رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الجمعة 25 يوليو 2025 9:55 م توقيت القاهرة

سلسلة حكايات من واقع الحياة القصة الثانية عشر "ذلك الفتى الذي لم يخذله الله"

بقلم د/سماح عزازي

في هذه الأرض التي تنبت الشوك أكثر مما تنبت الورد، يولد بعض الأطفال وفي أقدارهم اختبارات تفوق أعمارهم، ويُلقى على كواهلهم عبء الحياة قبل أن يتعلّموا نطق الحروف كاملة. في مجتمعٍ تصرخ فيه الفجوات الطبقية بأعلى صوت، وتُباع فيه أحلام التفوق بأثمان باهظة، هناك مَن يُقرّر أن يسير عكس التيار، أن يمشي على الجمر ليصل… أن يرفع راية النجاح على جبينٍ متعب، لكنه شامخ.

هذه قصة أحمد…
ذلك الفتى الذي لم يكن له من الامتيازات شيء، إلا أنه امتلك قلبًا لا يعرف الهزيمة، وضميرًا لا ينام، وعينًا ظلّت شاخصة نحو الغد، حتى وإن كان الغد بعيدًا… قاسيًا… محمّلًا بالبرد والمطر والدروس الخصوصية.

في زحام الحياة اليومية، وسط المدن المتعبة التي تمضغ أرواح الفقراء بلا رحمة، وداخل أحد الأزقة الضيقة التي لا تزورها الكاميرات، وُلد فتى اسمه أحمد. لا ترفٌ في بيته، ولا خزانة مليئة بالكتب، ولا مكتب أنيق يذاكر عليه… فقط قلب نابض بالحلم، ووجه يختزن التعب، ويدان خشنتان قبل أوانهما.

كان أحمد طالبًا في الصف الثالث الثانوي، ذاك العام الذي يختصر سنوات العمر كلها، ويُصنّف الأبناء فيه إلى ناجحين ومنسيين، متفوقين ومحطمين. لكن حظ أحمد لم يكن كحظ غيره؛ فالحياة لم تُمهّده له الطريق، ولم تمنحه مظلة تحميه من قسوتها. كان أبوه عاملاً بسيطًا بالكاد يوفّر لقمة العيش، وأمّه تخيط الأيام بالإبر، تحاول أن تُبقي البيت قائمًا على حافة الفقر.

في النهار، كان أحمد يرتدي زيه المدرسي المُهترئ، يحمل حقيبته التي بها ما استطاع شراءه من كراسات وكتب مستعملة، ويسير في صمتٍ متأمل، يراقب زملاءه الذين يركبون السيارات، ويتحدثون عن مراكز الدروس الخصوصية التي لا يستطيع مجرّد الحلم بالاقتراب منها. كان يعرف أنه لا يستطيع منافستهم في الموارد، لكنه قرر أن ينافسهم في شيء واحد فقط: الإرادة.

ومع اشتداد ضغوط الدراسة، وتحوّل الدروس الخصوصية إلى ضرورة لا يمكن تجاهلها، عرف أحمد أنه لا مفرّ من العمل. لم يتردد، لم يطلب صدقة، لم يمدّ يده لأحد. بل نزل إلى العمل وكأنه ينزل إلى ميدان معركة.

أول عمل وجده كان في كافتيريا متواضعة. هناك، كان يقف ساعاتٍ طويلة يحمل الصواني، يمسح الطاولات، يُنظّف الأرض، يبتسم للزبائن، ويُخفي دموعه في صوته المبحوح. كان يعود من العمل في منتصف الليل، يغسل يديه من بقايا الشاي والسكر، ويجلس ليفتح كتبه رغم أن جفونه كانت تتوسل للنوم.

لكن العمل في الكافتيريا لم يكن يكفي… فالأسعار كانت ترتفع كل شهر، والدروس أصبحت عبئًا ثقيلًا على الأسرة. وهنا اتخذ قراره الأكثر وجعًا… أن يعمل "دليفري" على قدميه!

نعم… لم يكن يملك دراجة، ولا دراجة بخارية، فقط قدماه. بدأ منذ شهر فبراير، وفي عز برد الشتاء، يتنقل من بيتٍ لبيت، حاملاً الطلبات، وساعيًا بين الشوارع، يغالب الريح والمطر والإنهاك. لم يكن يحمل هاتفًا حديثًا، بل ورقة مكتوب عليها العناوين، وذاكرة مثقوبة من التعب، لكنها لا تخونه.

كان يعود إلى البيت في الليل، يرتعش بردًا، تُدمى قدماه، ورغم ذلك لا يشتكي. كان يقول لأمه:
"أنا كويس يا ماما… لما أنجح كل ده هيروح."

مرت الأيام ثقيلة كألف عام، وكان أحمد يذاكر على فترات متقطعة بين نوبات العمل، لكن قلبه كان مشتعلاً بالطموح. لم يتعلّل بالظروف، لم يُحمّل الدنيا ذنبه، فقط اجتهد وصبر وآمن بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

وجاء اليوم المشهود… ظهرت النتيجة. لم يكن لأحمد هاتف يتابع منه الأخبار، بل عرف النتيجة من أحد زملائه في العمل، الذي ركض إليه يقول:
"أحمد! أحمد! جبت ٩٥.٨٪؜… إنت جبت تاني مكرر على المحافظة!"

تجمّدت الكلمات في فمه، وغرقت الدنيا كلها في دمعة واحدة نزلت من عينيه. لم يبكِ فقط لأنه نجح… بل لأنه تذكّر كل لحظة برد، كل صينية شاي، كل خطوة في الشارع، كل مرة أخفى فيها دموعه، كل لحظة ظن فيها أنه سينهار ولم يفعل.

عاد إلى البيت، فوجد أمه واقفة على الباب، ترتجف من الفرحة، تحتضنه وتقول له:
"أنا قلتلك هتنجح يا ضنايا… قلتلك ربنا مش هيسيبهالك!"

قصة أحمد ليست فقط عن طالب فقير اجتهد ونجح، بل هي قصة جيل كامل يُولد في الهامش، ويصنع المجد بأظافره. قصة بلدٍ ما زال فيه الأمل يسير على قدمين حافيتين، بين المقاهي وأكوام التعب، باحثًا عن مقعد في الصف الأول.

لقد أثبت أحمد، ابن الكافيتريا والدليفري والرصيف، أن النجاح لا يُصنَع في قاعات التكييف، ولا يُقاس بعدد الدروس التي حُجزت، بل يُكتب بعرق المجتهدين، وتُوقّعه الدموع الصامتة في الليالي الطويلة.

إنها ليست فقط قصة نجاح في الثانوية العامة، بل وثيقة إنسانية تُكتب بماء القلب، ودرس يجب أن يُدرّس في كل مدرسة: أن الأمل لا يحتاج إلى مال، بل إلى إرادة، وأن العظماء لا يصنعهم الترف، بل تصنعهم الشدائد حين لا يتراجعون.

تحية لأحمد…
وتحية لكل روح أرهقها الطريق، لكنها اختارت ألا تتوقف…
لأن القمم لا يسكنها إلا مَن صعدوا بأقدامهم… لا مَن رُفعوا على أكتاف غيرهم.

تحية لأحمد…
وتحية لكل "غلبان" لم ينتظر إنصاف الحياة، بل أنصف نفسه بالصبر والكفاح.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
3 + 9 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.