رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأحد 23 فبراير 2025 10:48 م توقيت القاهرة

حياة الظل وتأكل الروح بقلم الأديب المصرى

د. طارق رضوان جمعة
وكيفَ للنَّبعِ الصَّافي أنْ يُبرِّرَ صفاءَهُ للماءِ الآسنِ؟ وكيفَ للسَّيفِ القاطعِ أنْ يُثبِتَ مضاءَهُ للخَشَبِ الهَشِّ؟
أيا من تحترفُ الخداعَ، ألا تُدرك أنك
أوَّلُ ضحاياهُ. أيا من تنسُجونَ حولَ أنفسِكم هالةً مِنَ النَّقاءِ، كأنَّكم مُعصومونَ مِنَ الدَّنسِ، بينما تتراكمُ خطاياكمُ فى صدوركم حتى ينطق لسانكم بما فى قلوبكم ، فاللسان مرأة القلب.
تتحدَّثونَ عنِ العدلِ! كيف وهداكم ليس إلا ميزانٌ مائلٌ، لا يرى إلَّا كفَّةً واحدةً، فإنْ أخطأتم، كانتْ زلَّةً تستوجبُ الغُفرانَ، وإنْ أخطأَ غيرُكم، كانَ جرمًا لا يُغتفرُ. تدَّعونَ الحكمةَ، لكنَّ عقولَكم كمرآةٍ غائمةٍ، لا تعكسُ إلَّا ما تريدونَ رؤيتَهُ.
محاطون نحن بمن يجلدوننا ويجلدونَ الآخرينَ بسياطِ النَّقدِ، لكنَّهم يحيكونَ لأنفسِهم أثوابَ الفضيلةِ مِنْ خيوطِ الوهمِ. إنْ واجهتَهم بالحقيقةِ، أصمُّوا آذانَهم، وإنْ واجهوكَ بالبهتانِ، أيقنوا أنَّهُ الحقُّ. يتغذَّونَ على تقزيمِ غيرِهم، ليسَ لأنَّهم عظماءُ، بل لأنَّهم لا يحتملونَ رؤيةَ أحدٍ يرتفعُ فوقَ قامتِهم الهزيلةِ.
يُشبِهونَ ظلًّا يتراقصُ خلفكَ، لا تراهُ إلَّا حينَ تسيرُ في النُّورِ، لكنَّهُ يختفي حينَ تُواجهُهُ. يعكسونَ عيوبَهم على غيرِهم كما تعكسُ المرآةُ صورتَها المقلوبةَ، فإنْ مدحتَهم أغرقوكَ بحلاوةِ اللِّسانِ، وإنْ كشفتَ زيفَهم، مزَّقوكَ بأنيابِهم كما تفعلُ الضِّباعُ حينَ تستشعرُ خطرَ الانكشافِ.
إنَّهم كَمَنْ يَحفِرُ بئرًا في الرَّملِ، يُرهِقُ نفسَهُ بلا طائلٍ، ثمَّ يَلومُ الأرضَ على جفافِها. فإنَّ الجائعَ إلى الوهمِ لا يَشبَعُ، والعَطشانَ إلى الزَّيفِ لا يَرتوي، والسَّائرَ في العَتمةِ لا يَلتفِتُ إلى الشَّمسِ حتَّى يَضِلَّ طريقَهُ تَمامًا.
فهل يَهتز جبلُّ لأنَّ الرِّيحَ عابثةٌ، أو يَلتفِتُ لأنَّ الصَّدى فارغٌ! لا تُخبِرْهُم مَنْ تَكونُ، فإنَّ الشَّمسَ لا تَكتُبُ بَيانًا كي تُقنِعَ الأرضَ أنَّها تُشرِقُ كلَّ يومٍ، ولا البحرُ يُبرِّرُ مدَّهُ وجزرَهُ لمَنْ لا يَفهَمُ لُغتَهُ.
إنَّ السَّماءَ لا يُطفِئُها دُخان. فقط كن مُنسابًا كالماء في جريانه، لا يقيّده قالب، ولا تحدّه أسوار. لا تتقمّص وجوهًا مستعارة، ولا تُرهق روحك بالتزييف، فالعالم مليء بأشباح تتنكر في هيئة بشر، وأنت لست منهم. أرتقى فالقاع ممتلىء.
