إعداد الكاتب سمير الشرنوبي
ميراث من الأصالة المتفردة
كان مولد الكاتب الكبير وأمير المسرح العربي الأستاذ / توفيق الحكيم، في مدينة الإسكندرية المصرية سنة 1898 ، ثم أرسله والده إلى القاهرة ليتم تعليمه بها ، وكان له منذ صغره ميل واضح للموسيقى ومشاهدة فن التمثيل ، فلما استيقظت مواهبه الأدبية بدأ يتجه لكتابة التمثيليات ، منذ سنة 1922 (أو قبل ذلك بحوالي أربع سنوات) متأثراً بالروح القومية ، وعندما نال إجازة الحقوق سنة 1924 سافر إلى العاصمة الفرنسية باريس ، ليستكمل دراسته القانونية (وفقاً لرغبة والده الذي كان من رجال القضاء) ، ولكنه انصرف إلى الإطلاع على روائع القصص والأدب المسرحي العالمي ، والتردد على دور التمثيل ، وأشبع هوايته من الموسيقى التي شغف بها ، كما درس المسرح الإغريقي وأسسه وقواعده وما انتهى إليه من تطور في الغرب ، وتأثر بكل هذه الدراسات والمشاهدات والثقافات الفنية التي استغرق فيها .
وعاد الحكيم من أوربا سنة 1928 فاشتغل بالنيابة العامة ، وتقلب في عدة وظائف حكومية ، ثم استقال ، ليتفرغ لرسالته الفنية ، وتوالى إنتاجه الأدبي : من مقالات أدبية ونقدية ، ومن أقاصيص ، وقصص طويلة ، ومسرحيات كثيرة .
وفي سنة 1950 عين الأستاذ / الحكيم مديراً لدار الكتب المصرية ، ثم عضواً متفرغاً بالمجلس الأعلى للآداب والفنون (المجلس الأعلى للثقافة حالياً) .
وأعمال الحكيم الأدبية كثيرة لا يتسع لها هذا التعريف الموجز ، ومن مسرحياته : أهل الكهف ، وسليمان الحكيم ، وبجماليون ، والملك أوديب ، وشهرزاد ، والأيدي الناعمة .. إلخ .. إلخ .. ، وقد تم ترجمة الكثير من آثاره إلى بعض اللغات الأوربية الحية .
و تذهب أغلب الكتابات عن توفيق الحكيم إلى أن أول مسرحية كتبها : أهل الكهف ، سنة 1933 ، وأن آخر مسرحية كتبها : الحمير ، سنة 1975 ، وأن أول وظيفة شغلها كانت وكيل نيابة سنة 1930 ، وأول منصب شغله كان مفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف العمومية (التربية والتعليم) ، سنة 1934 ، وآخر منصب تولاه كان رئاسة المركز المصري للهيئة الدولية للمسرح ، و يقال إنه كتب نحو مائة مسرحية ، و62 كتابًا ، كما أنه منح درجة الدكتوراه الفخرية سنة 1975 من أكاديمية الفنون المصرية .
ويعد توفيق الحكيم بحق عميد الكتاب الذين نهضوا بمسرحنا العربي ، وجعلوا له شخصية مستقلة ، تعتمد على فلسفة مستمدة من روح الشرق ، وهو دون مبالغة أستاذٌ كتاب المسرح العربي في عصرنا الحديث .
في طيات الغيوب :
وفي مساء يوم الأحد الموافق السادس والعشرين من شهر يوليو سنة 1987 ، أفلت شمس حياة توفيق الحكيم ، واستخفت عن الأبصار في طيات الغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى
وكان حتماً مقضياً أن تأفل وتغيب ، مهما طالت سنوات العمر , وتلك سنة الله المحتومة ، ولن نجد لسنة الله تبديلا ، غير أن نورها لا يزال وسيبقى أبداً منبعثاً من ثنايا إنتاجه الفكري والإبداعي الخصب الوفير ، والذي ما توانى عن التجديد والصدور خلال ما يزيد عن ستين عاماً .
