الأنبياء والدماء... حين كذبوا وقتلوا الرسل"
السبي البابلي … حين أغلقت السماء أبوابها
بقلم د/سماح عزازي
في هذا الفصل الدامي من تاريخ بني إسـ، رائيل، تخرج الصورة من ظلال النبوّة إلى مشهدٍ يقطر دماً، وتتحول القلوب من التوحيد إلى التمرد، ومن اتباع الحق إلى قتل أهله. إنها لحظة الانقلاب، حين كُذّب الرسل، وسفكت دماؤهم، وتحوّل كتاب الله إلى نصّ محرّف، يخدم الهوى لا الهدى.
زكريا ويحيى... أنبياء في زمن الدم
في لحظة حالكة من تاريخ بني إسرائيل، أرسل الله إليهم نبيين من خيار خلقه زكريا وابنه يحيى عليهما السلام. كانا من طائفة الربانيين الذين أعادوا الناس إلى عبادة الله وحده، ووقفوا في وجه التحريف والفساد المنتشر في أوساط الكهنة والملوك.
زكريا عليه السلام، نبي طاهر، دعا قومه لعبادة الله، وكان كافلاً لمريم الطاهرة. ثم جاء يحيى، النبي الزاهد، الذي قال الله فيه:
{وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39]،
فكان صدّيقًا نقيًا، لا يُهادن في الحق، ويُقيم الحجة على بني إسرائيل.
لكنّ ما كان منهم إلا أن كذبوا زكريا، وذبحوا يحيى، فقط لأنه أنكر عليهم فجورهم وبغواهم. وتقول الروايات، وإن لم ترد بصيغة الجزم في القرآن، إن زكريا شُقّ بالمنشار، وإن يحيى قُطع رأسه وقدم هدية لزانية من بنات الملوك، في مشهد يجسّد انهيار القيم والمروءة.
عيسى عليه السلام... آخر رسل بني إسـ، رائيل
ثم جاءهم عيسى بن مريم عليه السلام، الروح الملقاة من الله، والآية الكبرى، الذي جاء مبشّرًا بمجيء النبي الخاتم محمد صل الله عليه وسلم، كما قال تعالى:
{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].
لكنهم كعادتهم كذبوه، وسعوا في قتله، وقالوا لأتباعه: "إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله". ولكن الله ردّ عليهم بقوله:
{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157].
ورفعه الله إليه، وطهّره من رجسهم، وتركهم يتخبطون في كفرهم، وقد ختمت عليهم الذلّة والمسكنة، إلا بحبل من الله أو حبل من الناس.
من تحريف التوراة إلى ولادة التلمود
لم يكتف بنو إسـ، رائيل برفض الرسل، بل امتدت أيديهم إلى كتب السماء، فحرّفوا التوراة، وبدّلوا شرائع الله. وجاء التلمود، كتابهم السري، ليُكمل مشروع التحريف، ويفتح الباب لعقائد منحرفة لم ينزل الله بها من سلطان، مثل فكرة "شعب الله المختار" التي سوّغت لهم الاستعلاء والفساد في الأرض.
التلمود ليس مجرد شرح للتوراة، بل كتاب يؤسس لعقيدة مغلقة، تقدّس الكهنة والحاخامات، وتمنحهم سلطة التشريع باسم الله، حتى لو خالفوا نصوص الكتاب الأصلي. بل إنهم وضعوا التلمود فوق التوراة، وقالوا: "من خالف قول الحاخامات فهو كمن خالف كلام الله
السبي البابلي .... حين اغلقت السماء ابوابها
بين النبوّة والعقوبة الإلهية، تسير حكاية بني إسـ، رائيل في خطٍّ متعرجٍ، تارة تصعد فيه أرواحهم إلى مقام الرضا، وتارة تهوي أفعالهم إلى قاع الجحود. لكن في هذا الجزء، نبلغ لحظة الانفجار الكبرى السقوط المروع لمملكة يهوذا، دمار أورشليم، وبدء السبي البابلي الذي غيّر ملامح التاريخ والعقيدة إلى الأبد.
