سناء فاروق تصوير عماد اسحاق
نظمت جمعيّــة الآثار القبطيّـــة بمقرها القائم بالكنيسة البطرسيّة بقاعة الصفا محاضرة بعنوان "الحياة المهنية في مصر من خلال نصوص الحياة اليومية و الفنون القبطية "من القرن الثالث حتى القرن السابع الميلادي"
القتها الدكتورة انجى حنا مدرس الاثار والفنون القبطية بجامعة المنيا والحاصلة على درجة الدكتوراة فى تاريخ الفن القبطى من جامعة ساسكس البريطانية بحضور العديد من الباحثين والمهتمين بالاثار والدرسات القبطية
بدأت المحاضرة بالترحيب من الأستاذ نبيل فاروق مدير مكتبة جمعية الآثار القبطية نيابة عن المهندس واصف بطرس غالي رئيس جمعية الآثار القبطية، بالحضور ثم قام الدكتور نادر الفى الباحث وعضو جمعية الآثار القبطية بتقديم الدكتورة انجى حنا والتى قالت فى بداية كلمتها .
شهدت اثار الحضارات الانسانية المختلفة ونصوصها القديمة على الاحتياج الانسانى لدمج الفكر والعقيدة فى بيئة العمل وعرف علماء النفس الاجتماعى هذة الظاهرة بـ "روحانية بيئة العمل "وهى مبحث نامى لبعض الشركات والمؤسسات الاكاديمية الخاصة بالعديد من فروع العلوم الانسانية
وهناك تحديات عدة فى مواجهة ودراسة هذة الظاهرة فى الماضى ومنها الحقبة التاريخية الممتدة من القرن الثالث وحتى القرن السابع الميلادى والمعروف بالعصر الرومانى المتأخر
احد هذة التحديات هى شغف المؤرخين لرصد وتوثيق قصص الساسة والمؤسسات الاجتماعية الهامة بينما اغفلوا حياة الفئات المهمشة ومنهم العمال والموظفين لذا وجب استخلاص قصاصات من حياتهم المهنية كما عكستها الفنون القبطية والروايات المنشورة بين طيات الشكاوى القانونية وعقود العمل وعقود تدريب الصبية والنصوص السحرية والقوانين الرومانية وسير حياة القديسين
الهرم الاجتماعى بناء على الوظائف
واضافت الدكتورة انجى حنا بانة يمكنا ان نزعم فى حدود الدليل الوثائقى المتاح ان العاملين فى مصر القبطية انضمو لواحدة من ثلاث طبقات اجتماعية "الطبقة العليا – الطبقة الوسطى – الطبقة الدنيا "
ضمت الطبقة العليا كبار رجال الدولة ومعظمهم من النبلاء ذوى اصول يونانية وعبر القرون المتلاحقة اختفت بعض هذة الوظائف كذلك استبدلت بعض الوظائف بأخرى واستحدثت وظائف جديدة وتقاضى موظفى الدولة اجورا عالية مكنتهم من امتلاك ضياع واراضى متسعة على سبيل المثال واظهرت الوثائق ان هذة الفئة شكلت من 15 الى 31 حالة من مجموع 205 من كبار ملاك الاراضى فى اقليم انتينوبوليس "الشيخ عبادة "
وضمت الطبقة العليا ايضا كبار ملاك الاراضى وشكلوا القطاع الاكبر من هذة الطبقة كما ضمت اعضاء مجالس المدن وكانت عضويتهم ذات ثمن حيث انهم انفقو اموالا حتى يحصلوا على هذة العضوية واظهرت البرديات ان هذة الفئة كانت تتذمر فى مواقع عدة من الاعباء المالية خاصة بعد التغير الادارى الذى قام بة الامبراطور دقلديانوس فى اوائل القرن الرابع وقد سجلت احد البرديات ان احد اعضاء مجالس المدن اضطران يبيع ممتلكات زوجتة لاخفاقة فى جمع الضرائب والتى كانت احدى مسئولياتة
