بقلم د /سماح عزازي
مقدمة الفصل
حين أسدل الستار على عصر يوسف كان بنو إسرائيل يعيشون في مصر في كنف الرعاية والاحترام، بفضل مكانة يوسف المرموقة في بلاط فرعون. لكن الزمن دار دورته، وظهر "فرعون جديد" لا يعرف يوسف، ولا يقدّر فضل آل يعقوب. بدأ عهد الظلم والاضطهاد، وبدأت معه فصول جديدة من التشكيل الإلهي لهذه الجماعة التي قدّر لها أن تحمل الرسالات ثم أن ترفضها، وأن ترى الآيات ثم تكفر بها، في حركة متكررة بين الاصطفاء والعقاب.
في هذا الفصل، نتابع التحول الكبير من نهاية عصر يوسف إلى بداية دعوة موسى عليه السلام، ونرصد ملامح التغير العقائدي والاجتماعي في بني إسرائيل، ونغوص في أعماق قصة موسى بما فيها من معجزات، وتجلٍّ إلهي، وخيبات قوم عصوا نبيهم رغم الآيات البينات.
هنا سنتناول فترة مهمة في تاريخ بني إسرائيل، تلك التي انتقل فيها أحفاد يعقوب عليه السلام (أي بني إسرائيل) من مرحلة النعمة والتمكين في مصر، إلى مرحلة العبودية تحت حكم فرعون. كيف تحولوا من أن يكونوا ضيوفًا في أرض مصر إلى أن يصبحوا عبيدًا في قصر الفرعون؟ وكيف كانت هذه الفترة مؤلمة لهم، لكنها كانت أيضًا محطة من محطات العظمة في تاريخهم، لأنها كانت بداية التحول الكبير الذي قادهم في النهاية إلى الحرية تحت قيادة موسى عليه السلام
نزول بني إسرائيل إلى مصر
كان نزول بني إسرائيل إلى مصر في بداية الأمر نتيجة للجوع الشديد الذي أصابهم بسبب المجاعة الكبرى. فقد هاجروا إلى مصر بعد أن اضطروا للبحث عن الطعام، حيث كان يوسف عليه السلام قد تولى منصبًا كبيرًا في الحكومة المصرية. الملك يوسف استقبلهم بحفاوة وأعطاهم الأرض ليعيشوا فيها بسلام، وكان هذا بمثابة مكرمة لهم من الله سبحانه وتعالى.
لكن مع مرور الزمن، تغيرت الظروف، وبدأ الفراعنة الذين جاءوا بعد يوسف عليه السلام في التعالي عليهم. وتُظهر الأحداث اللاحقة كيف أصبح بني إسرائيل يشكلون عبئًا سياسيًا ودينيًا في نظر فرعون، وبالتالي بدأوا يتحولون إلى شعب مُستعبد.
ظهور فرعون وتحوّل الأمور
فرعون، الذي يُعتبر رمزًا للطغيان والفساد، كان يعتقد في نفسه ألوهية، وكان يرى أن حكومته هي أقوى من أي قوة أخرى. فمع تطور سلطته، بدأ يظلم بني إسرائيل بشكل تدريجي، ويستغل قوتهم لصالحه.
قال الله تعالى عن فرعون:
"إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًۭا ۖ يَسْتَضْعِفُ طَآىِٔفَةًۭ مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِىٰ نِسَآءَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ فِىٓ مّنَ ٱلْمُفْسِدِينَ" (سورة القصص 4).
استعباد بني إسرائيل
فرعون... الطغيان والتنكيل
فرعون ادّعى الألوهية، وبدأ خطة استئصال ممنهجة ضد بني إسرائيل، عبر استعبادهم، وقتل ذكورهم، واستحياء نسائهم، خشية ولادة من يهدد عرشه.
كانت أحوال بني إسرائيل في مصر تتدهور مع مرور الوقت، ومع بداية حكم فرعون الطاغي، أصبحوا مُستعبَدين يعملون في الأعمال الشاقة. كانوا يُجبرون على بناء المدن والمشروعات الكبرى في مصر، حيث كان فرعون يستخدمهم كعبيد في مِصْر.
قال الله تعالى:
"فَذُوقُوا۟ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ ۖ إِنَّا نَسِينَٰكُمْ ۖ إِنَّا۟ نَسِينَٰكُمْ" (سورة السجدة 14).
كان هذا هو المعاناة الكبرى التي مر بها بني إسرائيل في مصر، فقد كانوا يعانون من التسخير في الأعمال، ولا حقوق لهم، بل كانوا يُظلمون ويُعذبون بشدة. وتُعتبر هذه الفترة نقطة تغيير أساسية في تاريخهم، إذ أنها جعلت منهم شعبًا مظلومًا ينتظر المخلص.