في هذه المرحلة السوداء من تاريخ بني إسـ، رائيل، لم يكن السقوط مجرد هزيمة عسكرية، بل كان غضبًا إلهيًا حاسمًا، حين أغلقت السماء أبوابها، وسُحبت البركة، وضاعت الأرض، وانهار المعبد، وسُبيت الأرواح قبل الأجساد. إنها لحظة الحساب، بعد قرون من العناد، والتحريف، وقتل الأنبياء.
تمهيد الغضب من العصيان إلى السقوط
أول الطريق إلى الغضب الإلهي
بعد موت سليمان عليه السلام، انقسمت المملكة إلى قسمين
مملكة إسـ، رائيل في الشمال (عاصمتها السامرة)،
ومملكة يهوذا في الجنوب (عاصمتها أورشليم).
بدأت الفوضى تدبّ في أوصال بني إسـ، رائيل، وضعفت شوكتهم السياسية والدينية. ومع الانقسام، انتشر الفساد، والوثنية، وقتل الأنبياء، ونقض الميثاق.
وهكذا، بدأ العد التنازلي للعقوبة...
ومع هذا الانقسام، بدأ الانحدار الكبير ملوك ظالمون، كهنة فاسدون، وعقيدة تتفكك يومًا بعد يوم.
حذرهم الله علي لسان أنبيائه مرارًا ارجعوا إلى طريق الله، واذكروا نعمه، واحذروا من الظلم وعبادة الأصنام. لكنهم كانوا كمن قال الله فيهم:
{كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70].
لم يكتفوا بالكذب، بل قتلوا أنبياءهم، وانغمسوا في المعاصي، حتى كتب عليهم العذاب، ونُزعت عنهم الحماية الربانية.
سقوط القدس ودمار الهيكل
في سنة 586 قبل الميلاد، اجتاح نبوخذ نصّر (بختنصّر)، ملك بابل، مملكة يهوذا، فدمر مدينة القدس، وهدم "الهيكل" الذي زعموا أنه بيت الله، وأحرقه حتى لم يبق منه حجر على حجر. ثم سبى أكثر من أربعين ألفًا من بني إسـ، رائيل إلى بابل، بمن فيهم كبراؤهم ونساؤهم وأطفالهم.
وقد وصف القرآن هذا الحدث المفجع في سورة الإسراء
وقد أشار إلى مثل هذه العقوبة، ضمن وعدين إلهيين لبني إسـ، رائيل:
{وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ فِى ٱلْكِتَـٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّۭا كَبِيرًۭا}
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا} [الإسراء: 5].
فالعقاب لم يكن من عند البشر، بل بأمر إلهي، استُخدم فيه "عباد لله أولي بأس شديد" — وقد فسّر كثير من المفسرين أنهم البابليون بقيادة بختنصّر، جند من جنود الله، سلطهم على بني إسـ، رائيل عقابًا على طغيانهم وكفرهم.
المنفى البابلي عقاب أم تطهير؟
كان السبي البابلي أكثر من مجرد نفي سياسي؛
لقد كان عقوبة روحية. في بابل، عاش بنو إسـ، رائيل في الذل، بلا معبد، بلا نبي، بلا شريعة واضحة كانت تلك الفترة صدمة وجودية، دفعتهم إلى إعادة التفكير في هويتهم وعقيدتهم. سُمّيت تلك المرحلة في الأدبيات اليـ، هودية بـ"أيام الظلمة"، حيث انقطع الوحي، وغاب الكتاب، وسادت العزلة. فبدأ بعضهم بإعادة كتابة التوراة من الذاكرة، وتهويل القصص، والتأويل بما يخدم أحلامهم القومية.
ومن هنا بدأت بذور التحريف والتبديل العقائدي. يقول الله تعالى:
{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ لَعَنَّـٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةًۭ ۖ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُوا۟ حَظًّۭا مِّمَّا ذُكِّرُوا۟ بِهِ} [المائدة: 13]
لكن بدلًا من التوبة والعودة إلى طريق الأنبياء، سلك الحاخامات والكهنة طريقًا آخر أعادوا كتابة التراث، وصاغوا تفاسير بشرية، ووضعوا أساس ما عُرف لاحقًا بـ"التلمود البابلي"، كمرجعية بديلة للتوراة المحرّفة، وتأسست بذلك عقيدتهم الباطنية الجديدة، التي تقوم على الانتظار المؤامراتي للمسيح المنتظر، والسيطرة على العالم من القدس.