اما عن الطبقة الوسطى فكانت تضم صغار ملاك الاراضى الذين اعتمدوا على انتاج اراضيهم للايفاء بنفقات معيشتهم وقد ضمت هذة الطبقة ايضا الاعمال المرتبطة بالانتاج والبناء مثل الطحانين والخبازين وعاملى معاصر اليت والبنائين والنجارين والنساجين والحدادين
واخيرا الطبقة الدنيا وقد ضمت"ادنى" الفئات العاملة من وجهة نظر المعاصرين مثل العبيد والفلاحين والمستأجرين والحرفيين كذلك ضمت المهن الموصومة اجتماعيا والمتعلقة بالمهن الترفيهية وتجارة الجسد مثل الممثلين والراقصات والغانيات
وانعكس هذا البناء الاجتماعى على عدد قليل من القطع الفنية البيزنطية المعاصرة مثل لوح عاجى محفوظ بالمكتبة الوطنية بباريس يخلد ذكرى تولى القنصل اناستاسيوس حكم القسطنطينية عام 517م كما ظهر هذا التميز الطبقى المبنى على المهنة على قاعدة المسلة التى شيدها الامبراطور ثيئودوسيوس الاول فى اسطنبول عام 390م وقد يشهد هذا التوجة الفنى على تماثل وتجانس المنظور الاجتماعى الطبقى للعمال فى جميع انحاء الامبراطورية
النقابات
واشارت الدكتورة انجى حنا لدور النقابات فى القرن الرابع حيث تطلب تنظيم العلاقة بين الحكومة من جهة واصحاب الاعمال من جهة اخرى الى انشاء النقابات فى القرن الرابع وقد كانت هذة النقابات منظمة الى حد كبير حيث كان لكل نقابة رئيس يشغل هذا المنصب لمدة محدودة كان يرفع تقريرا لمجلس المدينة تحديدا لمن يشغل وظيفة الممثل المحلى للسلطة العليا وفى بعض النقابات كانت العضوية اجبارية وخاصة تلك التى تنظم الاعمال ذات الصلة بضريبة
تدريب الصبية
واضافت الدكتورة انجى حنا انة بالرغم من ان معظم المهن كانت تنتقل من جيل الى جيل بالوراثة الا ان الامر تطلب تدريب الصبية وبعض برديات البهنسا قدمت نماذج لعقود تدريب يضع فيها كل من المعلم وولى الامر من سنة لخمس سنوات خلال هذة الفترة كان المتدرب يتقاضى اجرا زهيد جدا ربما لا يكفى لاطعامة
وطبقا لعقود التدريب المكتشفة كان يحق للمتدرب اجازة سنوية من 18 الى 20 يوما وفى بعض المجالات كان المعلم يعطى شهادة اجادة الحرفة
اذن فى ظل هذة الظروف كيف مذج اصحاب الحرف والاعمال افكارهم وعقائدهم فى ميدان العمل
والقت الدكتورة انجى حنا الضوء على نموذج لمهنة هامة وهى مهنة الكاتب بقولها
وردت مهنة الكاتب فى البرديات وعلى شواهد القبور بمصطلحات عدة منها كاتب قانونى وكاتب بطريقة الاختزال وهذا الاختلاف فى التسمية لم يعكس فقط التخصصات المختلفة ولكن ايضا الاختلاف فى المكانة الاجتماعية
ويشير عقد ايجار من البهنسا لكاتب يدعى سيرينيوس حيث وصف بالعقد كناسخ
وبعد 13 عام من تاريخ العقد وصف سيرينيوس فى بردية اخرى ككاتب قانونى هكذا كانت مهنة الكاتب من الوظائف التى تسمح بالترقى وظيفيا واجتماعيا وتتطلب مهنة العمل ككاتب محترف التمكن من ادوات معينة كانت تستغرق وقتا لاتقانها منها دراسة القانون والادب الكلاسيكى ويذكر ان ديسقوروس الافروديتى وهو كاتب وشاعر ومحامى شهير عاش فى القرن السادس بقرية كوم اشتاو بسوهاج وتلقى تعليمة فى الاسكندرية وبالطبع هذا المستوى من التعليم لم يستطع ان يؤمن سوى ابناء الاثرياء فقد كان ديسقوروس ابنا لعمدة القرية ومن اغنى اعنيائها
