مفاجأة من العيار الثقيل فجّرها الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند، بإعلانه عدم الترشّح لولاية ثانية، في وقت بدا فيه أن حربا على الترشح للانتخابات التمهيدية لليسار بدأت تستعر مع إعراب رئيس وزرائه مانويل فالس رغبته خوض غمار الاقتراع التمهيدي.
قرارٌ يدخل تاريخ الجمهورية الخامسة من بابه الكبير، ذلك أن انسحاب أولاند من سباق الرئاسة لعام 2017 يعتبر سابقة من نوعها في البلاد منذ العام 1958، إذ لم يحدث قطّ وأن تخلّى رئيس عن ولايته الدستورية الثانية، باستثناء جورج بومبيدو الذي توفي في 1974 أثناء مباشرته لمهامه.
أولاند؛ الاشتراكي صاحب الـ 62 عاما، والمسكون منذ انتخابه رئيسا لفرنسا في الـ 6 من مايو ، بهاجس ترك بصمته في التاريخ، رفع العديد من الرهانات وبدا مصمّما، بحسب خطاباته الأولى لدى توليه الحكم، على المضي قدما في تحويلها إلى واقع ملموس.
تحدّيات بترها واقع سرعان ما اهتز على وقع الهجمات الإرهابية والاحتجاجات والإضرابات وقضايا الهجرة والهوية والبطالة، ليمنح اليمين الفرنسي فرصة الإستفادة من محصّلة هزيلة لولاية رئاسية وحيدة.
ومع أن "البصمة" الحاصلة لم تكن تلك التي لطالما تمناها أولاند، إلا أنها بلا شكّ كانت من بين الأسباب التي دفعته في وقت لاحق إلى التخلي عن ولايته الثانية.
"قرّرت عدم الترشّح للإنتخابات الرئاسية".. جملة مقتضبة قالها، الخميس الماضي، في نهاية خطاب من قصر "الإليزيه" بالعاصمة باريس لم تتجاوز مدّته الـ 10 دقائق، غير أنها غيّبت جميع ما قاله قبلها، وبدا أنها بالفعل "البصمة" التي أدخلت الرئيس الاشتراكي التاريخ.
وسائل الإعلام الفرنسية وصفت، في حينه، القرار بأنه "قفزة في المجهول السياسي"، معتبرة أنه عمّق من حالة عدم اليقين المخيّمة على اليسار الفرنسي.
خطاب "قاتم" و"عاطفي"، بحسب المصادر نفسها، بدا شبيها إلى حدّ كبير بذاك الذي ألقاه مساء الهجمات التي استهدفت باريس في الـ 13 من نوفمبر 2015، حين ظهر على شاشة التلفزيون في غاية التأثّر.
ذات التأثر بدا طاغيا على ملامح الرئيس الخميس الماضي.. حيث نبرة الصوت نفسها وهو يعلن للفرنسيين عدم ترشحه لولاية ثانية.
بعض المراقبين قالوا إنه بدا "مهزوما" كما لم يكن من قبل، غير أن البعض الآخر بدوا واثقين من أن أولاند "المدرّع ضد الشدائد" كان يدرك جيدا أنه بخياره غير المسبوق ذاك سيدخل تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة من أوسع أبوابه.
وبغض النظر عن أبعاد القرار، إلا أنّ المطلعين على الشأن الفرنسي يتفقون على أن فيه اعترافا بالفشل في تجسيد رهانات الرئيس الشخصية أولا، والإقتصادية- الإجتماعية ثانيا، ثم السياسية.
فمن الناحية الشخصية، اهتزّت صورة أولاند في أعين الفرنسيين منذ إرسال بعثة من الجيش في مهمة إلى مالي.
التزام عسكري أثقل كاهل ميزانية الدفاع، ورأى فيه عدد كبير من الفرنسيين سواء من الجناح الأيسر للحزب الإشتراكي الحاكم أو من اليمين، أو حتى من الرأي العام، "إسرافا" و"استنزافا" لموارد كان يمكن أن توجّه نحو قضايا داخلية حارقة مثل البطالة.
ومع استهداف البلاد منذ مطلع 2015 بهجمات إرهابية حصدت العديد من القتلى، فإنه ومهما بذل الرجل من جهود ومهما بلغت درجة صدقه، فقد فشل، وفق مراقبين، في تلبية تطلعات الفرنسيين وأداء مهامه على الوجه الذي أرادوه.
أما اقتصاديا واجتماعيا، فقد دافع أولاند، في خطابه عن محصّلة ولايته الأولى، معترفا في الآن نفسه بوجود "تأخير" أو "بعض الأخطاء".
اعتراف بدا مؤثّرا بالنسبة لأنصاره، لكنه أدانه بشكل أكبر في عيون خصومه السياسيين والرأي العام الفرنسي، حتى أن وسائل الإعلام الفرنسية، ولئن أقرّت بأن الرئيس كان مثقلا بمسؤوليات ولاية صعبة، إلا أنها أكدت في المقابل أن معدلات البطالة التي قطع خلال حملته الإنتخابية وعودا بالحد منها، لم تجنح نحو الإنخفاض إلا منذ عام.
كما أشارت إلى أن عدد طالبي العمل ارتفع منذ مايو أيار 2012، إلى أكثر من 550 ألف، في رقم قالت المصادر ذاتها إنه كاف لوحده لإدانته.
رهانات "ضائعة" كان لا بدّ وأن تقود الرجل إلى الفشل سياسيا. وبعجزه عن إقناع الفرنسيين برؤيته للبلاد وصواب نهجه، انزلق سريعا إلى هاوية أفقدته شعبيته، ولنفس الأسباب تقريبا، انقسم حزبه، وأعلن جناحه الأيسر، أو ما يعرف بـ "المتمردين" معارضته لسياسته التي وصفوها بـ "الليبرالية".
ومنذ 3 سنوات تقريبا، أعرب جزء من الأغلبية الرئاسية عن رفضه لسياسته، مستنكرا خياراته وتوجّهاته التي لم تكن موجودة في برنامجه الإنتخابي.
وقبل أشهر، أعلن وزير الاقتصاد السابق، الإشتراكي إيمانويل ماكرون، استقالته وترشحه لانتخابات الرئاسة في 2017، في تحدّي صارخ وصريح لأولاند.
ومؤخرا، وتحديدا قبل إعلان الرئيس انسحابه، لم يتردد رئيس وزرائه مانويل فالس في التحذير من مخاطر ترشح جديد للرئيس، وصفه بـ "الهش"، بإعتبار مكانة الأخير الحالية في عيون الفرنسيين واليسار والاشتراكيين.
استشراف سرعان ما تجسّد، ونتيجة خلص إليها الرئيس الفرنسي مبكرا بإعلان عدم ترشحه ثانية.
خيار بدا واعيا بجملة المخاطر التي يمكن أن تنجم عن الترشح لولاية ثانية، والفشل في بلوغ الدور الثاني، مع ما يعنيه ذلك من فشل لليسار الفرنسي، وتكرار صدمة وزلزال رئاسيات الـ 21 من أبريل 2002، حين وصل اليميني المتطرّف، جان ماري لوبان، للدور الثاني للاقتراع.
إضافة تعليق جديد