بقلم د. سماح عزازي
عبر صفحات التاريخ، تظل رحلة بني إسرائيل مع النبي موسى عليه السلام واحدة من أكثر الفصول امتلاءً بالمعجزات والعِبَر. لم تكن مجرد قصة نجاة من الظلم، بل اختبارًا لصبر نبي، وامتحانًا لإيمان قوم، وتجليًا لعلاقة متوترة بين الوحي والعناد.
الرفض... بداية السقوط التاريخي
رفضهم دخول الأرض المقدسة لم يكن مجرد تمرّد سياسي، بل كان تمردًا على النبوّة والوحي، واستهانة بالوعد الإلهي. لقد كتب الله لهم الأرض، لكنهم رفضوا الثمن الجهاد والصبر والثقة بوعد الله.
هذا الرفض لم يكن النهاية، بل كان بداية السقوط التدريجي في سلوك بني إسرائيل. فبعد التيه، بدأ التاريخ يُسجّل تقلبات قلوبهم، وتمرّدهم على كل نبي أُرسل إليهم، حتى قال الله عنهم:
{أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌۭ بِمَا لَا تَهْوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًۭا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًۭا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].
تشكّلت شخصية بني إسرائيل في هذا التيه أمة تُريد النبوّة بلا طاعة، والتمكين بلا تضحية، والمجد بلا إيمان. أمةٌ لا تؤمن إلا بما تراه، ولا تثق إلا بما يوافق هواها.
الخروج العظيم من مصر
بدأت الحكاية من أرض الذل. كان بنو إسرائيل عبيدًا في مصر، يُذبح أبناؤهم وتُستحيا نساؤهم، تحت سطوة فرعون المتأله. فجاء موسى عليه السلام، برسالة تحرير وتوحيد:
{إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 16].
وبعد سلسلة من الآيات التسع، التي أراها الله لفرعون وقومه – من الطوفان والجراد والقُمّل والدم – لم يزدهم ذلك إلا تكذيبًا، حتى جاء الوعد بالخروج.
الهروب الكبير من فرعون
لم يكن الهروب من مصر مجرد رحلة للنجاة، بل كان فصلًا من فصول التدبير الإلهي، حيث اجتمعت القدرة والمعجزة والنبوّة في لحظة فارقة من تاريخ البشرية.
عاش بنو إسرائيل في مصر قرونًا طويلة، انتقلوا إليها بدعوة يوسف عليه السلام، وتحولوا مع مرور الزمن من أهل فضل إلى قوم مستضعفين تحت حكم فرعون الطاغية، الذي قال عن نفسه:
{أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ} [النازعات: 24].
مارس فرعون أبشع صور الاستعباد، فكان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، كما ورد في قوله تعالى:
{يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ ۚ وَفِى ذَٰلِكُم بَلَآءٌۭ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌۭ} [البقرة: 49].
وجاء موسى عليه السلام – النبي الذي تربى في قصر فرعون نفسه – برسالة ربانية تدعو إلى تحرير بني إسرائيل وإقامة عبادة الله وحده. فكان الرد من فرعون: السخرية، والتكذيب، ثم البطش والوعيد.
ثم جاءت لحظة الهروب.
بوحيٍ من الله، خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل ليلًا، بهدوء وسرية، يسير بهم نحو البحر. لم تكن خطة بشرية، بل تدبير رباني دقيق، كما قال تعالى:
{فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} [الدخان: 23].
اكتشف فرعون الأمر، فجمع جنده، وطارده بجيوش جرّارة. وبينما كان البحر أمامهم والعدو خلفهم،
معجزة البحر... آية النجاة والعقوبة
عندما وصل موسى ومن معه إلى شاطئ البحر الأحمر، أدركهم جيش فرعون، فصرخ بنو إسرائيل
{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61].
لكن موسى عليه السلام، المؤمن بوعد ربه، أجابهم بثبات نادر:
وقال بثقة الانبياء {كَلَّآ ۖ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
فأوحى الله إليه أن يضرب البحر بعصاه، فانشق البحر وظهرت فيه الطرق اليابسه كل الجبل الثابت اثني عشر طريقًا، لكل سبط من أسباط بني إسرائيل، كما قال تعالى:
{فَأَوحَينَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضرِب بِّعَصَاكَ ٱلبَحرَ ۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرقٍۢ كَٱلطَّودِ ٱلعَظِيمِ} [الشعراء: 63].