كن كالشمس حين تشعّ، لا تأبه لمن يشتكي من حرارتها، ولا لمن يُغمض عينيه أمام نورها. كن كالريح، تمرّ حيث تشاء، لا تُساوم، لا تتكلف، لا ترضى أن تُحبس في زجاجة التوقعات الباهتة.
لا تُناقشْهُم، فالنِّقاشُ معهم كنَفخِ الرِّيحِ في رمادٍ باردٍ. ولا تُحاوِلْ إيقاظَهم، فالنَّائمُ قد يَستيقظُ، أمَّا المُتغافلُ عنْ عَمدٍ، فقدِ اختارَ الظَّلامَ مَهْدًا لهُ.
سِرْ في دَربِكَ، واترُكْهُم في متاهاتِهم، فإنَّ الرِّيحَ لا تُعاتبُ الغبارَ، والموجَ لا يُحاورُ الزَّبدَ، والسَّماءَ لا تَنحني كي تُثبِتَ للأعمى أنَّها زرقاءُ.
فليس لزامًا أن تحمل وجوهًا لا تشبهك كي يرضى عنك من لا يراك إلا كما يريد. تقبّل الناس ما دامت أرواحهم لا تعكر ماء نقائك، وما دامت عيوبهم لا تُدنس شرف المبدأ ولا تُفسد نقاء السريرة. أما الخِسّة، والنكران، وقلة الأصل، فهي عيوب لا تصلح إلا للمهملات، لا للتسامح ولا للغفران. فلا تطلب من غيرك أن يكون ملاكًا، لكن لا تقبل بمن يسير على جناح الغدر ويحسبه فضيلة.
لا تكن رقماً في معادلة وضِعت قبل أن تولد. اصرخ إن شئت، ارقص إن طاب لك، ابكِ إن اختنقت روحك، واضحك حتى تتردد أصداء ضحكتك في جنبات السماء.
إن ارتجفت الأرض تحت قدميك، فاثبت كما تثبت الجبال، وإن لوّحت لك العيون بنظرات لا تفهمك، فابتسم، لأنك وحدك تفهم ذاتك. لا تسجن جوهرك داخل قفص التوقعات، ولا تضع نفسك في قوالب ضيقة لا تتسع لروحك.
كن أنت، كما أنت، بلا تعديل، بلا تحسين، بلا مساحيق تخفي ملامحك الحقيقية. فثمة من يبحث عنك كما أنت، لا كما يريدك الآخرون أن تكون.
اتعلم يا صديقى حين أنظر إلى الطريق، أجده هو أيضا ينظر لى، بلا أعين، بلا ملامح، لكنه يفهمنى أكثر مما فهمت نفسى يومًا. يمتدّ أمامى كأنه شريان الزمن، ينبض بمحطاتٍ لم يعد يذكر إن كان مرّ بها، أم مرّت به. كل انحناءة فيه تشبه التواءات روحى، كل منحدرٍ يفضح سقوطًا نسيت كيف نهضت منه، كل جسرٍ أعبره يذكّرنى بجسورٍ تهاوت خلفى، ولم أجرؤ على الالتفات.
في زجاج النافذة، لم ارى وجهى، بل رأيت نسخةً منى تراقبنى من الداخل، تسألنى بصمتٍ مستفهمٍ: "متى أصبحتَ هذا الذي أنت عليه؟" لم أجد إجابة، فالطريق وحده كان يعرف.
همس لى الطريق، بصوتٍ لم يكن صوتًا، بل إحساسًا يتسلل بين أنفاسه:
"ألم تفهم بعد؟ لستُ أنا من يمضي، أنت الذي تراني أتحرك بينما الزمن يسرقك مني. كنتَ تظن أنني أرضٌ صامتة، لكنني أنا الذي سجّلت خطاك، أنا الشاهد الذي لا يكذب، أنا السرّ الذي لن تفرّ منه."
