بقلم /سماح عزازي
حين تلامس قدماك ضفاف النيل، تشعر أن الأرض تحتك تنبض بالحياة، وأن الهواء الذي يملأ رئتيك ليس مجرد
هواء، بل عبير تاريخ طويل يمتد من فجر الحضارة حتى
هذه اللحظة. هنا، حيث ينساب الماء في صمت مهيب، وحيث تعكس صفحته الزرقاء سماء مصر الصافية، تدرك
أن الطبيعة ليست مجرد إطار جميل لحياتنا، بل قلب
نابض يمدنا بالسكينة والقوة معًا.
على حافة هذا النهر الخالد، تذوب الفواصل بين الحاضر والماضي، فيتداخل صوت خرير الماء مع أناشيد الفراعنة، وتتمازج رائحة الطمي مع عبق الأرض التي أنجبت حضارة لا تُنسى. النيل ليس مجرد مجرى مائي، بل شريان أزلي يربط الأرض بالسماء، والإنسان بالحلم، والوطن بالخلود. وهنا، بين خضرة الضفاف وزرقة المجرى، يتجلى وجه مصر الحقيقي… هادئًا كالماء، صلبًا كالأرض، كريمًا كالعطاء.
على ضفاف النيل، حيث يتراقص ضوء الشمس فوق صفحة الماء في لوحة أبدعها الخالق، أجلس مستسلمة لسحر هذا النهر الخالد، أستنشق عبير الصباح الممزوج برائحة الطمي، وأستمع إلى همس الرياح وهي تمر بين أغصان الأشجار كأنها تعزف سيمفونية أبدية. في هذه اللحظات، أدرك تمامًا أن مصر لم تُسمَّ "هبة النيل" عبثًا، بل لأن كل قطرة ماء تجري فيه هي حياة، وكل نسمة تهب من ضفافه هي نعمة.
النيل ليس مجرد نهر، بل تاريخ يمضي، وذاكرة تحفظ قصص الأجداد، وأحلام الأجيال القادمة. على ضفافه قامت الحضارة المصرية القديمة، ونُحتت المعابد، وزُرعت الحقول، وامتلأت القلوب بالأمل. هنا، عند هذا المجرى الأزلي، تشعر أن الزمن يتوقف قليلًا ليفسح المجال لجمال الطبيعة أن يتحدث بلغته الخاصة، لغة لا تحتاج إلى كلمات، بل يكفيك أن تنظر وتتنفس وتشعر.
أحب مصر لأنها وطن يجمع في قلبه الصحراء والخصب، الجبل والنهر، البحر والسهل. أحبها لأنها ليست مجرد أرض، بل روح تشعر بك وتمنحك الأمان. على ضفاف النيل، أرى ملامحها الحقيقية: الصبر، الكرم، العطاء، والشموخ. أرى الفلاح المصري وهو يزرع الأرض كما فعل أجداده منذ آلاف السنين، أرى الصبية يمرحون على الشاطئ، والطيور تحلق فوق الماء، وكأنها تحرس سر الخلود.
كل شيء في هذا المشهد يدعوك للتأمل. ترى النخيل واقفًا شامخًا، يعكس كبرياء المصري الأصيل، وترى السنابل تلمع تحت أشعة الشمس، وكأنها تبارك الأرض التي أنبتتها. تسمع خرير الماء، فيذكرك أن مصر ما زالت تنبض بالحياة مهما تعاقبت المحن.
النيل علمني أن القوة الحقيقية في العطاء المستمر، وأن الحب الصادق لا يعرف الجفاف. كل موجة تمر أمامي تهمس: "أنا هنا منذ فجر التاريخ، وسأظل أحملك يا مصر على مياهي إلى المستقبل". كم نحن محظوظون أن نعيش على أرض وهبها الله نهرًا لا ينضب، وأرضًا لا تبخل، وشمسًا لا تغيب إلا لتشرق من جديد.
وأنا جالسة هنا، أشعر أن قلبي يذوب عشقًا لهذا الوطن. مصر ليست فقط هبة النيل، بل هبة السماء لنا، وأمانة علينا أن نحافظ عليها، كما حافظ عليها أجدادنا. هي اللوحة التي رسمها الله بفرشاة الطبيعة، فأبدع فيها كل تفصيلة… من زرقة السماء، إلى خضرة الأرض، إلى زرقة النهر الذي لا يعرف النهاية.
ولأنني أحبها، أتعهد في صمت أن أكون ابنة وفية، تزرع الجمال حيثما مرّت، وتروي العطش بالحب، وتحمل في قلبها دائمًا صورة هذا المشهد الأبدي: مصر وهي تعانق النيل، في صباح هادئ، حيث لا صوت يعلو على صوت الطبيعة، ولا حب يعلو على حب الوطن.
وعندما تبدأ الشمس رحلة الغروب، وتلقي بأشعتها الأخيرة على صفحة النيل فتتحول إلى نهر من الذهب، أشعر أن روحي قد ارتوت بما يكفي من الجمال لتكمل الطريق. يظل النيل في عيني رمزًا لكل ما هو خالد في مصر، شاهداً على صبرها، على قوتها، وعلى عشقها للحياة رغم كل ما مرّ بها من محن.
إن الجلوس أمامه ليس مجرد لحظة استرخاء، بل لقاء مع الذات، ومصالحة مع الماضي، ووعد للمستقبل. مصر، وهي تحتضن النيل، تبدو كأمٍ حانية لا تعرف القسوة، تمنح أبناءها الأمان والخصب والحنان، وتغفر لهم زلاتهم لأنها تعرف أنهم جزء من روحها.
وحين أغادر ضفافه، أحمل معي وعدًا صامتًا: أن أظل وفية لهذه الأرض كما ظل النيل وفيًا لها منذ آلاف السنين. فالوطن الذي يسقيك ماءه، ويغذيك خيره، ويمنحك سماءه، لا يمكن أن يُحب نصف حب. لذلك سأظل أردد كما يردد النهر في جريانه الأبدي: تحيا مصر… هبة النيل، وقبلة العاشقين، وأغنية الحياة التي لا تنتهي.
إضافة تعليق جديد