رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الثلاثاء 1 يوليو 2025 2:42 ص توقيت القاهرة

مريم... زهرة البحر التي عاد بها القدر إلى ضفاف الحياة قصة معجزة أبكت تونس وأفرحت قلوبها

بقلم د/سماح عزازي 

في زمنٍ باتت فيه الأخبار الثقيلة تطغى، وحكايات الألم تُزاحم تفاصيل أيامنا، تُطل علينا الحياة أحيانًا بلحظة استثنائية... لحظة تُعيد ترميم ما تصدّع في قلوبنا من يأس، وتُهمس لنا أن فوق كل شيء قدرة لا تُقهر... قدرة الخالق الذي إذا أراد قال للشيء "كُن فيكون".

هي ليست مجرد قصة طفلة ابتلعها البحر وأعادها القدر... بل حكاية إنسانية تكتب نفسها بحروف من نور على جبين هذا العالم الذي ما زال، رغم قسوته، يحتفظ بمساحات من الرحمة، وبمقاعد للمعجزات.

في قليبية، المدينة التونسية الوديعة التي يغازلها البحر كل صباح، دوّى بالأمس صراخ أمٍّ فجعت، وارتجفت قلوب مصطافين شاهدوا بأعينهم كيف يمكن لموجة أن تختطف قطعة من الروح. لكن البحر الذي أخذ... عاد، مرغَمًا، ليمنح. عاد، بعد ليلة طويلة من الصمت والخوف، ليُعيد مريم... زهرة الثلاث سنوات... حيّة، نابضة، دافئة، إلى أحضان الأرض وأحضان أمها.

إنها قصة لا تبدأ بالغرق، بل تبدأ حين تُثبت الحياة، مرة أخرى، أن فوق كل يدٍ تمتد هناك يدٌ أقوى... يد السماء.

في عالمٍ يضيق فيه الأمل أحيانًا، تظل يد القدر قادرة على خطّ الحكايات التي تتجاوز حدود المنطق، لتُذكرنا أن رحمة السماء لا سقف لها... هذا ما حدث مع الطفلة التونسية "مريم"، ذات الأعوام الثلاثة، التي واجهت أمواج البحر ببراءة الطفولة، وعادت إلى الحياة بعد أن قضت ليلة كاملة في قلب المجهول، وسط عباب المياه الباردة، متحدية قانون الطبيعة، ومستندة إلى رحمة الخالق.

حين ابتلعها البحر... وانحبست الأنفاس
كانت الشمس تميل نحو المغيب على شاطئ قليبية، المدينة الساحرة الواقعة شمال شرقي تونس، حين علت ضحكات مريم، وهي تركض بين الرمال تحت أنظار والدتها، في مشهد مألوف من صيف تونسي دافئ. لكن فجأة، وبدون سابق إنذار، امتدت يد البحر، وسحبت الطفلة الصغيرة إلى أعماقه، في لحظة جنونية جمعت بين صرخة أم مكلومة وذهول كل من كان على الشاطئ.

هرع الجميع، هرولت الأقدام، وامتدت الأيادي تبحث عن أي أثر... لكن البحر، كما لو أنه ابتلع أثر مريم بين موجة وأخرى، ظل صامتًا قاسيًا، لا يبوح بسرّه لأحد.

ليلة الموت والرجاء... البحر لا ينام
لم تهدأ الأصوات. وحدات الحرس البحري هرعت إلى المكان، ومعها زوارق البحث، وارتفعت في السماء مروحية تابعة للجيش التونسي، تنقب في عتمة الماء عن جسد صغير... جسد ربما صارع، وربما استسلم، وربما... يعانق الحياة في مكان ما.

مع مرور الساعات، اشتد الخوف، وبدأت أنفاس الأمل تخفت شيئًا فشيئًا، لكنّ قلوب الأهالي وأفراد العائلة لم تعرف الاستسلام. تضامن الجميع، من قليبية إلى كل ربوع تونس. مواقع التواصل اشتعلت بدعوات الأمهات، ودموع الجدات، وقلوب لم تنم، تترجّى أن تكون النهاية سعيدة.