أشجارٌ وقفت على جانبي الطريق كحراسٍ عجائز، تعرفنى منذ كنت طفلًا، منذ كنت أسير ولا أخشى أن أسقط، منذ كنت أؤمن أن الطريق لا نهاية له، حتى اكتشفت أننى أقصر مما ظننتّ. بيوتٌ بعيدة تلوّح لى، ليست بيوتًا، بل ذكريات تنادينى، أصدقاء رحلوا، وجوه لم أعد أعرف إن كانت حقيقةً أم محض حلمٍ تآكل مع السنين.
سألته، وكأنى احاول التفاوض مع شيءٍ لا يخضع للتفاوض: "إلى أين تأخذني؟" ضحك الطريق، كانت ضحكته باردةً كريحٍ تتلاشى في الفضاء: "إلى حيث كنت تسير منذ ولادتك. لا وجهة لي، أنت الذي حملتني في داخلك وظننتني خارجك. كل خطوةٍ خطوتها لم تبتعد فيها عني، بل اقتربت مني أكثر. لستُ طريقًا، أنا مرآتك التي كنت تفرّ منها، وظلّك الذي ظننته خلفك، لكنه كان أمامك منذ البداية."
نظرت إلى الأمام، إلى الطريق المنساب بلا بداية ولا نهاية، وشعرت للمرة الأولى أن القطار، الطريق، الريح، كل ذلك لم يكن يتحرّك... بل كان الزمن هو الذي يدور حوله، ككوكبٍ يحاول الفرار من مداره لكنه يعود إليه في كل دورة.
أدركت فجأة الحقيقة التي هربت منها طوال حياتى: لم يكن الطريق هو الرحلة...بل كنتُ أنا الطريق.
كنا نظن أن طموحات آبائنا لا تُلامس السماء، نتهكم على أحلامٍ نسجتها البساطة، ظنناها قيدًا حال بينهم وبين الانطلاق، وكنا نحن، أبناء السرعة، نرسم لأنفسنا أجنحةً نحلق بها في فضاءٍ لا حدود له.
لكننا لم نفهم، إلا متأخرين، أن تلك الأحلام كانت جذورًا ثابتة في أرض الحياة، وأن البساطة التي عاشوها كانت عمقًا ينغمس في معنى الأشياء.
كانوا يشربون قهوتهم كأنهم يحتسون الوقت، يزرعون شجرة واحدة ويتأملونها تكبر بصبرٍ وهدوء،
يبنون بيتًا صغيرًا، لكنه يكفي ليحتوي قلوب الجميع.
نحن الآن، نلهث في سباق لا خط نهاية له. نحمل في جيوبنا عوالم كاملة، شاشات مضيئة لا تنطفئ، أصوات تضج في كل زاوية، وسرعة تُسابق أنفاسنا. نتواصل مع الجميع، لكننا لا نعرف أحدًا. نسير على الطرقات كأننا نحترق من الداخل، كل خطوة تُسابق الأخرى، كأن الحياة ستنفد إن توقفنا لحظة واحدة.
آباؤنا كانوا يسيرون ببطء، كأنهم يتفاوضون مع الزمن. كانوا يتوقفون عند حافة الطريق ليتأملوا غروب الشمس، ليحكوا حكاية لولد صغير، أو ليرمموا سقف بيتهم الذي يكفيهم، ويحتوي الجميع. لم يكن لديهم شاشات تخطف الأبصار، لكن كانت لديهم عيون ترى.
أما نحن، فننظر كثيرًا، لكننا لا نرى شيئًا. نملك السرعة، لكننا فقدنا الاتجاه. نملك التكنولوجيا، لكننا فقدنا الهدوء. نعيش في عالم مكتظ، لكنه فارغ من الداخل.
اليوم، بعد أن أضعنا أوقاتنا في سباقٍ لم نختَر خوضه، نتمنى، في أعماقنا، تلك الحياة الرتيبة التي ظنناها قيودًا. تلك البساطة التي كنا نسخر منها، صارت الحلم الذي لا نستطيع الوصول إليه.