نجا موسى ومن معه، وساروا على اليبس، بين جدران الماء. ولما دخل فرعون وجيشه خلفهم، أغرقهم الله في لحظة واحدة. وتحقق وعد الله:
{فَأَغْرَقْنَـٰهُمْ فِى ٱلْيَمِّ} [الأعراف: 136].
وفي لحظة الموت، نطق فرعون باعترافه المتأخر:
{ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱلَّذِىٓ ءَامَنَتْ بِهِۦ بَنُوٓ إِسْرَـٰٓءِيلَ}
[يونس: 90].
فرد عليه رب العالمين:
{ءَآلْـَٔـٰنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91].
وهكذا، انتهى عصر الظلم بيد القدرة الإلهية، وبدأت رحلة جديدة لبني إسرائيل، ليست أقل خطرًا من سابقتها رحلة التيه، والامتحان، وبناء الهوية.
عبادة العجل... خيانة بعد النجاة
ما إن عبر بنو إسرائيل البحر، حتى طلبوا من موسى
أن يصنع لهم إلهًا، كما رأوا بعض الوثنيين!
{ٱجْعَل لَّنَآ إِلَـٰهًۭا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌۭ} [الأعراف: 138].
ثم لما ذهب موسى لميقات ربه، اغتنم السامري الفرصة، وصنع لهم عجلًا جسدًا له خوار، من حليّ نسائهم، وقال:
{هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ} [طه: 88].
وعبدوه! رغم كل ما شهدوه من آيات. حاول هارون عليه السلام ردهم، لكنهم كادوا يقتلوه. ولما عاد موسى، غضب، وألقى الألواح، وأخذ بلحية هارون، حتى هدأ ربه واصطفى له سبعين رجلًا ليعتذروا، لكنهم قالوا:
{لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةًۭ} [البقرة: 55]، فأخذتهم الصاعقة.
التيه في الصحراء... أربعون عامًا من العقوبة
حين وصلوا أطراف الأرض المقدسة (بيت المقدس)،
أمرهم الله بالدخول:
{يَـٰقَوْمِ ٱدْخُلُواْ ٱلْأَرْضَ ٱلْمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِى كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ}
[المائدة: 21].
لكنهم جبنوا وقالوا:
{إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَآ أَبَدًۭا مَّا دَامُواْ فِيهَا}، بل خاطبوا موسى بوقاحة
{فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَآ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ} [المائدة: 24].
فكان العقاب:
{فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةًۭ يَتِيهُونَ فِى ٱلْأَرْضِ}
[المائدة: 26].
ظلّوا أربعين عامًا في صحراء سيناء، لا يدخلون مدينة، ولا يستقرون في أرض. يطعمهم الله المنّ والسلوى، ويسقيهم من الحجارة، ويظلهم بالغمام، لكنهم لم يؤمنوا حق الإيمان.
ومات موسى في التيه، ولم ير الأرض التي وعد الله بها قومه. ولم يدخلها من الجيل الأول أحد، إلا فتًى صالح تربى على عينه: يوشع بن نون.
خلاصة التيه… بداية تشكّل الشخصية
شكلت هذه الحقبة الملامح الأساسية لشخصية بني إسرائيل:
قوم رأوا المعجزات، وكفروا بها.
أمة تطلب الإيمان المادي وتُكذّب بالغيب.
يهوون الجدل مع أنبيائهم أكثر من الطاعة.
يطلبون الأمن دون أن يدفعوا ثمنه.
لقد كان التيه الجغرافي مقدمة لتيهٍ عقديّ وتاريخي
ما زالت آثاره باقية حتى اليوم.
تمهيد للجزء الثالث
في الجزء القادم من هذه السلسلة:
"الأنبياء والملوك… بين النبوّة والخيبة"
نروي كيف دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة بعد التيه، وكيف أرسل الله إليهم أنبياء كداوود وسليمان، وكيف تحوّلوا من أمة سماوية إلى ممالك دنيوية، تمزّقها المصالح، ويأكلها الطغيان.
إضافة تعليق جديد