بقلم / محمــــد الدكـــــرورى
إذا تكلمنا عن العقل فسنقول بأن العقلُ هو أكبرُ المعاني ، وأعظمُ الحواسِّ نفعًا، وبه يُدخَلُ في التَّكليف، وهو شرطٌ في صحَّة التصرُّفات، وأداء العبادات ، وأن التفضيلَ إنما كان بالعقلِ الذي هو عُمدةُ التكليف، وبه يُعرَفُ الله، ويُفهَمُ كلامُه، ويُوصَلُ إلى نعيمه وتصديقِ رُسُله، إلا أنه لمَّا لم ينهَض بكلِّ المُراد من العبدِ بُعِثَت الرُّسُل، وأُنزِلَت الكُتب ومِنْ أفضل نِعَم الله على عباده، نعْمةَ العقل، فلولا العقل لما عرَف الإنسان دينَ الإسلام والنبوة، والخيرَ والشر، والحقَّ والباطل، والمعروفَ والمنكر
وقد جاءَت الشريعةُ بحفظِ العقلِ من جهتَي الوجود والعدَم ، ولمكانةِ العقلِ السامِيَة خصَّه الله عز وجل بالتكريم والتشريف، والمقام العليِّ المنيف، وصانَه ووقاه بالشرع الحَنيف، عن الزَّيغ والجُنوح والتحريف ، ولذلك حرَّم الشرعُ كلَّ ما يُخِلُّ بالعقل ويُبدِّدُه، أو يُتلِفُه ويُفسِدُه، وإذا غابَ العقلُ سقطَ التكليفَ؛ لأن الله عز وجل إذا أخذَ ما أوهبَ أسقطَ ما أوجَبَ.
وقد انقسَمَ الناسُ في شأن العقلِ إلى قسمَين: غالٍ فيه مُعتقِد، وجافٍ عنه مُنتقِد.
فالأولُ: جعل العقلَ أصلاً كليًّا أوليًّا، يُستغنَى به عن الشرع ، والثاني: أعرضَ عن العقل وعابَه، وقطعَ أسبابَه ، وكلاهما انحرف وزلَّ، وما اهتدَى فيما به استدلَّ فإذا فَقَدَ الإنسان العقلَ السليم الذي يقوده إلى الخير، ويُبعده عن الشر، فقد أصبح كالبهيمة التي تأكل وتشرب ولا تعقل شيئًا؛ بل إنها خيْرٌ منه .
وأما الذين هجَروا عقولَهم وغيَّبُوها عن معرفة الحقِّ واستِبصار الهداية، فأُركِسُوا في بَيداءِ الغِواية ، ولبناءِ العقلِ الراجِح الوقَّاد، والرأي الحَصيف النقَّاد، والمُجتمع الرَّصين المُتوادّ، نهَى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يكون المُسلمُ إمَّعةً فعن حُذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكونُوا إمَّعة، تقولون: إن أحسنَ الناسُ أحسنَّا، وإن ظلَموا ظلَمنا، ولكن وطِّنُوا أنفسَكم إن أحسنَ الناسُ أن تُحسِنوا، وإن أساؤُوا فلا تظلِموا". أخرجه الترمذي .
ولبناءِ الأُمم على العقول الرواجِح، والأخلاق السواجِح، والمقاصِد النواجِح لزِمَ احتِضان الشباب والجِيل والناشِئة، والعنايةُ بمغارِسِها حتى يتِمَّ في غوارِبِ العقلِ رائِعُ اكتِهالِها، وفي مُتون الحِكمة بديعُ اكتِمالها، وأن نكون لذلك مُتطلِّعين، وفيه بحقٍّ مُتضلِّعين، ولا أنفعَ في ذلك ولا أكرَم، ولا أجدَى ولا أعظَم من الإكبابِ على هديِ الوَحيَيْن الشريفَيْن؛ فإنهما يُزكِّيان العقولَ والخواطِر، ويُدِرَّان من صوادِق الرأي ومُحكَم الفِكر الرِّهامَ والمواطِر، والتِزامُ حُسن الظنِّ بالمُسلمين، وإصلاحُ النوايا والسرائِر.
فكيف بنا حِيالَ من أسلَسُوا أرسانَ عقولِهم لكل ناعِقٍ بالشَّائِعات عبر الشَّبَكات والتِّقانات، وأناخُوا مطايا أهوائِهم لأول نبْأةٍ من التغريدات، فهامُوا بها في مجاهِل الضلالات والتحليلات، ومضارِب التهوُّكات والافتِراءات، في قرصَنةٍ عقليَّةٍ عجيبةٍ، واختِطافٍ فكريٍّ رهيبٍ وإنَّ محبة المرء المكارم منَ الأخلاق وكراهته سفسافها، هو نفس العقل.
فالعقل به يكون الحظ، ويؤنس الغربة، وينفي الفاقة، ولا مال أفضل منه، ولا يتمُّ دين أحد حتى يتم عقلُه، وهو من أفضل مواهب الله لعباده، وهو دواء القلوب، ومطية المجتهدين، وبذر حراثة الآخرة، وتاج المؤمن في الدنيا، وعُدَّته في وقوع النوائب، ومن عدم العقل لم يزدْه السلطان عزًّا، ولا المال يرفعه قدرًا، ولا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذَّة دُنياه.
فأين العقول والنُّهَى والأحلام؟! أين الحصافةُ والرَّزانةُ في الألباب والإحكام؟! حين تُبنَى على مُجرَّد التغريدات المواقِفُ والأحكام ، حتَّامَ تُبرَى الأجيال على النَّزَق والرُّعونة شأن الطَّغام، وَيْح المُقلِّدين العَميم دون تفكيرٍ يهدِي ويُبين ، والعقل ، اسم يقع على المعرفة بسلوك الصواب، والعلم باجتناب الخطأ، فإذا كان المرء في أول درجاته يسمَّى أديبًا، ثم أريبًا، ثم لبيبًا، ثم عاقلاً .
وحُكي أن جماعة منَ النصارى تحدَّثوا فيما بينهم، فقال قائل منهم: ما أقل عقول المسلمين، يزعمون أن نبيَّهم كان راعيًا للغنم، فكيف يصلح راعي الغنم للنبوَّة؟! فقال له آخر من بينهم: أما هم، فوالله أعقل منَّا؛ فإن الله بحكمته يسترعي النبي الحيوان البهيم، فإذا أحسن رعايته والقيام عليه، نقله منه إلى رعاية الحيوان الناطق؛ حكمة من الله وتدريجًا لعبده، ولكن نحن جئنا إلى مولود خرج من امرأة، يأكُل ويشرب، ويبول ويبكي، فقلنا: هذا إلهنا الذي خلق السموات والأرض، فأمسك القوم عنه .
فالذي لم ينتفِع بعقله في معرفة الحق والعمل به، ومعرفة الباطلِ واجتنابِه، والعلمِ بالخيرِ والمُسارعةِ إليه والعلم بالشرِّ وبُغضِه والابتِعادِ عنه، فهو من الخاسِرين، لا فرقَ بين أن يكون تابِعًا أو متبوعًا، أو مُقلِّدًا أو مُقلَّدًا؛ فمن عطَّلَ عقلَه عما خلقَه الله له شقِيَ في الدنيا وخَزِيَ في نار جهنم، ولا ينفعه ما تمتَّع به في الدنيا، وسيندَم في يومٍ لا ينفعُ فيه الندَمُ والحَسرة إذا لقِيَ مصيرَه الأبدِيّ، قال الله تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) سورة الملك .
إضافة تعليق جديد