أتساءلُ أحيانًا كيفَ شاخَ الجميعُ من حولي؟ وأنا ما زلتُ أُطلُّ على العالمِ
بعينِ طفلٍ يرى في كُلِّ شيءٍ دهشةً؟
ما زلتُ أظنُّ أنَّ الوُرودَ لا تذبُلُ،
وأنَّ النجومَ تُضيءُ فقط لتُخبِرَنا
أنَّ الأملَ لا يُطفَأُ!
أبحثُ عنّي في المرايا، أجدُ وجهي يتشظّى في صورٍ شتّى، أُصدِّقُ الوعودَ المُبعثَرة، وأقفُ في طوابيرِ الانتظارِ لأستلمَ من الزَّمنِ نصيبي،
لكنِّي أعودُ خاليَ اليدينِ إلّا من حُلمٍ صغيرٍ يَكفي ليومٍ آخر.
حينَ تُناديني الرِّيحُ، أركضُ خلفَها كطائرٍ فقدَ جناحَهُ، ولا أُدرِكُ إلّا لاحقًا
أنَّ الزمان ليس إلّا سرابًا ينسلُّ من بينِ أصابعي.
كَم أتمنّى أن تهدأَ الأصواتُ في داخلي، أن يَصمتَ العالَمُ لدقيقةٍ واحدةٍ، كي أستمعَ لنبضِ قلبي
وهوَ يُخبِرُني أنَّني ما زلتُ حيًا،
رغمَ كُلِّ ما فقدتُ.
لا أُريدُ صيّادينَ، ولا شِباكًا تُحاصِرُ خطواتي، أُريدُ أن أكونَ عصفورًا،
يُحلِّقُ بلا خَوفٍ في فضاءِ الحُبِّ والحُرّيّةِ.
لم يعد الإنسان كيانًا له جوهر، بل مجرد صورة، مجرد محتوى، مجرد انعكاس على شاشة. يُعاد تشكيله وفقًا لما يريده السوق، يُمسخ حسب ما تفرضه سياسة القطيع، يُباع ويُشترى في أسواق الوهم حيث لا قيمة إلا للعرض، لا معنى إلا لما يُستهلك، ولا وجود إلا لما يُصفق له القطيع.
كنا نظن أن العلم سيحررنا، فإذا به يقيدنا بسلاسل المادية، كنا نحسب أن التكنولوجيا ستمنحنا الأمان، فإذا بها تحول العالم إلى غابة، حيث القوي يلتهم الضعيف، والمجرم يفلت بجرمه، والعقلاء يُسحقون تحت أقدام الحمقى، والأمان في رصيد بنكي، والكرامة تُباع بنقرة إعجاب، والشرف يُختصر في جسد يُعرض بثمن بخس. لقد أصبحت الحياة افتراضية، لكن الموت حقيقي.
أصبح البشر يلهثون خلف شاشات زجاجية باردة، بينما أرواحهم تتآكل ببطء، كأنها تتعرض لنوع من التآكل الرقمي، حيث تختفي هوياتهم تدريجيًا ليصبحوا مجرد بيانات، مجرد أرقام، مجرد مشاهدات وإعجابات وتعليقات لا طائل منها إلا ملء الفراغ الذي يزداد اتساعًا في الداخل.
القيمة اليوم ليست في المعرفة، ليست في الأخلاق، ليست في الإنجاز الحقيقي. القيمة تُقاس بعدد المتابعين، بعدد الإعجابات، بعدد المرات التي تم فيها مشاركة التفاهة. لم يعد الذكاء مطلوبًا، بل القدرة على إثارة الجدل. لم يعد الجمال جمالًا داخليًا، بل قدرة على الترويج للصورة المثالية المشوهة. لم يعد النجاح مرتبطًا بالجهد، بل بسرعة الانتشار.
أصبح الإنسان خادمًا يهرول خلف الأرقام، يخضع لمزاجية الذكاء الاصطناعي الذي يقرر له متى يظهر، متى يختفي، متى يتصدر المشهد، ومتى يُلقى في سلة المهملات الرقمية.
لم تعد الأجساد تُباع في الأزقة الخلفية للمدن المظلمة، بل أصبحت تُعرض علنًا في المزادات الرقمية، مقابل وردة افتراضية، مقابل "أسد" إلكتروني، مقابل لا شيء! الجسد لم يعد ملكًا لصاحبه، بل أصبح ملكًا للكاميرا، للمنصة، للمشاهِد المجهول الذي يُقرر بجرة إصبع على هاتفه إن كان يستحق الإعجاب أم لا.