سنوات النسيان والتحول الكبير
من يوسف إلى موسى... شعب يتبدل من ضيافة مصر إلى عذاب فرعون بداية الانحدا ر انتهى عهد يوسف عليه السلام، وبدأت سنين النسيان. مات يوسف، ودفن في أرض مصر، وبقي بنو إسرائيل في أرض "جوشن" يعيشون كجالية مهاجرة، لكنهم حافظوا على تمايزهم العرقي والديني. ومع تعاقب الأجيال، بدأ الفراعنة يرون فيهم خطرًا ديموغرافيًا وسياسيًا. وهكذا بدأ عهد الاضطهاد: استعباد، تسخير، وقتل للأبناء، واستحياء للنساء.
قال تعالى:
"إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا، يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ، يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" [القصص: 4].
حين ارتجف العرش من نبوءة الغلام...
في صمت الوادي الضارب في القدم، كان لليل المصري رهبة، لا يكسرها سوى صراخ نساء بني إسرائيل كلما انتُزع من أحضانهن وليد. لم يكن الأمر سوى أمر ملكٍ جبّارٍ تملّكه الرعب... فرعون، الإله المتوّج في الأرض، بلغه أن غلامًا من نسل أولئك العبيد سيخرج من بين الرُحم ليطيح بالعرش ويكسر الصولجان. لم يسأل عن عدالة النبوءة، بل أمر بالسيف أن يُسكت كل بكاء، وأن يُهرق الدم في كل مهْدٍ جديد.
كان بنو إسرائيل قد أصبحوا طائفة متماسكة، عُرف عنهم التديّن، والعمل، والصبر، والتكاثر... ولكنهم ظلوا "الآخر"، المنعزل بالدين والنسب، في مجتمعٍ تحكمه العقيدة الرسمية، وطبقية صارمة لا ترحم. رأى فيهم فرعون "خطرًا داخليًا" يجب أن يُقصى. فصارت الأرض تموج بدماء الأبناء، وتئن بأحزان الأمهات، في مشهد لا يكتبه التاريخ إلا حين يُعلّق الظالمون على حبال العاقبة.
وهنا... وفي قلب الرعب، ولد موسى.
الوليد الموعود في زمن الذبح
وُلد موسى عليه السلام في لحظةٍ يتقطّع فيها الأمل، وتتعالى فيها صرخات الأمهات المفجوعات بأطفالٍ يُنتزعون من أحضانهن نحو الموت ميلاد موسى عليه السلام الوحي تحت جناح العدو ولد موسى في أكثر الأوقات خطرًا، حيث أصدر فرعون أمرًا بقتل كل مولود ذكر من بني إسرائيل كان فرعون قد استحكم في الأرض وأصدر أمره الغاشم بقتل كلّ ذكرٍ يولد من بني إسرائيل، "يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ"، فكان ميلاد موسى تحدّياً للقدر البشري، وتجليًا للقدر الإلهي. جاء إلى الدنيا في عام الذبح، لا في عام العفو، وكأن السماء أعلنت أن الخلاص لا يأتي من التنازلات، بل من قلب المحنة. هذا الرضيع الباكي سيقلب موازين الطغيان، ويكتب فصلًا جديدًا في قصة المستضعفين لكن الله أوحى إلى أم موسى أن تلقيه في اليم، فكانت المعجزة الأولى في مسيرة النبوة.
وعدٌ في قلب اليمّ
حين خافت أمّ موسى على وليدها من بطش فرعون وجنوده، أوحى الله إليها بما لم يخطر على قلب بشر: "أنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ"، فكان الإلقاء في الماء أمناً لا خوفاً، وحفظاً لا هلاكاً. سارت الأمواج بالتابوت حتّى رست به على شاطئ قصر الطاغية نفسه، ليصبح عدوه الألدّ بين يديه، "فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا". لكن يد القدرة كانت تخيط خيوط النجاة بدقّة، فأبت نفس الرضيع كل المرضعات، حتى جاءت أخته ترقب المشهد عن كثب، وقالت بثقة: "هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ؟"، فعاد موسى إلى حضن أمه، لا على سبيل الشفقة، بل بأجرٍ ورعاية سلطانية، "كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ"… وهكذا كان
قال تعالى:
"وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ ٱرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِۦ فَٱلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۚ إِنَّا رَٰدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَٰعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ" (سورة القصص 7).
