

قصة بقلم الأديبة سحر القوافي
تتفرس الشارع المنسي الغارق في البؤس والشجن من نافذة بيتها وقد بدت لها العمارات علب كارتونية ستحترق في أية لحظة ..تفكر حورية في انبلاج فجر جديد تسترخي فيه خواطرها على مسارح الذاكرة بلا وجع..تنكش أوجاعها ومٱسيها الفائتة والحاضرة..تغوص في غيابات الأيام الحالكة وتعيد رسم الصور الفظيعة القاتمة التي مرت من هنا.. زمن القهر والعهر والعربدة والاستبداد والبغي التي تتقاسمها مع المشردين والكادحين والمنبوذين ..السماء المكفهرة المتجهمة العالقة بذاكرتها التي تمطر وابلا من المحن واليأس والألم..وشوارع الليل الغريبة المغبشة بالرماد والخذلان والعثرات والإعاقة تلك الشوارع المعبأة بالفراغ..
الليل معسعس وأزقة المدينة وساحاتها قد خلت من الحركة العارمة والجلبة الصاخبة إلا من قلة أشباح تظهر هنا وهناك سرعان ما تختفي وبعض المشردين والضائعين والتائهين تعبرها من فينة لأخرى.. وحول حاويات تجميع القمامة تتعارك القطط والكلاب وتحوم الجرذان وكلها مشاهد مألوفة باستثناء تلك السيارات الفخمة التي تشي بأن الغيلان المرعبة والغربان وعصابات الظلام والدجالين تجوب شوارع الليل..حيث كل شيء مباح فيها .. العهر والعربدة والنصب والمجون والمتاجرة بالبشر وتصفية الحسابات والقتل..
وفي زاوية ركن معتم خلف البناية الواقعة في نهاية الشارع ..الجهة الخلفية المظلمة ..اجتمعت عصبة من الشباب يفترشون الأرض ويرسمون أحلامهم العسجدية على قوارب الموت ..يحبكون خريطة إبحار نحو المجهول ..يرعبهم صقيع البؤس واليأس وتلفحهم نار المغامرة المحفوفة بالمخاطر وكل واحد منهم يواري في روحه أعصارا وأكداسا من الخيبة والشجن..كغيرهم من شباب هذا الوطن الذين ولدوا بلا هوية..أو بهويات منتهية الصلاحية..عاشوا مجرد أرقام وحروف على ورق تمسحها اوتحرقها الغيلان متى تشاء..يعيشون في عجز ووهن.. تقيدهم أصفاد العبودية مادامت أسماؤهم قد سجلت في دفاتر الوطن المنسي بدار البلدية .. شباب جمعتهم الخطوب والنوائب واليأس وقارب الموت..إنها رحلة التفتيش عن الوطن ..
ثلاثة شبان بشهادات جامعية يئسوا من طرق الأبواب الموصدة ومن مسابقات التوظيف الواهمة التي تتحكم في نتائجها المحسوبية والبيروقراطية والمساومات والمعرفة الشخصية..أما رابعتهم فستكون طالبة جامعية قهرها الضنك وظروفها المزرية وخيانة الشريك فقررت الالتحاق بهم عندما يجهزون للرحلة..إنهم شبان تائهون يراهنون على هدوء البحر وانشغال الجميع بقضية ترشح الرئيس للعهدة الخامسة ليبحروا نحو مرفإ الأحلام..لا يأبهون بالمصير المعتم فاليأس قد وأد فيهم الإحساس بجمال الحياة ..إنهم لا يهابون الموت ولا يرهبون المد الأزرق ..يفتشون عن الكرامة المفقودة خلف العباب بعدما تيقنوا بأن شبابهم يسلب منهم بلا هدف وأن أحلامهم وٱمالهم قبرت في دهاليز السلوان..ففقدت أبصارهم رسم الأشكال والألوان والظلال ..تدثروا بأتراحهم وخيباتهم وأوجاعهم ..يتباحثون في شأن الرحلة الملغمة يستجمعون قواهم ويلتقطون أنفاسهم ..فربما بلغوا الضفة الأخرى وربما استعجلتهم أقدارهم وابتلعتهم الحيتان أو تقادفتهم الأمواج إلى شواطىء النسيان..
معشر من الأشباح كأطياف حلم ألقت بهم يد الخطوب والهوان والقحط إلى بيداء الاغتراب ..يتوجعون في صمت بعيدا عن ضوضاء الملاهي والمقاهي والحانات ..يحمل كل واحد منهم سرا ووزرا.. يجر أذيال التهافت والضياع ..حولهم جور الغيلان إلى سراب ووهم ..فتاهوا في دهاليز من حمم ..يفكرون في عهد جديد ..يبتعدون فيه عن عصابة الغربان والبوم والضباع..حيث يجدون بعض الهدوء وينعمون بشيء من الراحة والدفء والأمان ..لكنه الوجل يسكنهم ويمزق أشرعتهم قبل الإبحار..وسدوم الأسى تؤرق خواطرهم وتبعثرها وإسار الحرمان يهصر أرواحهم التائهة في وهاد الظلام ودكون الوجع يمزق أفئدتهم ويمنع انبلاج الأمل والفجر الجديد ..تدروهم رياح الخيبة في دوامة من فراغ حالك..
قال صوت منهم يخاطب صاحبيه: ربما سنبحر نهاية الأسبوع القادم أيها الإخوان..فلنجهز برميل بنزين صغير ونشحن بطاريات المصابيح وكثير من الماء وزيت الزيتون وأطواق النجاة وكل ما نحتاج إليه في هذه الرحلة الصعبة..