كم من فتاة باعت حياءها، وكم من شاب أحرق كرامته، وكم من روح انتحرت معنويًا وهي على قيد الحياة، فقط لأنها لم تحقق "التريند"، فقط لأنها لم تحصد عددًا كافيًا من المشاهدات؟
أصبح الإنسان يُرخص نفسه بنفسه، يتحول إلى سلعة رخيصة في متجر لا يعترف بالقيم، لا يعترف بالإنسان ككيان، بل فقط كمنتج يجب أن يُباع سريعًا قبل أن تنتهي صلاحيته، قبل أن يملّ الجمهور، قبل أن تسحقه خوارزمية النسيان.
لم نعد نعيش، نحن نبث. لم نعد نشعر، نحن نُسجّل. لم نعد نُحب، نحن نوثق. كل لحظة، كل إحساس، كل تفصيل صغير يجب أن يُصوّر، يجب أن يُشارك، يجب أن يكون له جمهور وإلا فقد معناه.
أصبحت الحياة عرضًا مستمرًا، مسرحية عبثية بلا نص، بلا هدف، بلا رسالة. مجرد مشاهد تُعاد وتُكرر بنفس السيناريوهات المبتذلة: جسد يُباع، فضيحة تُنشر، معركة افتراضية تشتعل، شخص يُلغى، آخر يُصعد، وكأننا بيادق في لعبة لم نخترع قواعدها، بل فرضت علينا دون أن ندري.
الحقيقة أننا أصبحنا عبيدًا بإرادتنا. باع الإنسان روحه مقابل اللاشيء. تخلى عن جوهره مقابل صورة. هجر كتبه، ترك تأملاته، نسي كيف يفكر، كيف يحاور، كيف يُحب. لم يعد يبحث عن الحقيقة، بل عن اللايك. لم يعد يسعى وراء المعرفة، بل وراء الانتشار.
وكلما انغمس أكثر في هذا الوهم، كلما تآكلت روحه أكثر، حتى يأتي اليوم الذي يُدرك فيه أنه عاش حياة لم تكن له، أنه كان مجرد ظل لشخص آخر، مجرد صورة باهتة لنسخة مزيفة من ذاته. لكن حينها سيكون الأوان قد فات.
ذات يوم، سألني غريب عن سرّ وقوفي الطويل تحت شجرة جرداء، تتهادى أغصانها كعجوز تنوء بثقل السنين.
فأجبته أنّي أبحث عن ظلّ. ابتسم ساخراً وسألني: وهل تمنح الأشجار الجرداء الظلال؟ فأجبته: ليس الأمر مسألة ظلّ، بل مسألة انتظار.
الشجرة قد جُرِّدت من أوراقها، لكنّ جذورها ما تزال تُمسك بالأرض، وما زلت أُمسك بأملي.
لم تكن كلماته سوى بداية استفزاز جديد: "أنت تبحث في المكان الخطأ، الشجرة ميتة!"، عندها حدّقت في عينيه طويلاً وقلت: لا أحد يبحث في المكان الخطأ حين يبحث عن ذاته. أنا لا أبحث عن ظلّ الشجرة بل عن ظلّي الذي يتيه في ضوء العالم.
في هذا المكان الخاطئ، أجدني أقترب منّي أكثر مما أقترب من الحياة. ثم أكملت هامساً لنفسي: أحياناً، يُضيء لنا الخطأ ما يعتمه الصواب.
ذات يوم قالت فراشة لرفيقتها: لماذا أخاف الضوء؟ كلما اقتربت منه شعرت أنني أفقد جزءًا من ذاتي.
- لأن الضوء لا يحتمل التردد، إما أن تصبحيه أو يبتلعك.
- لكن هل من العدل أن يتحول ما نعشقه إلى ما يفنينا؟
- العدالة ليست في العشق، العشق هو فوضى، هو أن تنتمي لما لا تفهميه.
