بقلم د/ سماح عزازي
بني إسـ، رائيل من النبوّة إلى التشتّت، ومن التيه إلى الاحتلال في زمن تتقاطع فيه المصالح وتزيف فيه الحقائق
وتصادر فيه الاوطان تظل حكاية بني اسـ، رائيل واحدة من اكثر القصص عبثا بالتاريخ ومشحونة بالرموز والدلالات انها قصة بدات بنبي وانتهت باحتلال في التاريخ صفحات تبدأ بنور وتنتهي بدم، وفي طيّات الزمان أمم خُلقت بالهداية ثم انقلبت على الحق، ومن بين تلك الصفحات، تقف قصة بني إسـ، رائيل نشأت بين التوحيد والاصطفاء وانتهت بالصهيونية والاغتصاب بين البداية والنهاية تتقاطع الانبياء، والملوك وتتناوب الحروب والمؤامرات ويتحول الشتات الي كيان والادعاء الي واقع مرير انها قصة شاهدة على تقلبات الإنسان بين الإيمان والجحود، بين النبوّة والكفر، بين وعد السماء وخيانة الأرض.
يعقوب عليه السلام البداية المباركة
بداية الحكاية كانت مع نبي الله يعقوب، الذي سُمّي "إسـ، رائيل"، أي عبد الله أو خالص الله، وكان من سلالة إبراهيم عليه السلام، ومثله في الدعوة إلى التوحيد، في أرض كنعان – فلسـ، طين التاريخية – حيث نشأ أول مجتمع لبني إسـ، رائيل. وقد بارك الله في نسله، فكان منهم يوسف، وموسى، وداوود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى عليهم السلام، ولكن لم يكن كل من تبعهم على دربهم، بل انقسمت الأمة إلى أنبياء وصالحين، وطغاة ومكذبين.
يوسف عليه السلام الامتحان والتمكين
من ذرية يعقوب عليه السلام جاء يوسف، الصديق النبي، الذي بدأت قصته بمحنة وألم، وانتهت بعز وتمكين. حسده إخوته، فألقوه في غيابة الجب، وبيع في سوق مصر عبدًا، ثم ابتُلي بالسجن ظلمًا، لكنه ظل ثابتًا على الطهر والإيمان. وفي لحظة فاصلة، أظهر الله صدقه، فأول الرؤيا، ورفعه عزيز مصر على خزائنها. جمع شمل الأسرة، وأنقذ مصر من المجاعة، وكان سببًا في انتقال بني إسـ، رائيل من كنعان إلى مصر، حيث عاشوا مكرّمين في ظل يوسف، قبل أن تتبدل الأحوال بعد وفاته وتبدأ رحلة الاستعباد.
من النعم إلى الجحود عصر موسى والتيه
حين خرج موسى عليه السلام بقومه من مصر، بعد أن خلصهم الله من ظلم فرعون، رأوا الآيات البينات، وشق البحر، ونزل عليهم المن والسلوى، لكنهم لم يصبروا، ولم يؤمنوا إيماناً خالصاً. عبدوا العجل، وجادلوا نبيهم، ورفضوا دخول الأرض المقدسة، فعاقبهم الله بالتيه أربعين سنة، تاهوا فيها في الصحراء لا يستقر لهم مقام. كانت تلك سنوات صقلٍ وعقوبة، لكن النفوس التي ألفت الذل لم تستجب لنور الرسالة.
داوود عليه السلام الملك العادل والنبي الشجاع
من مُلك داوود إلى الانقسام والنفي بعد التيه، دخلوا الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون، ثم جاء ملكهم النبي داوود، فجمع الله له الملك والنبوة، جاء داوود عليه السلام بعد مرحلة التيه، فكان نبيًا ملكًا، جمع الله له بين الحكمة والقيادة، وبين الشريعة والسلطان. بدأ شابًا شجاعًا قتل جالوت قائد جيوش الطغيان، فآتاه الله الملك والحكمة، وأنزل عليه الزبور. حكم بني إسـ، رائيل بالعدل، وكان مثالًا في العبادة والخشية، يسبّح الجبال والطير معه، ويقضي بين الناس بالحق. في عهده بدأت ملامح الدولة تتشكل من جديد، وقام بإرساء قواعد العدل، والاستعداد لمشروع الهيكل الذي سيبنيه من بعده ابنه سليمان عليه السلام.