هذه الحماية التي وفَّرها الله لموسى منذ ولادته هي علامة على عظمة مشيئة الله ورحمته في أوقات المحن.
مراقبة أخت موسى له
أم موسى، أثناء إلقاء ابنها في البحر، كانت في قلق شديد، ولكن الله أمرها بأن لا تخاف، وعهد إليها أن ترسل أخته لمتابعة مصير موسى عليه السلام. أخت موسى كانت تتبع التابوت في سرية حتى وصل إلى قصر فرعون، فتعرف على موسى، وأخبرت زوجة فرعون بذلك، فقالت له:
"قَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰٓ أَهْلِ بَيْتٍۢ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُۥ نَٰصِحُونَ" (سورة القصص 12).
وهكذا، كانت أخت موسى أحد الأسباب التي أفضت إلى أن يعيش موسى في القصر الفرعوني، بعيدًا عن الخطر، وتحت رعاية أسية، زوجة فرعون التي كانت في البداية على غير دينه.
موسى وتربيته في قصر فرعون
ترعرع موسى في قصر فرعون، وبدأ يتلقى تربية خاصة تحت إشراف فرعون نفسه، لكن كانت دعوته في قلبه منذ البداية، وعاش في تصدع داخلي بين حب الله وخوفه من فرعون. وهذا ما جعل حياته في القصر ليست على ما يرام من الناحية الروحانية.
آسيا بنت مزاحم، زوجة فرعون، رأت الطفل وتعلّقت به، وقالت:
"قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ، لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا" [القصص: 9].
نشأ موسى في قصر من ظلمه، وتربّى على يد من سيكون خصمه، وجاءت مشيئة الله أن يكون شاهداً من داخل القصر على الفساد والظلم
إن قصة موسى عليه السلام تمثل ذروة التدخل الإلهي في مجريات التاريخ، حيث تجلّى الوحي منذ نعومة أظفاره حين ألهم الله أمّه أن تلقيه في اليمّ، ثم عاد ليظهر مجددًا في طور سيناء حين كلّمه الله تكليمًا. وبين الوحيين، كان موسى أداة قدرية لإسقاط أعتى طاغية عرفته البشرية، فصار رمزًا للصراع بين الإيمان والاستكبار، وبين الرسالة والملك الفاجر.
النبوة... والكشف عن المهمة
في مرحلة من حياته، قتل موسى عليه السلام أحد رجال فرعون دفاعًا عن أحد بني إسرائيل، وهو ما جعله يهرب إلى مَدْيَنَ خشية من فرعون. كانت تلك الحادثة بمثابة نقطة تحول حاسمة في حياة موسى، حيث خرج من القصر ليواجه الحياة بمفرده.
الخروج إلى مدين... وتشكُّل النبوة في مدين، تبدأ مرحلة جديدة من التكوين موسى العامل الراعي، المتواضع المتأمل، يلتقي بالرجل الصالح، ويتزوّج ابنته، ويعيش حياة بسيطة بعيدة عن القصور. كانت هذه السنوات محطة التصفية والتهذيب. وهناك، في الخلاء، وبعيدًا عن صخب السلطة والدم، يناديه الله عند الطور، ويمنحه الرسالة: "فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ". وهنا يبدأ موسى النبي، المرسل، الذي سيعود ليواجه الطغيان بصوت الحق.
كانت اللحظة الفارقة رأى نارًا في جانب الطور، فاقترب، فإذا به يكلمه الله سبحانه وتعالى.
"إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى" [طه: 12].
كلّفه الله بالذهاب إلى فرعون، ومعه أخوه هارون، ليدعوه إلى عبادة الله وحده
موسى في مدين اللقاء مع شعيب عليه السلام
بعد هروب موسى، رحل إلى مدين، وهناك قابل شعيبًا عليه السلام، الذي آواه ومنحه زوجة ابنته. وعاش موسى في مدين عدة سنوات. هذا الانقطاع عن السلطة الفرعونية كان فرصة لتطوير قدراته القيادية، ولإعداد نفسه للرسالة التي سيحملها في المستقبل لم يكن القتل في نية موسى، بل كان غضبة للحق في وجه الظلم، حين وكز القبطي دفاعًا عن رجل من قومه، فسقط صريعًا، وبدأت رحلة التيه. خرج موسى خائفًا يترقّب، لا يحمل من الدنيا شيئًا سوى فطرته النقية ويقينه بالله. مضى حتى ورد ماء مدين، وهناك التقى فتاتين تذودان، فاستحيا وسقى لهما، ثم تولى إلى الظل يدعو ربه بدعاء المحتاج الصادق: "ربِّ إني لما أنزلتَ إليّ من خيرٍ فقير" [القصص: 24].
