"الذين سرقوا طفولته... ثم أدانوه"
شهاب والمفك... حين يُولد الفقر سكينًا في يد البراءة
بقلم د/ سماح عزازي
في زحام الحياة الصاخب، حين تمضي الأيام بلا اكتراث، وتُطوى الحكايات في عتمة النسيان، يولد ضوء صغير في زاوية منسية من الوطن، لا يراه أحد… ضوء اسمه شهاب.
لم يكن نجمًا في سماءٍ عالية، بل طفلًا صغيرًا في أرض قاسية، يحمل على كتفيه حِملًا لا يليق إلا بالكبار. كان شهاب يسير بخطى متعثرة نحو الحياة، لا يعرف من طفولته إلا الاسم، ولا من المدرسة إلا الحُلم، ولا من البراءة إلا ما تبقّى في عينيه من ضوءٍ لم تنطفئ جذوته بعد.
في هذه القصة، لا نروي مأساة فرد، بل نحمل مرآةً نُطلّ بها على مجتمعٍ يُهمل أطفاله، ويُثقل كواهلهم، ثم يُطالبهم بالمستقبل.
كان يحمل المفك كما يحمل جندي سلاحه، لا لقتل، بل للبقاء.
وفي زقاقٍ ضيّق من أزقة "الدويقة"، كان شهاب يركض خلف الحياة، يلهث وهو لا يزال في الخامسة عشرة، يظن أنه يكبر، لكنه في الحقيقة يهرم من الداخل. يحمل على كتفيه أمًا مريضة، وأشقاء جياع، ويقود توك توك كأنه سفينة يابسة في بحر من الهمّ.
الطفل الذي لم يُمنح فرصة ليكون طفلًا، تراه يُمسك مفكًا لا ليُهدد، بل ليُصلح إطارًا، أو يبعد شبح العطل عن يومه القاسي. لكن الحياة لا تعترف بالنوايا، بل تصطاد اللحظة، وتُجمّدها في عدسة كاميرا، وتحاكم بها طفلًا كما يُحاكم مجرم.
المشهد الذي شوّه البراءة
كانت لحظة، لا أكثر.
مشادة في الشارع، غضب عابر، وطفل يمسك بمفك ويصرخ…
الكاميرا كانت هناك.
فجأة، صار شهاب "بلطجي السوشيال ميديا".
لم يرَ أحد وجهه المرتبك، ولا صوته المرتعش، ولا القلب الذي كان يضطرب في صدره كعصفور مذعور.
من خلف الشاشات، كتبوا عليه الأحكام: "حبس"، "تأديب"، "إعادة تربية".
لكن لا أحد سأل:
من هو؟
من ربّاه؟
ولماذا كان في الشارع أصلًا بدل المدرسة؟
على رصيف القهر... لا تنمو الطفولة
شهاب لم يختَر هذا.
لم يجلس يومًا يقرر أن يصبح خشنًا أو مندفعًا أو أن يحمل مفكًا بدل القلم.
هو فقط وُلد في المكان الخطأ، في الزاوية التي لا يدخلها ضوء العدالة.
طُرد من فصله الدراسي ليقود توك توك، لا بحثًا عن مغامرة، بل عن الخبز.
أُغلق بابه في وجه الطفولة، فخرج يجرّ كرامته في الشارع، بين زحام لا يرحم، وصراع يومي على الرغيف.
الفقر، حين يُطارد طفلًا، لا يُشبه فقط الجوع… بل يُشبه سكينًا يقطع ملامحه قبل الأوان.
وشهاب لم يكن "خطأ فرديًا"، بل نتيجة حتمية لمنظومة جعلت الأطفال رجالًا قسرًا، وفتحت أبواب الشوارع بدل المدارس.
الشارع لا يعلّم السلام
في الدويقة، كما في مئات المناطق المهمشة، تُغرس الخشونة في العظام مبكرًا.
الأمن بعيد، الموارد شحيحة، والتعليم ترف لا يملكه الجميع.
وفي هذا الواقع، ينمو الأطفال بردود أفعال أكبر من أجسادهم، يلوّحون بالأدوات، لا رغبة في الإيذاء، بل دفاعًا عن النفس، أو ربما لتذكير العالم أنهم موجودون.