سليمان عليه السلام حكمة الملك ونهاية المجد
ورث سليمان عليه السلام عن أبيه داوود الملك والنبوة، فكان نبيًا ملكًا قلّ نظيره في التاريخ. سُخرت له الرياح، والجن، والطير، وعلّمه الله منطق المخلوقات، فحكم بين الناس بالعدل والحكمة. بنى صروحًا عظيمة، وأسس دولة بلغت أقصى الاتساع في أرض المقدس. كان عصره ذروة التمكين لبني إسـ، رائيل، ولكن بعد وفاته انفرط العقد، فبدأ التراجع، وتسلل الانقسام، وساد الضعف الروحي والسياسي، ليعود الانحدار من بعد العزة. وتمزقوا إلى مملكتين: إسـ، رائيل في الشمال ويهوذا في الجنوب، وبدأ الانحدار من جديد. اجتاحتهم جيوش الآشوريين والبابليين، وسُبيت طوائفهم، ودُمّر الهيكل، فخرجوا في موجات من الشتات.
زكريا ويحيى عليهما السلام الدعوة في زمن القسوة
ثم جاء زمن زكريا ويحيى عليهما السلام، في مرحلة كانت الروح الدينية لبني إسـ، رائيل قد تآكلت، وأصبحت النبوة فيهم غريبة. دعا زكريا قومه إلى العودة للحق، وكان شيخًا كبيرًا فوهبه الله يحيى نبيًا طاهرًا زاهدًا، ثابتًا على المبدأ، لا تأخذه في الله لومة لائم. واجه الاثنان مجتمعًا فاسدًا متغطرسًا، لا يقبل النصح ولا الإصلاح. انتهت حياة زكريا ويحيى بذبحهما ظلمًا، فكانا من الشهداء، شاهديْن على قسوة بني إسـ، رائيل ونفورهم من أنبيائهم.
عيسى عليه السلام نبي الرحمة والمعجزة المنكرة
ثم بعث الله عيسى عليه السلام، كلمةً من الله وروحًا منه، آيةً للبشر، ومعجزة تمشي على الأرض. وُلد من غير أب، بمعجزة ربانية، وتكلم في المهد، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأحيا الموتى بإذن الله، وآتاه الله الإنجيل هدى ونورًا. دعا بني إسرائيل إلى عبادة الله وحده، وإلى تطهير الدين من التحريف والرياء، لكنهم قابلوه بالكيد والاتهام، وسعوا في صلبه. فرفعه الله إليه، ولم يُصلب ولم يُقتل، بل شُبّه لهم، وبقيت دعوته نورًا، وابتلاءً في آنٍ معًا، فمنهم من آمن، وأكثرهم أعرضوا وحرّفوا وبدّلوا.
الأنبياء والشهادة على بني إسرائيل
لم تخلُ مراحلهم من أنبياء؛ أرسل الله إليهم المرسلين يدعونهم، فيكذّبون، ويقتلون. زكريا ويحيى ذُبحا على يدهم، وعيسى عليه السلام كادوا أن يصلبوه لولا أن رفعه الله إليه. وقد وصفهم القرآن بأوضح الكلمات:
“وكانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون”.
الشتات والتجمع من بابل إلى أوروبا
على مدى قرون، ظلّ بنو إسـ، رائيل مشتتين في الأرض، من بابل إلى فارس، ومن الشام إلى أوروبا، يحملون مظلومية مفتوحة على كل الاحتمالات، يستخدمونها متى شاءوا، ويتناسونها متى تطلّعوا إلى الهيمنة. لم يكونوا أمة واحدة، بل طوائف متفرقة، بألسن شتى وأطماع مختلفة، حتى تجمعت شرذمتهم من كل أصقاع الأرض لاحقًا تحت راية الصـ، هيونية.
الحروب الصـ، ليبية البداية الغربية للأطماع
حين اندفعت جحافل الصـ، ليبيين من أوروبا نحو الشرق، لم يكن هدفها تحرير "القدس" فقط كما زُعم، بل كانت عيونهم على خيرات الشرق وثرواته، وعلى موقعه الروحي كمهد الديانات. وبينما قاوم المسـ، لمون تلك الحملات، بقيت الفكرة في العقل الغربي أن الشرق أرض مقدسة، غنية، ومُلك لمن يريد أن يرث النبوة زيفًا.
الصـ، هيونية العودة المزيفة
مع نهايات القرن التاسع عشر، وُلدت الحركة الصـ، هيونية على يد ثيودور هرتزل، كحركة سياسية تدّعي أنها تمثل "الشعب اليـ، هودي"، وتطالب بوطن قومي لهم في فلسـ، طين. لم يكن ذلك بوحي إلهي، بل باتفاقات استعمارية، ومصالح اقتصادية وثقافية.