ومن الظل جاءه النور، ومن الضعف وُلد الرجاء، حين دعاه الشيخ الكبير، وزوجه إحدى ابنتيه، ليبدأ موسى حياةً جديدة في أرض الغربة. ثمان سنين مضت يخدم فيها بأمان ورضا، حتى إذا قضى الأجل، عاد بأهله نحو مصر... لا يدري أن القدر ينتظره على أطراف طور سيناء، وأنه سيعود لا كطريدٍ خائف، بل كرسولٍ مصطفى، يحمل في قلبه رسالة وفي يده عصا، تزلّ بها عروش الطغاة.
موسى عليه السلام في الوحي العودة إلى مصر
بعد سنوات من البُعد عن مصر، جاء الوحي الإلهي إلى موسى عليه السلام في الواد المقدس طوى، حيث رأى شجرة في الجبل تلتهب ولكنها لا تحترق. كان هذا أول لقاء مباشر مع الله، وسمع صوت الله يناديه قائلًا:
"إِنَّنِىٓ أَنَا۟ رَبُّكَ فَٱمْلَأْتِ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوَىٰ" (سورة طه 12).
هنا بدأ موسى عليه السلام في تلقي الرسالة النبوية. وحي الله إلى موسى كان يدعوه إلى العودة إلى مصر لإنقاذ بني إسرائيل من عبودية فرعون.
المعجزات الكبرى: العصا واليد
لإقامة الحجة، أيده الله بآيات بينات، أولها العصا التي تحولت إلى حيّة تسعى، واليد البيضاء التي تخرج من جيبه كأنها قطعة نور. هاتان المعجزتان لم تكونا مجرد خوارق، بل إشارات رمزية لانكشاف الباطل وانتصار النور:
"فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌۭ مُّبِينٌۭ. وَنَزَعَ يَدَهُۥ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـٰظِرِينَ"
(سورة الشعراء 32-33)
الظهور الأول لموسى عليه السلام أمام فرعون
مواجهة الطغيان كان موسى عليه السلام هو الأمل الذي أرسله الله إلى بني إسرائيل لإنقاذهم من ظلم فرعون، حيث نشأ في قصر فرعون نفسه، لكنه كان يحمل رسالة الهية تؤهله لقيادة بني إسرائيل للخروج من هذا العبودية.
قال الله تعالى:
"وَفَتَنَّا فِى السِّجْنِ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِهِمْ حُبًۭا لَّمْ يَكْفُرُوا۟ بِهِۦ" (سورة القصص 13).
عاد موسى إلى مصر حاملًا رسالة من الله تعالى، ومُكلَّفًا بمهمة تحرير بني إسرائيل من قبضة فرعون. لم يكن ظهوره عاديًا، بل كان مشهدًا مهيبًا في قصر الطغيان، حيث دخل موسى عليه السلام على فرعون بدعوة مباشرة من الله:
"اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ"
(سورة النازعات 17)
طلب موسى عليه السلام من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون، فأجابه الله:
"سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـٰنًۭا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِـَٔايَـٰتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَـٰلِبُونَ"
(سورة القصص 35)
وقف موسى في وجه فرعون، وبلّغه الرسالة بكل ثقة:
"فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولَا رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ"
(سورة الشعراء 16-17)
لكن فرعون استكبر، وبدأ حملة تشويه، متهمًا موسى بالكفر بنعم القصر، ومشككًا في الوحي الذي يحمله، بل وسخر منه أمام الملأ:
"قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ"
(سورة الشعراء 23)
ورغم أن موسى نشأ في القصر الفرعوني، إلا أن التحول الداخلي في قلبه جعله يشعر بمعاناة بني إسرائيل. بعد أن اكتشف حقيقة نسبه، وقع في نفسه أن الله قد أرسل إليه رسالة من أجل إنقاذ قومه من العبودية.
سحرة فرعون لحظة الحقيقة
دفع فرعون إلى جمع السحرة لمواجهة موسى عليه السلام في مشهد عظيم، حيث احتشد الناس يوم الزينة. ألقى السحرة حبالهم وعصيهم فخيّل للناس أنها تسعى، لكن موسى ألقى عصاه فابتلعت كل ما صنعوه، وكانت لحظة انكشاف الحق.