شهاب لم يكن وحيدًا.
هو فقط من التُقطت صورته.
أما أمثاله… فمئات، يسيرون في صمت، يحملون على ظهورهم فقرًا، وتحت جلودهم وجعًا، وفي قلوبهم قنابل موقوتة تنتظر اللحظة الخاطئة.
حالة؟ بل مرآة
إن شهاب، بكل وجعه، ليس "قصة نادرة" كما نظن…
بل هو مرآة صادقة لانكسارٍ عام.
طفلٌ مثله هو نتيجة لسلسلة طويلة من الإخفاقات:
غياب التعليم، غياب العدالة، بطالة الأهل، تجاهل الدولة، وتطبيع الشارع مع القسوة.
منذ متى صار الطفل مسؤولًا عن إعالة أسرته؟
ومنذ متى أصبحت "النجاة من الجوع" تهمة؟
ومنذ متى صرنا نحاسب الأطفال على نتائج فقرنا الجماعي؟
الرحمة قبل العقوبة
يقول النبي ﷺ: "من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان مازحًا."
لكن شهاب لم يكن مازحًا، بل مذعورًا.
ومع ذلك، لم يكن العنف حله، ولم يكن التشهير دواءه.
الإسلام لم يأتِ ليقسو على الضعفاء، بل ليحتويهم.
وشهاب لم يبلغ بعد. لا سنًا، ولا فهمًا، ولا حتى فرصة.
الطفل الذي يخطئ لا يُعاقب كالرجل، بل يُربّى.
ويُحتضن.
ويُفهم.
لأننا إن كسرناه، فلن نجد منه غدًا إلا ظلاً باهتًا من إنسان، يتعلم من السجن ما لم تُعلّمه له الحياة.
هل ننتظر شهابًا آخر؟
ما فعله شهاب خطأ، نعم.
لكن من أين بدأ الخطأ حقًا؟
من المفك؟ أم من جوع البيت؟
من لحظة الغضب؟ أم من عشر سنوات من الإهمال؟
شهاب، في النهاية، ليس أكثر من جرس إنذار.
ينبهنا نحن، الكبار، أن شيئًا في جذور هذا الوطن متآكل،
وأن الأطفال الذين يتساقطون في الشارع ليسوا نبتًا شيطانيًا،
بل زرعًا أهملناه… فخرج على غير ما نحب.
لنكن له وطنًا… لا قفصًا
ولأن الشوارع لا تُنبت الورد، خرج شهاب من مشهد العنف لا ببطولة، بل بندبة…
ندبة في ذاكرته، وندبة في ضميرنا.
طفل يُحاكم كأنه مجرم، فقط لأنه لم يجد من يعلمه كيف يحتضن وجعه.
طفل لم يصرخ إلا حين ضاق به الصمت.
شهاب ليس مجرد طفلٍ يبيع الحلوى في إشارات المرور، ولا حالةً فردية نمرّ بها كأن لم تكن، بل هو مرآة منكسرة لأمةٍ أضاعت أولادها في الزحام.
هو صفحة من كتاب الواقع الذي لا نقرأه، وسؤال موجع لا نملك له إجابة.
كل شهاب على الرصيف يكتب بفقره، وبدموعه، وبأحلامه الموءودة، شهادة فشل لمجتمعٍ لم يعرف معنى العدالة.
فمتى نعيد رسم هذا الوطن ليكون حضنًا لا منفى؟
ومتى تصبح الطفولة حرزًا مصونًا لا سلعة على قارعة الطريق؟
علّنا ذات مساء، حين نرفع أعيننا إلى السماء، لا نرى شهابًا ينطفئ… بل نجمًا يُضيء
ربما أخطأ…
لكن إن كنا نحن الكبار قد خذلناه، أفلا نستحق نحن العقاب؟
فهل ننتظر شهابًا آخر؟
أم نصلح الدرب قبل أن يسير عليه الأطفال حفاة؟
فلنكن له وطنًا، لا قفصًا.
فكل طفل ننقذه من السقوط،
هو مجتمع نُنقذه من الانهيار.
إضافة تعليق جديد