وهذا الإنتاج الثري المنوع في : الفكر ، والمسرح ، والرواية ، والسيرة الذاتية ، والقصة ، والخاطرة ، والمقالة ، والنقد النظري ، هذا الإنتاج الذي يكاد يعادل ـ دون مبالغة ـ إنتاج جيل بأكمله من الأجيال المتأخرة .
مؤسسة فكرية :
لذا ، يعتبر توفيق الحكيم بذاته مؤسسة فكرية إبداعية بارزة ، متقدمة ، مؤسسة للتوعية الثقافية والاستنارة الفكرية ، وإن أنصفنا لقلنا : بمنهج شخصي خاص ، وروح فكرية متفردة.. ولكن ، ألا يتفرد بذلك ـ عادة ـ كبار الكتاب وأصحاب الأساليب المتميزة الذين هم نسيج وحدهم؟ ! .
وإذا كان لتاريخ الدراما العربية منذ نشأتها وحتى الآن أن يتسلسل في حلقات من التطور ، فإن إسهام الحكيم فيه ، يتمثل في حلقة كبيرة متميزة ، تتنوع بداخلها الأشكال والأساليب الدرامية من : مأساة ، وملهاة ، ومأسلهاة ، وهزلية . ومن : واقعية ، ورومانسية ، وذهنية ، ورمزية ، وعبثية ... إلى آخر هذه الأساليب التي تمكن منها توفيق الحكيم في إبداعه الفني المتميز .
محاولات حميدة :
نضيف إلى ذلك محاولاته الحميدة في التنظير الدرامي ، وابتكاره المسراوية (القالب الفني الذي يجمع بين المسرحية والرواية ) ، وتجديده في القالب المسرحي العربي ، ولا نبتعد عن الصواب إذا قلنا : إن إبداعه لهذا القالب ، وابتكاره للغة المسرحية الثالثة (الفصعامية) ، كان له أكبر الأثر الفاعل في حركة وتطور المسرح العربي الحديث والمعاصر .
إن تلك الحلقة الذهبية البارزة التي أضافها الحكيم إلى حركة الدراما العربية ، ونعني بها المسرحية ، تتضاءل أمامها كماً وكيفاً كل الحلقات التي سبقتها ، وكذلك كل التي لحقت بها .
وعليه احتل الحكيم عن جدارة ، وسيحتل لسنوات قادمة مديدة ، ا قمة الإبداع في الوطن العربي ، ولما لا وقد أفسح لنفسه بها مكاناً بين مؤلفي الدراما في العالم الخارجي ، ومن ثم قلما نجد مؤلفاً عربياً معاصراً ، لم يقرأ بعضاً من نتاج الحكيم الإبداعي ، ولم يتأثر بفكره وبتقنياته الفنية ، حتى ولو على نحو معارض أو مقلد أو رافض .
الحوار الشائق :
وفي تصورنا أن أبرز خصيصة اشتهر بها الحكيم في مسرحياته ، أسلوبه الحواري الشائق الرائق الذي امتاز واتسم بالسهولة الممتعة الممتنعة ، وبسلاسة العبارة ، وتسلسل الأفكار التي ترتدي أزياءها اللغوية السليمة الصحيحة البسيطة ، لتكون بحق السهولة الممتنعة ، وتتجافى التكلف والتقعر ، كما تتخلل لغته الحوارية في نفس الآن روحاً مصرية أصيلة ، تسرع في التقاط المفارقات في اللغة أو الموقف وتفجرها ـ إذا لزم الأمر ـ بالسخرية التي تولد الشجن أو البسمة المحببة إلى النفس الإنسانية .