فآمن السحرة بموسى رغم تهديدات فرعون:
قال تعالي
"فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِينَ. قَالُوٓا۟ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ. رَبِّ مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ"
(سورة الشعراء 46-48)
الماشطة... دم الشهادة في قصر الطغيان
إحدى الشخصيات التي دخلت في قصة موسى بشكل غير متوقع. عندما آمنت بالله وتحدت فرعون في الإيمان به، كانت بداية مواقفها البطولية. رغم أنها كانت من خدم القصر، لكنها رفضت الانصياع للطغيان، واختارت التمسك بإيمانها بالله. وقد كانت هذه التضحية الجليلة سببًا في استشهادها على يد فرعون. و من أبرز النساء اللاتي ثبتن في وجه فرعون: ماشطة ابنته، وهي امرأة مؤمنة من بني إسرائيل كانت تمشط شعر بنت فرعون، فزلّ لسانها بـ "بسم الله" فتعجّبت الفتاة. ولما علم فرعون بإيمانها، أمر بإلقائها في النار، فثبتت، ومعها أبناؤها، وكان رضيعها هو أول من تكلّم في المهد ليشجعها على الثبات.
قال الله تعالى:
"قَالَ رَبُّ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ" (سورة الفرقان 59).
وكانت الماشطة أحد الشهادات على معجزة موسى حيث صمدت أمام كل التهديدات، ورغم تعذيبها الشديد، آمنت بالله، وكان ذلك سببًا في خلاصها من الدنيا ودخولها الجنة.
آسيا زوجة فرعون رمز الإيمان والتضحية
لم تكن آسيا زوجة فرعون امرأة عادية، بل كانت نورًا في قلب الظلام، وإيمانًا يتحدى الطغيان من عرش الطاغية نفسه. عاشت في قصر يقطر ظلمًا، لكنها آمنت برب موسى، ورفعت رأسها نحو السماء تطلب خلاصًا لا يأتي من الأرض. فلما استشاط فرعون غضبًا، عذّبها حتى لفظت أنفاسها الأخيرة وهي تهمس برجاء المؤمنين: "ربِّ ابنِ لي عندك بيتًا في الجنة..." [التحريم: 11].
هي سيدة اختارت الجنة على القصور، والإيمان على الأمان، فصارت آية في الثبات، ومثالًا للمرأة التي تؤمن حين يكفر العالم آسية كانت واحدة من أعظم النساء في تاريخ البشرية. رغم أنها كانت زوجة فرعون، الذي كان يعتبر نفسه إلهًا على الأرض، إلا أنها كانت مؤمنة بالله. وقد سعت إلى أن تربي موسى عليه السلام في بيتها، وعاشت معه فترات طويلة، حتى اختارها الله أن تكون من المؤمنات في تلك الحقبة.
قال الله تعالى عن آسية:
"وَقَالَتْ رَبُّهَا رَبُّ ٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًۭا فِى ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ" (سورة التحريم 11).
كان موقف آسية يمثل أعلى درجات التضحية والإيمان بالله، على الرغم من جميع التحديات التي كانت تواجهها في قصر فرعون. كانت هذه المواقف التي جعلت آسية قدوة للمؤمنات.
الرسالة والمعجزات... والعناد الفرعوني
وقف موسى أمام فرعون، وأظهر له العصا التي تحولت إلى حيّة، واليد التي خرجت بيضاء، لكن فرعون كذّب واتهمه بالسحر.
جمع فرعون السحرة، فلما رأوا المعجزة سجدوا لله، وقالوا: "آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ". هنا بلغ التحدي ذروته، وبدأ فرعون يهدد ويتوعد، لكن الإيمان انتصر في قلوب من صدقوا
محاولة فرعون القضاء على موسى عليه السلام
حينما بدأ موسى عليه السلام في إعلان دعوته وتوجيهها إلى فرعون، بدأ فرعون يشعر بالتهديد من هذه الرسالة التي قد تقوض حكمه، ولذلك لجأ إلى التهديد والتعذيب، بل حتى حاول قتل موسى عليه السلام، ولكن الله سبحانه وتعالى كان يحميه.
قال الله تعالى:
"قَالَ رَبُّنَا الَّذِى فَتَرَ السَّمَاوَٰتِ وَالْأَرْضَ" (سورة الفرقان 59).
ورغم هذه التهديدات، إلا أن موسى عليه السلام بقي ثابتًا في دعوته. وقد تجلى ذلك في معجزات عديدة، كان العصا هي أبرزها، حيث تحولت إلى ثعبانٍ عظيم، ليؤكد قدرة الله على التحكم في كل شيء.
