بقلم د/سماح عزازي
حين تشتعل الأسلاك… ويتكلم الصمت في قلب العاصمة، حيث تتقاطع الشوارع كما تتشابك الأسلاك، وحيث تمضي الحياة كأنها لا تقف، جاء الحريق في سنترال رمسيس ليوقظ الذاكرة من سباتها. لم تكن النيران مجرد ألسنة حمراء تتراقص على نوافذ المبنى، بل كانت صفحة حارقة من كتاب واقعٍ يحتاج إلى مراجعة.
السنترالات ليست مجرد أبنية خرسانية، بل أوعية نبض إلكتروني تمرّ من خلالها همساتنا، ورسائلنا، ومكالماتنا، ومعاملاتنا، وربما أحلامنا الصغيرة. وعندما يشتعل مركز بهذا الحجم والموقع، لا تُحسب الخسارة فقط بالأجهزة المعطوبة أو الكابلات الملتفة، بل تُقاس أولًا بارتباك الناس، وقلقهم، وانقطاع ما ظنوه ثابتًا في حياتهم.
ما حدث في سنترال رمسيس هو دعوة للتأمل أكثر مما هو إنذار بالخطر. ليس للبحث عن مذنب أو لوم جهة، بل للعودة إلى أصل السؤال: هل نحن، حقًا، نحمي ما هو حيوي في حياتنا كما يجب؟ هل خططنا لمواجهة الطوارئ؟ هل درّبنا فرقنا على الكارثة قبل أن تأتي؟ وهل نبني بنيتنا الرقمية كما نبني أحلامنا بها؟
لقد كشفت النيران هشاشة ما ظنناه صلبًا، وأعلنت في لحظة واحدة أن "الاستقرار" لا يعني "السلامة"، وأن الاعتماد على التكنولوجيا يتطلب دومًا أن نقابله بوعي، وتخطيط، ووقاية، وربما قليل من التواضع أمام ما لا يُتوقّع.
في هذا المقال، نحاول أن نقرأ المشهد كله، لا بلغة اللهب وحدها، بل بلغة العقل، والمسؤولية، والإنسان، لنفهم ما جرى… ونمنع أن يتكرر.
ماذا حدث؟ وكيف تأثرت الشبكات؟ سنترال رمسيس لم يكن مركزًا عاديًا، بل يُعد نقطة ارتكاز رئيسية (Core Node) في شبكة الاتصالات المصرية. فهو يضم:
مركز بيانات (Data Center) ضخمًا لأنظمة الاتصالات.
كابلات الألياف الضوئية التي تمر عبره لتغذي جزءًا كبيرًا من العاصمة.
نقاط الربط البيني بين شبكات المحمول (interconnect hubs).
بوابات تمرير المكالمات الأرضية والدولية.
تجهيزات طرفية تخدم مناطق مزدحمة.
ورغم أن كل شركة محمول تمتلك بنيتها الخاصة، فإن هناك شبكة بنية تحتية مشتركة، تعتمد عليها جميع الشركات بدرجات متفاوتة، خاصة في الربط البيني، وخدمات الإنترنت، والمكالمات الدولية.
أثر الحريق على خدمات الاتصالات:
انقطاع أو اضطراب في الإنترنت الأرضي.
تعطل خدمات المكالمات الصوتية.
تأثر خدمات الدفع الإلكتروني.
ضعف في استجابة بعض خدمات الطوارئ.
لماذا سنترال رمسيس بالذات؟ تكمن الخطورة في أن هذا السنترال لا يخدم حيًا أو منطقة، بل يمثل عقدة محورية في شبكة الاتصالات القومية. وقد تراوحت التقديرات الأولية للأضرار على النحو التالي:
إن اقتصر الحريق على الأدوار الإدارية: فالانقطاعات ناتجة عن إطفاء الكهرباء كإجراء احترازي.
أما إن طال الأدوار الفنية أو كابلات الألياف الضوئية: فسيكون الأثر واسعًا.
أنظمة الحماية
ما كان يجب أن يحدث الحدث أثار تساؤلات عن نظم الإطفاء ومكافحة الحرائق داخل المباني الحيوية. السنترالات المركزية عالميًا تخضع لأنظمة دقيقة ومتقدمة:
1. أنظمة الغازات النظيفة (FM-200، Novec 1230)
2. أنظمة الرذاذ المائي الدقيق (Water Mist)
3. أنظمة خفض الأوكسجين (Hypoxic)
4. أنظمة الكشف المبكر VESDA
وكلها تهدف لحماية المعدات والبيئة المحيطة دون تعطيل الخدمة أو إيذاء الأفراد.
في مصر، الحاجة ماسة لتقييم هذه الأنظمة، وصيانتها، وضمان جاهزيتها، لأن القيمة لا تُقاس فقط بالأجهزة بل بالأرواح.
ضحايا تحت الركام… حين يكون الثمن أرواحًا لا تُعوّض وسط الدخان الكثيف، وصفارات الإنذار، لم تكن الكارثة تقنية فقط، بل إنسانية. فقد سقط عدد من الضحايا ما بين عاملين أو مارة أو رجال إنقاذ.
مات من مات، ولم تكن لديه بنية احتياطية لحياته. أصيب من أُصيب، لأن أجهزة الحماية لم تعمل، وكأن المبنى صُمم ليُنقذ المعدات لا الأرواح.
إن كنا نبكي على كابل احترق أو برج توقف، فالأولى أن نقف حدادًا على من فقدوا حياتهم في صمت، دون أن تُذكر أسماؤهم في بيان رسمي يليق بوداعهم.
توصيات فنية عاجلة:
1. فحص دقيق وشامل للأضرار.
2. تفعيل الدوائر البديلة.
3. تركيب نظم إطفاء متعددة الطبقات.
4. توزيع الأحمال بين أكثر من سنترال.
5. تدريب العاملين على الطوارئ.
رمسيس لم يُحرق... بل كُشِف انطفأت النيران، لكن بقيت الأسئلة. سنترال رمسيس كشف عن ثغرات مؤلمة، وضرورة التفكير في حماية منشآتنا الحيوية ليس فقط من النار، بل من المفاجآت.
بيان نعي وشرف: إلى شهداء سنترال رمسيس… الذين احترقوا صمتًا تتقدم أسرة التحرير، وصاحبة هذا القلم، بخالص الحزن وعميق المواساة إلى أسر ضحايا الحريق، الذين قضوا وهم يؤدون واجبهم أو يمرون صدفة.
ننعى كل عامل وكل رجل إنقاذ، وكل شهيد مدني سقط في حادثٍ كان يمكن تفاديه. إلى أرواحكم السلام… ولذكراكم الخلود.
الحريق الذي اندلع في سنترال رمسيس في يوليو 2025 أسفر عن وفاة عدد من العاملين والمواطنين وإصابة آخرين، إضافة إلى توقف مؤقت في خدمات الاتصالات. تستمر الجهود لإعادة الخدمة تدريجيًا بالتعاون بين جميع الجهات الفنية.
إضافة تعليق جديد