هز الجميع رؤوسهم إيجابا إعلانا منهم بالموافقة..وبعدها ساد صمت ثقيل ..قطعه صوت ٱخر:
هل تصدقون ما يتداول في الفايسبوك حول مظاهرات الجمعة المقبلة ودوافعه؟! هل سنخرج أيضا؟!
وأردف الٱخر: أعتقد أنها ثورة ..يقولون ثورة سلمية يحظر فيها العنف ..إنها ثورة الكرامة انتفاضة الأرواح العطشى للضياء ..عندي راية كبيرة احتفظ بها للاحتفالات ..فهل ستأتون معي؟!
ورد أحدهم:
إذن لنخرج بعد صلاة الجمعة ..سنقود مسيرة سلمية تبدأ من هذا الحي المنبوذ وتنتهي في ساحة المدينة الكبرى ..سنعد لافتات نكتب عليها أفكارنا وهواجسنا ونرسم عليها ظلال أحلامنا..سيلتحق بنا الشباب زرافات زرافات من أبناء الأحياء الفقيرة المنسية الغارقة في الوسن والحرمان والضياع ..إنهم محتقنون مثلنا ..اختنقوا من رائحة العفونة التي تملأ الأجواء وترهق العباد والبلاد واكتووا بمذلة الحقرة والتهميش..
افترق الشباب على هذه الخواطر التي تشرشت بمخيلتهم وفتحت لهم نافذة على الزمن القادم في الجمعة المباركة..
التقى الشباب بعد صلاة الظهر وقد حمل كل واحد منهم لافتة كتب عليها ما أراد أن يتقاسمه مع الجموع من أبناء حيه أو أمته..أفكار ولدت من رحم المعاناة والتهميش والغضب والعهر السياسي الذي بات يضرب البلاد ..فقد توالت عليها عهود من التعفن والتلوث والجمود ..يقال إنها الخامسة والحقيقة أنها تجاوزتها إلى الوراثة..
هؤلاء الشباب وعوا الوجود في دوامة عهد الإفلاس التي لم تبارحهم بعد ولم تترك لهم متنفسا للحياة ..مازال القشعم يحلم بعهدة جديدة وخلفه تبرعم أحلام الغربان الذين حكموا البلاد ورهنوا العباد من سنين طويلة ..يتداولون السلطة بينهم كأنها اقدارهم..كالرقطاء ذات السبع رؤوس في كل مرة تخرج رأسا بلون جديد يتلونون كالحرباء ويغيرون جلودهم كالثعابين..
تعالت هتافات تنادي بالحرية والكرامة والتغيير.. وأخذت جموع غفيرة تنظموا إليهم ..وراح العدد يزداد شيئا فشيئا وانطلقت زغاريد النسوة تلهب الحماس ..وصاحت حورية من النافذة مع العابرين للحي تردد معهم الهتافات..
وتدفقت الشلالات البشرية من كل حدب وصوب نحو الساحة الكبرى ولسان حالها واحد ..تهتف بصوت وحدته المواجع والمحن : لا للعهرة الخامسة..لترحل الغيلان والأفاعي والغربان..لترحل العصابة..
ثر سيل الجياع..يجرون أذيال الحرمان والوجع والضياع، يلوحون بالأيدي ويرفعون الرايات واللافتات يتوعدون الرعاع والأعادي ..هؤلاء الجياع يعلنون ثورتهم بعدما سئموا الوأد والألم وملوا من ترهات الحكام ومن الأدواء والأسقام.. من الذل والهوان والفاقة والحمام ..ملوا من عربدة ساسة يعيثون الفساد والدعر والرعب والخراب..يزرعون الدمار واليباب..يعدونهم بجنان واهية من سراب..
جرى سيل الجياع وعم الشوارع والبقاع واجتاح الديار والخواطر والبصائر والأبصار..سال كوابل من مطر ..لا يبقي ولا يدر..يضج من وجع :ارحلوا يالصوص الحياة والأحلام..سنتحرر..نكسر الأصفاد ونهدم أسوار السجن..ونرمي بقررات البغي والظلم..
تعالت الهتافات ولوحت الأيادي بحرية وقد كسرت أغلال الذل والعبودية بعدما أذاقها الأراذل الأنجاس خسفا وذلة ينمقون الخطب ويملأون الرؤوس بالوهن ويزرعون اليأس والبؤس والأسى..
كالأمواج العاتية اجتاحوا الميادين والساحات والشوارع بصدور عارية لا يهابون الموت ولا المدرعات والرصاص وكتائب الموت والقناص ولا السجون والسياط..
تلاطمت الأمواج الهائجة في كل حي وزاوية ..الأرواح المتلهفة للنور تكتسح الديجور ..توحدت السواعد الدامية لم تعد تخشى الليل والذئاب العاوية..
اجتاح المنبذون والمحرومون والبائسون والجياع أسوار قلعة الطاغية ..ودكوا الحصون المريعة..
لوحت الأيادي ..صاحت الحناجر بأعلى صوتها وهتفت في الميادين باقتلاع جذور الباغي.. كانت الجموع كعاصفة هوجاء ثارت فجأة في وجه القشعم والحاشية ..وانقلب السحر على الساحر وتحولت العهرة الخامسة إلى جمرات حارقة وخناجر تنغرز في صدور الطغاة والحاشية..
وأعجب الشبان بعظمة المشهد فتعاهدوا على قيادة الثورة والبقاء في أرض الوطن بعدما اكتشفوا النافذة المطلة عليه..
"قصة قصيرة بقلم الأديبة الجزائرية سحر القوافي.. "
إضافة تعليق جديد