مواجهة فرعون والتمرد على الله
كانت معركة الكرامة التي نشبت بين موسى عليه السلام وفرعون بمثابة دليل حي على عظمة الله، وكيف أن الطغاة مهما كانوا في سُلطتهم، فإنهم لا يساوون شيئًا أمام قوة الله. كانت النهاية المحتومة أن الله دمر فرعون وجنوده بغرقهم في البحر.
قال الله تعالى:
"فَجَاءَتْ رِيحٌۭ عَاصِفَةٌۭ فَفَجَّرَتْ أَنْوَاعًَا قَلَّتْ مَعَكُمْ" (سورة القصص 16).
الخروج العظيم من مصر ... ومعجزة البحر
بعد سلسلة من الآيات والعذاب لقوم فرعون (الدم، الضفادع، الجراد...)، أمر الله موسى بالخروج. شقّ البحر بعصاه، فانفلق البحر ومرّ بنو إسرائيل. ولما تبعهم فرعون وجنوده وعند اشتداد الازمة أتى الفرج
"فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ ۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍۢ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ"
(سورة الشعراء 63)
نجا موسى وبنو إسرائيل، وغرق فرعون وجنوده.
، أغرقه الله، وقال:
"فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً" [يونس: 92].
وفي لحظة الغرق، حاول فرعون الإيمان، لكن الأوان كان قد فات:
"ءَآلْـَٔـٰنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ"
(سورة يونس 91)
في التيه... التمرد على النبوة
ما إن عبر بنو إسرائيل البحر حتى بدأت حلقة جديدة من العقوق:
طلبوا من موسى أن يجعل لهم "إلهاً" كما للمشركين.
عبدوا العجل الذي صنعه السامري.
رفضوا دخول الأرض المقدسة.
طالبوا موسى بأن يروا الله جهرة.
وهكذا حُكم عليهم بالتيه أربعين سنة، وحرِموا من النصر، ومات جيل العصيان
من الظلمة يولد النور
لقد كانت رحلة بني إسرائيل من النعمة إلى العبودية، ثم إلى الحرية، مليئة بالدروس والعبر. فقد أظهر الله فيها كيف يتحوّل الضعف إلى قوة، والمحنة إلى منحة، عندما يكون الإنسان متصلًا بوحي السماء.
لقد بدأت رحلة التحرر بخيوط من الألم، لكن الله كان يُعدّ لهذا الشعب قائدًا فريدًا هو موسى عليه السلام، الذي جمع بين النبوة والشجاعة والحكمة. وكانت النساء الصالحات – من أمه وأخته إلى آسية وماشطة فرعون – جزءًا لا يتجزأ من صناعة هذه المعجزة التاريخية، في رسالة واضحة أن المرأة المؤمنة قادرة أن تهز عروش الطغاة.
شريعة الوادي... التجلّي والميثاق
حين استقر بنو إسرائيل في أرض سيناء، صعد موسى إلى جبل الطور ليناجي ربّه، وهناك تلقّى الألواح التي تضمّنت التوراة والميثاق الإلهي. خلال غيابه، اغترّ القوم، فعبدوا العجل الذهبي الذي صنعه السامري.
قال تعالى:
"وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ، أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا؟" [الأعراف: 148].
ورغم كل ما رأوه من آيات، ظل في قلوبهم نزوع إلى الوثنية، وحنين إلى عبودية مريحة، بدلًا من عبودية التكليف.
رفض الأرض المقدسة... السقوط من الاصطفاء
حين أمرهم الله بالدخول إلى الأرض المقدسة (فلسطين)، جبنوا، وقالوا:
"فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ" [المائدة: 24].
وهنا بلغ العصيان ذروته، فصدر الحكم الإلهي:
"فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ" [المائدة: 26].
ومات موسى في التيه، ولم يدخل الأرض المقدسة، بل كانت نهايته في جبل نِبو، كما ورد في الروايات التوراتية. وانقضى بذلك جيل موسى، وبدأ الإعداد لجيل جديد.
تأملات في الشخصية الجمعية لبني إسرائيل
من خلال هذا الفصل، يتجلّى لنا نمط متكرر في سلوك بني إسرائيل:
سلوك العبد لا المؤمن:
يحنّون إلى قيود مصر، ويكرهون مسؤولية الحرية.
تمرد على النبوة:
يشكّكون، يطلبون الدليل، ثم ينقلبون بعد ظهور الآيات.
مادية مفرطة:
يعبدون عجلاً من ذهب، ويطالبون بإله يرونه بأعينهم.
نفاق الجماعة:
حينما تنزل الآيات يؤمنون، ثم يرتدّون في أول لحظة فراغ.