وبهذا الأسلوب الحواري المتميز والذي تفرد به الحكيم ، شارك معاصريه من مزدوجي اللغة ، مثل : عميد الأدب العربي الدكتور / طه حسين ، وعملاق الفكر العربي / عباس محمود العقاد ، والأستاذ / إبراهيم عبد القادرالمازني ، والدكتور / محمد حسين هيكل ، والأستاذ /أحمد حسن الزيات ، والدكتور / أحمد أمين.. وغيرهم ، شاركهم رحلة بحثهم الدائب في تعصير لغة الكتابة الأدبية ، وفي السعي المستمر إلى تحقيق هوية ثقافية عربية معاصرة مستنيرة تجاهد في مصالحة الماضي الموروث والحاضر المجلوب ، عن طريق تمثيل القديم بلا تعصب ، والاحتفاء بالتيارات الحضارية الوافدة بلا أدنى تهافت اعتباطي ، أو تحفظ يخرجها على نحو متشكك أو متردد .
الوافد والأصيل :
ومن هنا كان من أميز كتابات أمير المسرح العربي / توفيق الحكيم كلها ، تعبيرها عن تيار أللا شعور ، لقد رضع من الثقافة العربية الشرقية الأصيلة الموروثة ، وتغذى من الثقافة الغربية والعالمية الوافدة .
فإذا كان قلب الحكيم مع : الجاحظ ، وأشعب ، وأهل الكهف ، والقرطبي ، وابن هشام ، وأحمد بن عبد ربه , والطبري ، فقد كان عقله مع : أريستو فان ، وسوفو كليس ، وجوته ، وإبسن ، وبرنارد شو ، وبيتهوفن ، وموزارت ، ودافنشي ، وسيزار ، و رامبرانت .. وغيرهم ، ولذا كانت كتابات الحكيم تترقرق بنكهة الموقف الشرقي الذي هضمه جيداً ، واستوعب ما امتاحه من شتى الينابيع الثقافية التي استرفدها سواء كانت إسلامية أو عربية أو فرعونية أو يونانية أو فرنسية أو عالمية أو مصرية حديثة ، استوعب كل ذلك بمشاعر الفنان وعقله .
وهكذا إذا ما كانت الجذور مؤصلة معمقة في التربة الثقافية القومية ، وكان ريها من تهطال غيوم ريح الشمال الوافدة ، فإنها لا تفقد جوهر طبيعتها أو أصالتها ، وإنما تشعر ـ ما لا بد من استثماره الآن ـ فكراً عصرياً واعياً مستنيراً يصل الأمس باليوم ، واليوم بالغد .
ريادة لا تنكر :
ولا شك أن نتاج توفيق الحكيم الإبداعي والفكري الذي وصل إلى ما يربو عن مائة مؤلف ، تخصبه الدراسات الجادة الممنهجة ، التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تنكر دوره الريادي في تاريخنا الفكري والثقافي والإبداعي المعاصر ، ولكنها يمكن أن تختلف وتتقارع حول قيمة هذا الإنتاج وطبيعته ، وتتقارع حول ما إذا كان لهذا الإنتاج دلالة أو أكثر ، وهذا يجعلنا نؤكد على ضرورة أن تكون الدراسات أو الكتابات النقدية عن توفيق الحكيم كتابات جادة تسبر الغور بعيداً عن التسطيح ، فلا يصح أن تكون مجرد أناشيد جوقية جوفاء بعيدة عن المنهج العلمي السليم .
وبعد ذلك يمكنا القول أن ميراث الحكيم الأدبي والفكري يشبه قطع الكريستال الأصيلة المعلقة في سماء أدبنا العربي الحديث التي تتضوأ باللمعان ، الرائقة الشفافة ، فيرى الواقفون حولها ألواناً تتنوع كلما زفزفتها ريح الزمن .
يجدر بالذكر هنا أن تعبير (ميراث من الكريستال الأصيل) هو تعبير للأستاذ الدكتور / إبراهيم حمادة ، أستاذ الأدب والنقد (عليه رحمة الله) ، والذي عمل الكاتب تحت قيادته كمحرر ، عندما كان رئيسًا لتحرير مجلة (القاهرة) ، والتي كانت تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، وقد تعلمنا منه الكثير والكثير .تحياتي وتقديري لمعاليكم السامية اصدقائي واحبابي
إضافة تعليق جديد