الصباح... حين ولدت المعجزة
وفي الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، كان البحر على موعد مع لحظة انحناء... حين التقط أحد قوارب الصيد جسدًا صغيرًا يطفو فوق سطح الماء. اقترب الصيادون، ارتجفت الأيادي، وتعلّقت القلوب... وما إن اقتربوا حتى كانت المفاجأة المذهلة: إنها مريم... نعم، مريم، على قيد الحياة!

تخيلوا المشهد: جسد صغير، يرتجف بين زرقة الماء وسواد الليل الذي مضى، وعينان نصف مغمضتين، لكنهما لا تزالان تشبثان بالخيط الأخير من الحياة.

الصيادون، الذين بالكاد كانوا يصدقون ما يرون، سارعوا بحملها إلى المركب، ثم إلى الميناء، حيث كانت سيارات الإسعاف تنتظر بأملٍ ممزوج بالخوف.

الطب يتحدث... والقلوب تبتهل
أكدت الفرق الطبية التي استقبلت مريم في المستشفى المحلي أن حالتها الصحية مستقرة، وأنها تخضع للمراقبة الدقيقة، دون أن تُظهر مؤشرات خطرة، سوى آثار البرد والإرهاق الذي نهش جسدها الصغير.

وما إن عمّ الخبر أرجاء المدينة حتى اجتاحتها موجة عارمة من الفرح... صرخات التكبير، دموع الفرح، وأهازيج الأهالي الذين خرجوا إلى الشوارع، يُحيّون كل من ساهم في هذه المعجزة، ويُصلّون شكرًا لمن لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

"يا رب... قدّرت فأنقذت"
تداول النشطاء صور مريم وهي بين أيدي رجال الإنقاذ، مبللة، مرهقة، لكنها حيّة... حيّة بقوة الدعاء، وبعناية الله، وبإرادة لم يدركها بشر.

كتب أحدهم:
"ربك إذا أراد قال للبحر: قف... وللأمواج: انحسروا... وللموت: تأخر... فعاد الأمل بين ذراعي أمٍّ ذاقت لوعة الفقد لساعات كانت أطول من العمر ذاته."

وكتب آخر:
"مريم ليست مجرد طفلة نجت من البحر... مريم اليوم أصبحت رمزًا لقدرة الله، ودليلًا أن المعجزات لا تزال تُولد بيننا."

أصداء واسعة... وقصة لن تُنسى
وسائل الإعلام المحلية والدولية نقلت الخبر كحدث إنساني استثنائي، بينما امتلأت مواقع التواصل بصور الطفلة، وعبارات التضامن والفرح، ورسائل إلى كل أم وأب في العالم: لا تيأسوا... فحين تنقطع أسباب الأرض، تفتح السماء أبوابها.

دروس البحر وحكمة السماء
حين تعود مريم إلى حضن والدتها، تعود معها حكاية لا تُنسى... حكاية طفلة تحدّت الغرق والموت والليل والبرد، ببراءتها أولًا، وبإرادة السماء قبل كل شيء.

الطفلة مريم، التي عادت إلى اليابسة، ستكبر يومًا وتسمع حكايتها من أفواه الجميع، وستدرك أن الحياة ليست دائمًا حكاية منطقية، بل أحيانًا، هي معجزة تنتصر على كل قوانين الكون.

وهكذا... بين زرقة البحر وسواد الليل، وبين دعاء الأمهات وأنين القلوب، كُتبت لمريم حياة جديدة، وعاد معها الأمل يمشي على قدميه فوق رمال قليبية.

هي ليست مجرد نجاة، بل درس كونيّ عظيم... أن لا شيء أقوى من إرادة الله، وأنه حين تغلق الأبواب، تفتح السماء نوافذها لمن يطرقها بقلب صادق.

ستكبر مريم، وستسمع حكايتها تُروى على ألسنة الناس، وسيُقال لها يومًا: "يا صغيرة، لقد واجهتِ البحر، وصافحتِ الموت، وعدتِ إلينا، لأنك كنتِ في كفّ الرحمن... لأن الله كتب لك الحياة حين ظن الجميع أن الأمل قد غرق."

 تبقى الحقيقة الكبرى أن البحر، مهما تجبّر وتوحّش، يظل أصغر من أن يهزم رحمة الله... وأن بين الموج والموت... هناك دومًا معجزة تنتظر من يؤمن.

في النهاية ... يظل البحر، مهما اشتدت أمواجه، أضعف من أن يهزم قدرًا أراده الله حياة.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
10 + 3 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.