نسلط هذه الدراسة الضوء على مفهوم التنمية المستدامة من توسع خيارات الناس وقدراتهم من خلال تكوين رأسمال اجتماعي لتلبية حاجات الأجيال الحالية بإعداد طريقة ممكنه دون الإضرار بحاجات الأجيال القادمة ، واختبار الأنماط الاقتصادية والاجتماعية التنموية التي تتناسب مع الاهتمام البيئي الملائم ، ومنع حدوث أضرار سلبية من دورها أن تنعكس على البيئة العالمية، ومن هذا المنطلق تطرقنا الى التجارب الناجحة لبعض الدول في التنمية المستدامة منها التجربة الماليزية
خلال سنوات قليلة نسبيًا استطاعت ماليزيا أن تتحول من دولة تمزق جسدها الصراعات العرقية والحروب الأهلية لتصبح دولة يحتذى بها في مجال التنمية، حيث ارتفع متوسط دخل الفرد الماليزي من 600 دولار عام 1980 إلى 10 آلاف دولار عام 2001، كما ارتفعت قيمة الصادرات الماليزية من 5 مليارات دولار عام 1980 إلى نحو 100 مليار دولار في عام 2002 ، وتضاعف الحجم التراكمي للاستثمارات الأجنبية من 2,5 مليار دولار إلى 56,5 مليار دولار خلال نفس الفترة، وتراجعت معدلات الفقر من 49.3% إلى 7.5% خلال الفترة من 1970 حتى 1999.
وقد ركزت ماليزيا على دعم قطاع التصنيع، لتصبح أحد أهم مصدري الصناعات عالية التقنية، بعدما كانت تصدر المواد الخام وعلى رأسها المطاط وزيت النخيل، والتوسع في برامج الخصخصة وتمليك المواطنين الشركات العامة، وفق خطط اقتصادية مدروسة بما أدى إلى الحد من عجز الموازنة، والدين العام. كما عملت على تقليل فجوة التفاوت الطبقي بين العرقيات المختلفة، وهي الفجوة التي لم تكن في صالح الملاويين، سكان البلاد الأصليين، من خلال سياسات اقتصادية واجتماعية رفعت نصيب هذه الفئة من الثروة من نحو 3.5% في الستينيات إلى نحو 30% في بداية الألفية الثالثة، ما ساعد كثيرًا في إرساء وترسيخ الاستقرار الاجتماعي.
ولعل ما يميز التجربة الماليزية انتهاجها أساليب ابتكارية تراعي المصلحة الوطنية في علاج مشكلاتها، حيث رفضت في عام 1997 توصيات صندوق النقد الدولي، وأوجدت بدائل وحلول وطنية كان على رأسها تحجيم الفساد وإصلاح الجهاز الإداري للدولة ومحاربة المضاربة على عملتها في الخارج، كما اتبعت خارجيًا سياسة قوامها التنمية والتوجه شرقًا في محاولة منهـا للاستفادة من نماذج التنمية الآسيوية المتقدمة، وفي مقدمتها اليابان، بما ساعد في دعم العمالة الماليزية المدربة تدريبا تكنولوجيا عاليًا وإرسال البعثات الطلابية والعمالية للتعليم والتدريب.
تعتبر تجربة التنمية في ماليزيا تجربة مهمة بالنسبة للبلدان العربية باعتبارها تتم في بلد إسلامي بهدف التنمية والنهوض الاقتصادي، في ظل سياسة منفتحة على العالم الخارجي. وتستمد هذه التجربة خصوصيتها من أنها محاولة جريئة للدخول في دائرة العولمة مع الحفاظ على درجة كبيرة من هامش الوطنية الاقتصادية، ولقد نجحت تلك المعادلة الصعبة في التطبيق في ظل القيادة الحكيمة للاقتصاد الماليزي والتي ركزت ومنذ عام 1981 على ثلاث " النمو، التحديث، التصنيع"، باعتبار تلك القضايا الثلاث أولويات اقتصادية وطنية. كما تم التركيز على مفهوم ماليزيا كشراكة تجمع ما بين القطاع العام والقطاع الخاص.
إن التجربة التنموية الماليزية هي تجربة جديرة بالتأمل نظرا لكونها تتميز بالكثير من الدروس التي يمكن استخلاصها في مجال تحقيق انطلاق اقتصادي رائد، فقد استطاع هذا البلد رغم صغر مساحته وطبيعة تضاريسه، وتنوع أعراقه وأجناسه أن يتبوأ مكانة بين الدول الصناعية الكبرى، بفضل استثماره في الفرد والتركيز على المنظومة التعليمية والدمج بين القيم المجتمعية والأداء الاقتصادي بغية تحقيق التنمية المستدامة الشاملة لجميع القطاعات.
د عبدالعليم المنشاوي
مدير فرع الاتحاد العربي للتنمية المستدامة والبيئة بسوهاج
إضافة تعليق جديد