وعد بلفور من لا يملك إلى من لا يستحق
في العام 1917، أصدر وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور وعدًا لليـ، هود بوطن في فلسطين. وعدٌ كتبه بيده، على أرض لا يملكها، لأناس لا يستحقونها. كان ذلك تتويجًا لتحالفٍ استعماري–صـ، هيوني، رأى في فلسـ، طين بوابة للسيطرة على الشرق.
الماسـ، ونية الوجه الخفي للصـ، هيونية
الماسونية، تنظيم غامض ينسب نفسه إلى "الحكمة القديمة"، لكن جوهره تمجيد الإنسان المتمرد على الإله، وتحطيم الأديان تحت شعار وحدة البشر. هي الأداة الفكرية للصـ، هيونية، تزرع الفتن، وتفكك الشعوب، وتلبس لبوس الحداثة والتقدم وهي تنقض القيم وتدمر الهويات.
النكبة غرس الكيان في قلب الأمة
عام 1948، أعلنت "إسـ،رائيل" قيام كيانها على الأرض الفلسـ، طينية، بدعم غربي شامل، وسط تواطؤ دولي وصمت عربي. شرّدت مئات الآلاف من الفلسـ، طينيين، ودنّست المقدسات، وقتلت ودمّرت، لتقيم دولتها على الدم والدموع.
الواقع العربي فتنة وتمزيق
الوطن العربي، الذي كان مهد الحضارات والأنبياء، وأصل اللغة وموطن الرسالات، صار اليوم ممزقًا، مستنزفًا، تحكمه أنظمة عاجزة، وتعصف به الفتن الطائفية والمذهبية، يُستهلك من الداخل بينما يتفرّج على الاحتلال من الخارج.
اللغة العربية الأم المظلومة
اللغة التي نزل بها القرآن، والتي بها خاطب الأنبياء أقوامهم، أصبحت مهمّشة في عقر دارها. تُزاحمها لغات المستـ، عمر، وتُقصى عن التعليم والإعلام، وكأن قطع الجذور جزء من خطة التفتيت.
بين وعد السماء ومكر الأرض
قصة بني إسـ،رائيل ليست فقط حكاية قوم، بل مرآة لتاريخ أمة، تتصارع فيها الحقيقة مع التزوير، والإيمان مع الطغيان. ما زال الشرق هو الميدان، وما زال الصراع قائمًا.
لكننا نؤمن أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وأن وعد الله نافذ، وأن هذه الأرض، مهد الرسالات، ستعود إلى أهلها، طال الزمان أو قصر.
ختامًا، لا بد أن نضع الأمور في نصابها التاريخي والديني إن الأنبياء الذين بُعثوا برسالات السماء خرجوا من هذه الأرض، من وطنٍ عربيٍّ خالص، يخاطبون أقوامًا عربًا بلغة السماء – العربية. أرض المشرق، من كنعان إلى الحجاز، كانت مهد النبوة، ومسرى الرسالات، ومهبط الوحي، فكيف يُعقل أن شرذمة تجمّعت من أطراف الدنيا، تدين بدينٍ محرّف، وتستقوي بالاستعمار والمال، تنقضُّ على أرضٍ عربيةٍ أصيلة، فتحتلها وتُخرج أهلها منها قسرًا وظلمًا؟
أين هي المحاكم الدولية، والمنظمات الأممية، والضمائر الحيّة؟ أين العدل والحق الذي يتغنّى به العالم؟ أين منظمات حقوق الانسان ؟ اين الديمقراطية التي يتغنون بها؟ وأي عقلٍ أو دينٍ أو ميثاقٍ يقبل هذا التزوير الفجّ للتاريخ والجغرافيا والحق الإنساني؟
الحل العادل لا يكون إلا بإزالة هذا الكـ، يان الغاصب، وعودة كل مهاجرٍ إلى موطنه الأصلي، حيث وُلد، لا حيث اغتُصبت الأرض. فلسـ،طين عربية، وستبقى عربية، وستعود لأهلها مهما طال الظلم، لأن وعد الله حق، ولأن الباطل لا يدوم، ولأن الأرض لا تورّث بالغصب بل بالحق، والحق في نهاية المطاف، لا بد أن ينتصر.
إضافة تعليق جديد