- ولكن كيف أنتمي لما يجعلني هشة، مهددة؟
- الهشاشة هي الحقيقة الوحيدة، نحن كائنات لا تعيش إلا على حافة الفناء، وهكذا خلقنا الله.
- إن كانت هذه هي الحقيقة، فماذا يعني أن نحيا؟
- الحياة هي أن تقتربي من الفناء دون أن تلامسيه، أن ترقصي بينه وبين نفسك دون أن تسقطي.
- ولكن ألا يجعلنا هذا مجرد أدوات في لعبة لا نفهم قواعدها؟
- ربما... لكننا لسنا لاعبين، نحن جزء من اللعبة ذاتها، شكلها ومضمونها.
- وهل اللعبة تعرف نفسها؟
- لا، لكن وجودها ليس في المعرفة، بل في استمرار الحركة.
- وما قيمتي في هذه الحركة إن كنت لا أملك اتجاهها؟
- قيمتك أنكِ الحركة ذاتها، أنكِ اللحظة التي تقررين فيها مواجهة الضوء.
- ولكن، ماذا إن كان قراري هو الهروب؟
- الهروب ليس إلا مواجهة مؤجلة، الضوء لا يختفي، بل ينتظرك.
- وهل يمكنني أن أهرب للأبد؟
-الأبد ليس إلا دائرة مغلقة، كل هروب يعود بكِ إلى نقطة البداية.
- إذن، نحن محكومون بتكرار لا نهاية له؟
- نحن محكومون بالبحث، ليس عن إجابة، بل عن معنى.
- وإن لم أجد المعنى؟
- يكفي أنكِ سعيت، وسافرتِ نحوه، يكفي أنكِ عشقتِ الرحلة، حتى لو لم تصلي أبدًا.
- لكن الرحلة شاقة، وأنا ضعيفة.
- الضعف هو القوة الوحيدة الحقيقية، لأنه يعلمنا أن نعيش بلا أوهام، تلك هي رمزيته التي يجب أن يعيها هؤلاء البشر.
- لماذا يجب أن يتحول كل شيء في حياتنا إلى رمزية لا نفهمها؟
- لأن البشر، وهم يراقبوننا، يرون أنفسهم فينا. نحن مرايا لهم، دون أن ندرك ذلك.
- ولكن كيف نكون مرايا لعيون لا ترى إلا ما تريد رؤيته؟
- لأن هذه طبيعة كل الكائنات: أن تُساء فهمها، أن تُرى بعيون الآخرين، أن تتحول إلى شيء لا تعرفه.
- أحيانًا أكره هذه الطبيعة، أريد فقط أن أطير بحرية، دون أن أكون رمزًا لأحد.
- ولكن الحرية نفسها قد تكون رمزًا، حتى وإن لم تختاري ذلك.
- إذا كانت الحرية هي أن أعيش للآخرين، فما الفرق بيني وبين فراشة تحترق في ضوءٍ صنعوه؟
- الفرق هو أنك تختارين الاحتراق، وليس الضوء.
- إذًا أنا مجرد اختيار خاطئ في حياة مليئة بالأخطاء؟
- أنتِ فراشة، والخطأ الوحيد هو محاولة فهم ما لا يحتاج إلى فهم.
- ربما... لكنني أعرف شيئًا واحدًا: أريد أن أطير الليلة، حتى لو كان هذا هو طيراني الأخير.
حسنًا..وأنا... سأطير بجانبك، حتى النهاية.
وختاما فانا .. سارح في ملك الله والقلب كله هموم ... لا جيت في يوم أشتكي ولا فيه عتاب أو لوم
راضي بحالي يارب يا ناصر المظلوم
يا موزع الأرزاق يا رازق المحروم
رميت همومي عليك يا حي يا قيوم
ده اللي معاه ربنا عُمر ما حزنه يدوم... خلي تُكالك عليه راح يجي يوم معلوم ... كل الهموم تنجلي مهما يزيد الكوم.
والصبح جاي بمطر وسط السحاب والغيوم.
من بعد كسر ووجع راح يجي يوم وتقوم.
وتلاقي يوم فرحتك وتشوف عينيك النوم.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.