لقد شكّلت هذه المرحلة – مرحلة موسى والتيه – اللبنة الأساسية لشخصية بني إسرائيل الجمعية التي ستتكرر لاحقًا مع أنبيائهم، ومع يسوع (عيسى عليه السلام)، وحتى مع نبي الإسلام.
من النبوّة إلى التمرّد... البذرة التي أنبتت الخيبة
لقد شكّلت مرحلة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل اللبنة الأولى في بناء الشخصية التاريخية والدينية لهذه الجماعة، وهي شخصية لا تستقر على حال، تمزج بين الإيمان والانقياد حين الخوف، وبين الجحود والتمرّد حين الأمان.
التحرر من العبودية – بداية الارتقاء
بعد أن غرق فرعون، خرج بني إسرائيل من العبودية في مرحلة جديدة، حيث بدأوا في تشكيل أمة جديدة تكون أمة قوية تحت راية العبودية لله، وليس للفرعون. موسى عليه السلام قصة الفرج بعد العبودية بعد أن غرق فرعون وجنوده في البحر، بدأت رحلة بني إسرائيل في البحث عن أرض الميعاد، وكان موسى عليه السلام هو القائد الذي يوجههم إلى الخلاص. لكننا لا يمكننا أن نغفل عن تفاصيل قصة موسى منذ ولادته حتى نبوته، التي تحمل دروسًا وعبرًا مهمة لأمة الإسلام اليوم.
لقد كانت هذه المرحلة، من العبودية في مصر إلى التيه في سيناء، أخطر مراحل التكوين في تاريخ بني إسرائيل، وفيها تتجلّى طبيعة هذا القوم الذي يحمل في داخله التناقض الأزلي بين الاصطفاء الإلهي والتمرد على هذا الاصطفاء، بين النعمة والجحود، بين الوعد والنقض
لقد خرجوا من مصر ومعهم "النجاة"، لكنهم لم يتحرروا من داخلهم. كانت قيود فرعون قد زالت، لكن عبودية النفس، وحب المادة، والخوف من المواجهة، ظلت راسخة فيهم. وكان موسى، رغم نبوّته، يواجههم كأنما يواجه قلوبًا مقفلة، تتحدث بلسان العبد، وتراوغ بعقل التاجر، وتؤمن ساعة وتكفر أخرى.
في التيه، أراد الله أن يصنع جيلًا جديدًا لا يعرف الذل، ولا يحمل في ذاكرته بؤس العبودية، فمات جيل مصر، ولم يدخل أحدٌ منهم الأرض المقدسة إلا اثنين: يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، كما في روايات أهل الكتاب.
لم يكن التيه مجرد عقوبة لبني إسرائيل على تمردهم وجبنهم، بل كان تحوّلًا جوهريًا في بنية الجماعة وتاريخها. فعبر أربعين عامًا في صحراء سيناء، تمّت تصفية الجيل الذي شبّ على الذل والعبودية، وتكوَّن جيل جديد لم يعرف فرعون، ولم يتربَّ في ظلال القهر، بل نشأ في الخلاء على قسوة الطبيعة وتربية السماء. وفي هذا التحوّل الإلهي الصارم تتجلّى حكمة الله في إعداد أمة تستحق الوراثة لا بالعدد بل بالعقيدة والانضباط.
لقد انتهت مرحلة موسى بالتيه، لكنّها لم تكن النهاية لبني إسرائيل، بل كانت البذرة الأولى لوعيهم بأنهم "شعب مميز"، مختار – زعمًا – ومكلف بمهام ربانية. هذه الفكرة التي ستنقلب لاحقًا إلى استعلاء قومي وديني، وتصبح نواة العقيدة الصهيونية الحديثة.
لقد مرّ بنو إسرائيل في هذا الفصل بتحوّلات ثلاث كبرى:
تحوّل اجتماعي: من قوم مرحّب بهم في عهد يوسف إلى عبيد مسحوقين في عهد الفراعنة.
تحوّل عقائدي: من موحدين يحملون بقايا دعوة إبراهيم ويوسف إلى قوم عبدوا العجل بمجرد غياب نبيّهم.
تحوّل وجودي: من السعي إلى الأرض الموعودة إلى الضياع في التيه، حيث أُغلقت السماء في وجوههم إلا لمن أطاع وصدق.