وقد اكتسبت مهنة الكاتب مكانة اجتماعية مميزة نظرا لعدة اسباب ومن هذة الاسباب كانت حاجة المجتمع فقد ادى انتشار الامية حتى بين ابناء الطبقة العليا الى ازدياد الحاجة الى كتاب محترفين قادرين على تحرير المعاملات والمراسلات اليومية والقانونية
وفى قرية قفط اظهرت العقود ان حوالى خمسة اسداس من المتعاقدين لجأوا الى استئجار كتاب محترفين لصياغة وكتابة العقود الى جانب
قدرتهم فقد امنت العلاقات الاجتماعية مصدر اخر لقوتهم طبقا لبرديات البهنسة فقد عمل كاتب يدعى بفنوتيوس لصالح عائلة ابيون الشهيرة فى ثمانينيات القرن السادس وفى العقد التالى عمل لصالح سيدة تدعى اناسطاسيا وهى واحدة من اشهر ملاك الاراضى فى اقليم البهنسا مثل هذة العلاقات زودت الكتاب بقوة اجتماعية وقدرة على التأثير وزاد من قوة الكاتب عامل اخر وهو الثروة واجور الكتاب غير مسجلة بشكل واضح و يبدو ان اجر كاتبى العقود والكتاب القانونيين كان الاعلى على الاطلاق بالاضافة الى الاجور كشفت برديات البهنسا ان بعض الكتاب كان لديهم اعمال اضافية تذيد من ثروتهم على سبيل المثال يذكر ان دسيقوروس عمل مع والدة ابوللو وعمة بيساريون ونسيبة فويبامون فى مجال بيع وايجار وادارة الاراضى فى قرية افروديتو او كوم اشتاو
وفى ظل هذا الوضع ماذا كانت اهم التحديات التى قابلت اصحاب مهنة مرموقة كمهنة الكاتب ؟
قدم ارشيف دسيقوروس مثال من المشكلات التى قد تواجة هذة الطبقة
ففى عام 551ق م قدم دسيقوروس شكوى امام الامبراطور جستنيان ضد احد رجال الدولة ويدعى ثيؤدوسيوس وجامع الضرائب يوليانوس اللذين حاولا اخضاع ضرائب القرية تحت سيطرتهما من عام 556 الى عام 573 انتقل ديسقوروس للعمل بانتينوبوليس" الشيخ عبادة " مقر عمل حاكم الاقليم الطيبى واعتقد الباحثون ان انتقالة كان سعيا نحو وظيفة افضل بينما نجد انة قد يكون ناتجا عن استمرار التوتر بين دسيقوروس ومسئولى جباية الضرائب بالقرية ففى عام 567 ق م كتب دسيقوروس شكوى اخرى ضد افعال جامع ضرائب اخر يدعى ميناس والذى اغتصب جذء من اراضى دسيقوروس واعطاها لرجل يدعى كيروس ومجموعة من الرعاة وقام بحبس 13 من اصدقاء دسيقوروس وفى هذة الشكوى وصف دسيقوروس حالتة واقامتة فى انتنوبوليس بانة "منفى فى ارض غريبة " فى اشارة منة انة اضطر الى مغادرة قريتة هربا من بطش جامعى الضرائب
وفى ظل هذا التحدى امام طبقة الكتاب بكونهم قطاع هام فى الطبقة العليا وتحديدا طبقة ملاك الاراضى هل امنوا بضرورة دمج فكرهم وعقيدتهم فى مجال اعمالهم ؟ ليس لدينا الدليل الكافى لرسم صورة واضحة للروحانية فى مجال عمل الكاتب بينما يوجد نموذج نادر لقطعة فنية قبطية يمكن ان تقدم اجابة لهذا السؤال
