم من نقمه، ويذكرهم بما أعدّ لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعدّ لهم من العقوبةِ إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبةُ هؤلاء وهؤلاء، ويثني على أوليائه لصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذمّ أعداءه بسيّئ أعمالهم، وقبيحِ صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيبُ على شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافهم وحسنها ونعيمها، ويحذّر من دار البوار، ويذكر عذابها وقبحها وآلامها، ويذكّر عباده بفقرهم إليه، وشدّة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكرهم بغناه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه.
أولى خصائص هذا الكتاب العظيم أنه كتابُ الله تعالى؛ الذي يتضمّنُ كلماته إلى خاتم رسله وأنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، فهو إلهيُّ المصدر: لفظاً ومعنًى، أوحاه الله إلى رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي الجلي، وهو نزول «الرسول الملكي» جبريل عليه السلام على «الرسول البشري» محمد صلى الله عليه وسلم، وليس عن طرق الوحي الأخرى من الإلهام أو النفث في الرّوع، ومن الرؤيا الصادقة أو غيرها.

وإذا كان رمضان هو الشهر الذي حاز الشرف الزماني لنزول القرآن الكريم، فإن أيامه ولياليه مساحة لتنزل قيمه ومعانيه في حياة الإنسان الفردية وروابطه الاجتماعية، أو هكذا يجب أن تكون.

بانه خصه الله بكونه مناسبة سنوية للتزود من هدايات الوحي، والنهل من حياض معانيه، والتدبر في آياته؛ حتى يُرى أثر ذلك في رؤية الإنسان للحياة والأحياء، ومنهج تفكيره في علاقته بذاته ودينه وعالمه.

ليتكامل بذلك مع مقصد الصوم من مجاهدة النفس على مكاره الكف عن الشهوات المباحة في غير الصيام فيأذن بالنفس البشرية للارتقاء بها في مدارج التقوى، لتتجلى آثاره في سلوك الإنسان مع الناس أجمعين: أخلاقا سامية ورسالة إنسانية لعمران الأرض وبناء الأجيال والارتقاء بالأوطان.

من هنا يبدو رمضان مدرسة، منهاجها قيم القرآن ومعانيه، ومقرراتها عبادات الصيام والقيام والإطعام، أما مخرجاتها المرجوة فارتقاء بالخلق الإنساني والسلوك الاجتماعي وبنموذج الأمة المسلمة للعالم.
هذا الهدي الرمضاني يستحقه من يفوز بالمسابقة خلال هذا الشهر الكريم الذي قال عنه الرسول الأكرم "رمضان أوله رحمة وأوسطة مغفرة وآخره عتق من النار". أما الرحمة فأمرها معروف في رمضان ذلك ان أبواب الجنة تفتح وأبواب النار تغلق وتصفد الشياطين، فلا شك ان هذه رحمة منزلة من عند الله سبحانه وتعالى الذي سهل سبل الطاعة لعباده جميعا والعاصين منهم على وجه الخصوص فإذا ما اجتهد الإنسان في طاعة ربه فصام يومه وقام ليلته وأوثق الصلة بالقرآن الكريم كل ذلك يكون مدعاة لان يستحق العبد المغفرة من الله عز وجل وهذه الكرامة الثانية من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين في رمضان. غير ان الوصول إلى هذه الدرجة التي يستحق معها العبد المغفرة من الله يتطلب المجالدة والمجاهدة للاستقامة على أمر الله عز وجل ولهذا ورد في الحديث قول الرسول (ص) "ليس الصيام من الأكل والشرب انما الصيام من اللغو والرفث. فان سبك احد أو جهل عليك فقل إني صائم، إني صائم"، وهذا هو القصد والهدف الذي يرمي إليه الصيام. ان يتمثل المؤمن اخلاق الإسلام وهو يمر بمراحل متعددة في مدرسة رمضان التربوية.
غير أن رمضان يأتي هذا العام والمسلمون يعيشون تحت وطأة الوباء الثقيلة، ويكابدون -شأنهم شأن سائر أفراد العائلة الإنسانية- آثاره التي لم يسلم منها جانب من جوانب حياتهم الخاصة والعامة، حتى فهمهم لرسالة دينهم في شهر الصيام حين جاءهم متزامنا مع جائحة كورونا.