وهكذا، يقف التيه علامة فارقة في تاريخ بني إسرائيل، لا كحدث عابر، بل كفصلٍ كاملٍ من التأديب الإلهي، يعكس هشاشتهم العقائدية، وسرعة انحرافهم، ورفضهم للامتثال، رغم كل ما أُوتوا من آيات. ومن رحم هذا التيه، سيخرج الجيل الجديد الذي سيكتب الفصل التالي في سيرة بني إسرائيل، لا بصفته امتدادًا، بل كقطيعة مع جيل الغواية، تمهيدًا لعهد جديد من الصراع والاختبار
وقد لخّص القرآن الكريم هذا التحوّل العقابي بقوله تعالى:
﴿قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيهِم أَربَعينَ سَنَةً يَتيهونَ فِي الأَرضِ فَلا تَأسَ عَلَى القَومِ الفاسِقينَ﴾
[المائدة: 26]
وفي هذه الآية تتجلّى حقيقة العلاقة بين السماء وبني إسرائيل: علاقة مشروطة بالطاعة، سرعان ما تنقلب نقمة عند الفسق. لم يقل الله "فلا تحزن عليهم" بل قال: "فلا تأسَ على القوم الفاسقين"، في إشارة قاطعة إلى أن التيه لم يكن مجرد ضياع، بل حكم إلهي بفقدان الاستحقاق، وتنحية لجيل انكشف فساده رغم المعجزات والآيات.
والآية تضع خطًا فاصلًا بين بني إسرائيل كقوم اختارهم الله، وبينهم كجماعة فسقت وخذلت الوعد، فتساووا بمن سبقوهم من المكذبين. إنها دعوة للتدبر: أن الاختيار الإلهي لا يُؤبّد لأحد، بل يُسحب حين يُنقض العهد.
وهنا يكشف لنا تحول بني إسرائيل من حياة النعمة في مصر إلى حياة العبودية تحت حكم فرعون. وبينما كانوا يظنون أن المصير مظلم، كانت إرادة الله أكبر، فأنقذهم موسى عليه السلام وبدأت مرحلة جديدة من الحرية والتحرر.
دروس مستفادة من هذا الفصل
إرادة الله أقوى من كل طغيان: فرعون كان يُظن أنه لا يُهزم، لكن الله سبحانه وتعالى دمره وأهلكه.
الظلم يخلق أملًا جديدًا: على الرغم من الظلم الذي تعرض له بني إسرائيل، إلا أن الله أنقذهم وأظهر لهم طريق التحرر.
التوكل على الله في مواجهة التحديات موسى عليه السلام علمنا كيف نواجه أعتى الطغاة عندما نثق بالله.
في هذا الفصل، استعرضنا قصة موسى عليه السلام منذ ولادته، مرورا بحياته في قصر فرعون، ولقاءه بـ شعيب عليه السلام في مدين، ثم الوحي الإلهي الذي قاده للعودة إلى مصر. كما تناولنا الدور البارز ماشطة فرعون و آسية زوجة فرعون في هذه المرحلة.
هذه الشخصيات تبرز إيمانًا عميقًا في أوقات الظلم والطغيان، وهي تمثل رمزًا للصبر والثبات في مواجهة التحديات الكبرى. في الفصل القادم، سنتناول مرحلة التيه في الصحراء، حيث سيبدأ موسى عليه السلام مع بني إسرائيل رحلة الخلاص النهائية من العبودية إلى الحرية.
وهكذا، بعد أن أغلق بنو إسرائيل أبواب الرحمة بأيديهم، وتكررت خيانتهم للميثاق، كانت النهاية حتمية... غضبٌ إلهيٌّ عارم، ومعبدٌ مدمّر، وشعبٌ يُساق إلى المنفى. في الفصل القادم، ننتقل إلى لحظة الانكسار الكبرى: السبي البابلي، حين أُغلقت السماء، وبدأت ملامح الانغلاق العقائدي تتشكّل، إيذانًا بعصر جديد من الشتات، والتبدّل، والتأويل.
هوامش ومراجع توثيقية (مقترحة):
1. القرآن الكريم: سورة القصص، الأعراف، طه، المائدة، يونس.
2. تفسير الطبري، وتفسير ابن كثير، عند الآيات المتعلقة بموسى وبني إسرائيل.
3. التوراة – سفر الخروج وسفر العدد وسفر التثنية (لأغراض المقارنة فقط، بحذر منهجي).
4. "القصص القرآني" – فاضل السامرائي.
5. "بنو إسرائيل في القرآن الكريم" – محمد سيد طنطاوي.
6. "التيه اليهودي في التاريخ" – رشاد الشامي.
7. "العهد القديم وأساطير الشرق الأدنى" – خزعل الماجدي (لبيان التشابهات والمصادر).
8. دراسات الأنثروبولوجيا الدينية عن الطابع النفسي للجماعات المستعبدة
إضافة تعليق جديد