وهذا النموذج هو عبارة عن مقلمة ترجع للقرن الخامس الميلادى مصنوعة من قطعة من الجلد مثبتة على اطار خشبى يأخذ شكل متوازى مستطيلات وقطعة اخرى مثبتة فى الخلفية لعمل خمسة قنوات مخصصة للاحتفاظ باقلام الكتابة وكانت المقلمة مزودة بحبارة ولكنها غير موجودة الان وزينت المقلمة بشكل قديس محارب فى زى عسكرى يرتدى حزام
يتوسطة جامة عليها مونوغرام للسيد المسيح "رمز للسيد المسيح "والقديس مصور فى وضع معروف بـ "السحق الطقسى"وبة يستند بيدة على سيف بيضاوى ويدة اليمنى تمسك حربة مغروسة فى رقبة ثعبان برأس انسان
يعلوة تاج واسفل المنظر نص يونانى طويل مكتوب بكلمات غير مترابطة لا تعطى معنى واضح
واعلى رأس القديس توجد صيغة دعائية بها اسم الكاتب مالك المقلمة مكتوبة باللغة اليونانية واسم القديس "ايها القديس فيلوثاؤس اعن عبدك باميو" والقديس هو فيلوثاؤس الانطاكى وقد كانت لة شعبية كبيرة فى مصر القبطية حيث وجدت سيرتة فى عدد من المخطوطات تروى حياتة وعذباتة ومعجزاتة
اهم مخطوطة
وعن اهم مخطوطة اكدت الدكتورة انجى حنا هى مخطوطة بالقبطى الصعيدى ترجع لعام 583م تسمى "استشهاد القديس فيلو ثاؤس " وهى محفوظة الان بمكتبة ومتحف مورجان بمانهاتن بنيورك وظهرت ايضا شعبية هذا القديس فى برديات البهنسا بين عامى 535-536 ويقول المؤرخ كريستوفر ولتر تعليقا على تصوير القديس فيلوثاؤس على المقلمة انة اول نموذج للايكونوجرافى "فن الأيقونة" المصورة للقديسين المحاربين
الغريب ان القديس ظهر فى زى محارب على المقلمة رغم انة يظهر فى المخطوطات كطفل صغير قد يشير هذا الى المعالجة الادبية لتعز يات السماء للقديس اثنا عبادتة حيث كان السيد المسيح ورؤساء الملائكة ميخائيل وروفائيل يشجعونة قائلين "تقوى تحصن" ربما ايضا صور بهذا الشكل نظرا لشعبية القديسين المحاربين فى هذة الفترة والاعتقاد فى قوة شفاعتهم
فى كل الاحوال جاء هذا التصوير كصيغة سحرية تحمى الكاتب باميو من اعدائة الخفيين حيث يؤكد النص قوة القديس التى تغلبت على الشياطين واقامت والدية من الموت وقوتة ايضا فى مواجهة السحر الاسود حيث سرد النص كيف ان دقلديانوس امر احد سحرة القصر بأن يصارع القديس واشار كيف تغلب علية القديس بطريقة معجزية عندما انشقت الارض وابتلعت الساحر
اذن وجود هذة الايكونوجرافى " كلمه يونانى معناها رسم الصور " على المقلمة الى جانب النص السحرى اسفلها ربما كان محاولة من الكاتب باميو فى معالجة التحديات التى تواجة فى ميدان عملة وربما قصد بها الحماية من اعدائة من جامعى الضرائب او موظفى الدولة او منافسين او حاقدين ...الخ
فى كل الاحوال جاءت لتؤكد ان اصحاب الاعمال حتى الاكثر تعليما وقوة ومكانة اجتماعية كان لديهم احتياج انسانى واضح لدمج معتقداتهم فى بيئة العمل
هكذا برز دور الفن القبطى كمرأة تعكس مكونات النفوس فكل صورة او كلمة على قطعة فنية لم توضع بشكل عشوائى انما كانت جزء من منظومة فكرية روحانية اعم
واختتم اللقاء بالعديد من المداخلات الهامة والإجابة على العديد من الأسئلة والاستفسارات التى اجابت عليها الدكتورة انجى حنا ، واخذ الحضور العديد من اللقطات التذكارية بعد انتهاء المحاضرة
إضافة تعليق جديد