مع تطور الأوضاع العامة في أجواء الوباء العالمي، وما واكبها من توجيهات وإجراءات صحية عامة، بدا جليا أن ثم رؤيتين في منهج التدين المطلوب من المسلم في هذه المرحلة، فقد عشنا شهر الصيامو كان تصاعد الجدال القائم بين هاتين الرؤيتين قد بلغ مداه.

إحدى هاتين الرؤيتين تمركزت حول الشعائر الدينية الظاهرة، وخاصة الجماعية منها كصلوات الجمع والجماعات في المساجد، والتراويح وأداء العمرة في رمضان، معتبرة ألا مقصد من مقاصد الدين ولا فريضة من فرائضه أولى بالتمسك والعناية بها من هذه الشعائر.

أما الرؤية الثانية فقد استصحبت مقاصد الدين وقيمه الكلية، وفي مقدمتها حفظ النفس الإنسانية، والاعتناء بمقومات وجودها ورعاية مصالحها الحالية والمستقبلية (العاجلة والآجلة بلغة الفقهاء)، أي الحفاظ على الإنسان وسلامة كيانه الاجتماعي وعمرانه الحضاري ومستقبل أجياله، حتى لو استوجب ذلك امتناعا مؤقتا عن بعض تلك الشعائر الجماعية في مرحلة المحنة العالمية الراهنة، امتثالا لرسالة الوحي الآمر بالعبادة نفسه، واستجابة لخطاب القرآن الكريم ذاته، خاصة وأنه ما من شعيرة من الشعائر العبادية التي اقتضت سلامة الناس الإمساك عنها مؤقتا، إلا وشرع الدين بدائل لا تقصر بصاحبها في الفضل والمثوبة.

إن هذا التعارض بين الرؤيتين طارئ أصلا، ولا مجال له في الإسلام، حيث المقاصد خلاصة أحكامه، والقيم روح تعاليمه، والأخلاق ثمرة عباداته كلها. أليست الصلاة (تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)؟ وحق الفقراء من مال الأغنياء طُهرة للنفس وزكاة للمال؟ أي نماء وبركة، أليس (مَن لم يَدَعْ قول الزُّور والعملَ به، فليس للهِ حاجةٌ أن يَدَعَ طعامه وشرابه)؟ (رواه البخاري)، أليس مستحق الأجر من الحج والعمرة هو من (لَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ)؟ (متفقٌ عَلَيْهِ). فلا تفريق إذن بين مقاصد الدين -وجوهرها الارتقاء بالإنسان- وبين أحكامه في العبادات والشعائر.

وإنه لمن واجب المسلم تجاه نفسه وأهله ووطنه وإنسانيته أن يلتزم بما أجمعت عليه المرجعيات الدينية المعتبرة في الفتوى من واجب التزامه البيت في شهر رمضان كذلك، تجنبا لمخاطر العدوى، ولمأساة أن يكون الفهم القاصر لرسالة دينه سببا في الأذى لنفسه ولغيره.

كم هو حري به أن يكون تعبير صدق عما يرمز له هذا الشهر المبارك من الرحمة الإلهية بالكون ومن فيه جميعا، وما أحوجهم لتلك الرحمة.
هذا غيض من فيض خصائص القرآن الكريم ومميزاته، فهو الفرقان الذي أنزل بالحق وبالحق نزل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، سراج الهداية وكتاب الإيمان ودليل التوحيد. فلنجعل لنا معه جلسات ومناسبات في هذا الشره الكريم المبارك، فشهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
1 + 1 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.