بداية المشروع السرّي
في ظلال المنفى، بدأت تتبلور نواة الفكر الجديد لبني إسرائيل هم شعب الله المختار، والمسيّا (المخلّص) سيأتي ليعيد لهم الأرض، ويحكم العالم من الهيكل الثالث الذي سيُبنى في القدس.
تحوّل الدين إلى مشروع سياسي، وتحوّل الحلم الروحي إلى مشروع سيطرة أرضية. لم يعودوا يرون أنفسهم دعاة توحيد، بل ضحايا يجب أن يستعيدوا "حقهم"، ولو بالخديعة والدم.
هذه العقيدة، التي تشكلت بين جدران بابل، ستتحوّل لاحقًا إلى صـ، هيونية، وستجد تعبيرها النهائي في احتلال الأرض، وادعاء الهيكل، وإشعال الفتن. أُسّس الحلم في بابل، لا في القدس. هناك نشأ التفسير التلمودي للتوراة، وهناك تكرست فكرة "شعب الله المختار" الذي له وحده الحق في الحكم، وأن باقي الشعوب مجرد أدوات في طريقهم.
السبي في العقيدة الإسلامية
في الإسلام، يُنظر إلى هذا الحدث كعقوبة إلهية مستحقة، إذ حذّر الله بني إسـ، رائيل كثيرًا، وأمهلهم كثيرًا، ثم جاء الحساب.
ويقول النبي محمد صل الله عليه وسلم عن حالهم:
"إن بني إسـ، رائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي..." [رواه البخاري ومسلم].
فلما توقفوا عن اتباع الأنبياء، زال سلطانهم، وتمزقوا، واستُعبدوا.
إرث السبي البابلي
لم يكن السبي البابلي مجرد نفي، بل كان بداية لعقيدة تقوم على الحنين المشحون بالكراهية والسيطرة. ومن رحم هذه المحنة وُلد التلمود، وبدأ تشكل العقلية التي ستقود لاحقًا إلى الصـ، هيونية. فما بعد بابل ليس كما قبلها…
وهكذا، كانت بابل بوابة التاريخ الجديد لبني إسـ، رائيل.
كان السبي البابلي لحظة فاصلة. فيها انفصلت النبوّة عن القوم، وسُحبت البركة، وتحوّل بني إسـ، رائيل من أمة سماوية إلى كيان يحمل بذور الفتنة. ومن هذه اللحظة، بدأت رحلة طويلة في التاريخ، عنوانها العودة بأي ثمن.
الشتات الكبير من بابل إلى أوروبا
مع تكرار الجرائم بحق الأنبياء، وسوء العقيدة، حلّ بهم غضب الله، فكانت النتيجة أن شُتتوا في الأرض. وبعد السبي البابلي، لم تعد لهم دولة مستقرة، وراحوا يتنقلون من منفى إلى آخر، تلاحقهم اللعنات، ويلاحقهم الحقد على الأمم التي رفضتهم.
في أوروبا، عاشوا كطائفة مغلقة، تسعى للعودة إلى القدس،
لا بروح النبوّة، بل عبر الخديعة والقوة. وشيئًا فشيئًا، بدأت ملامح "المشروع السرّي" بالظهور الهيكل، المسيح المنتظر، الأرض الموعودة... لكنها لم تكن عودة للحق، بل استعادة لحلم السيطرة.
ترقبوا في الجزء الخامس من السلسلة:
"الحروب الصليبية وأطماع الغرب في أرض الأنبياء"
سنسرد كيف تحولت القدس إلى ساحة صراع عالمي، وكيف بدأ الغرب تمهيد طريق العودة الصـ، هيونية من وراء ستار الدين والتاريخ.
إضافة تعليق جديد