بقلم / محمـــــد الدكـــــرورى
إن الغاية التي خلق الله سبحانه وتعالى، الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل عليهم السلام، يدعون إليها، فهي عبادته سبحانه وتعالى، المتضمنة لمعرفته ومحبته عز وجل، والإنابة إليه والإقبال عليه سبحانه، والإعراض عما سواه، وكل ذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله عز وجل، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم، سبحانه وتعالى، فما يريد منهم من رزق وما يريد أن يطعموه، فتعالى الله الغني المغني عن الحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه.
وإنما جميع الخلق، فقراء إليه، في جميع حوائجهم ومطالبهم، الضرورية وغيرها، ولهذا قال تعالى ( إن الله هو الرزاق ) أي كثير الرزق، الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، وهو سبحانه ( ذو القوه المتين ) أي هو الذي له القوة والقدرة كلها، الذي أوجد بها الأجرام العظيمة، السفلية والعلوية، وبها تصّرف في الظواهر والبواطن، ونفذت مشيئته في جميع البريات، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يعجزه هارب، ولا يخرج عن سلطانه أحد، ومن قوته، أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم
، ومن قدرته وقوته، أنه يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلى.
وعصفت بترابهم الرياح، وابتلعتهم الطيور والسباع، وتفرقوا وتمزقوا في مهامه القفار، ولجج البحار، فلا يفوته منهم أحد، ويعلم ما تنقص الأرض منهم، فالعبادة هي غذاء الروح، وأنت لاتستطيع أن تحصل على هذا الغذاء إلا عن طريق الرسل، وكيف لك أن تعرف غذاء روحك إلا عن طريق الأنبياء المبلغين لرسالات الله عز وجل ولأمره ونهيه، هم الذين يأتون بوحى الذي خلق، فهو الذي خلق روحك وهو يعلم غذائها، إذن العبادة غذاء لهذا الشق الآخر في الجسد وهو الروح، لأن الإنسان لا يمكن أن يعيش حياة سوية مستقيمة بحياة البدن فحسب، فلابد أن يحيا الروح والبدن معا.
وإن حركة الإنسان الحقيقي في هذه الحياة، قائمة على إدراكه فيما يحيط به من ملكوت السماوات والأرض فيمتلئ قلبه بنور الإيمان، فيسلك السبيل الواضح الذي لا غموض فيه ولا التواء، سبيل الأمن والاطمئنان، سبيل الحياة الطيبة، والسعادة النفسية الراضية، ليصل ببحثه ونظره إلى أن كل شيء مرتبط بالله عز وجل، فالخالق سبحانه وتعالى يقول ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) فهل مالك هذا الكون الشاسع بما فيه من معجزات نعلمها ولا نعلمها، يحتاج الى عبادتنا؟ سبحانه لا ضرر عليه من معاصينا، ولا منفعة له من عبادتنا
بل نحن هم المستفيدون من الطاعة، والمتضررون من المعصية، لأن العيش في مجتمع آمن ومتماسك يكون فقط عند إتباع أوامر الله تعالى، ومن يخالف الأوامر سيحاسب على ذلك لقوله تعالى ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ولكن بما أن الامتحان يدور حول الخير والشر لماذا يعاقب الله المشرك حتى لو كانت أعماله حسنة؟ إن الأمر لا يقتصر على الأخلاق الحميدة والأعمال الفاضلة، بل العبرة أيضا في الانقياد والامتثال للدستور الإلهي الذي وضع للسير به نحو الطريق المستقيم.
ويقول الحق سبحانه وتعالى في الحديث القدسيّ الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر وفيه: (يا عبادي لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا ) إلي آخر الحديث، وروى البخاري ومسلم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال كنت رديف النبي صلي الله عليه وسلم يوما على حمار
فقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل " يا معاذ قلت لبيك يا رسول الله وسعديك قال أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله، قال معاذ الله ورسوله اعلم فقال صلي الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا قال معاذ قلت أفلا أبشر الناس يا رسول الله قال لا ، لا تبشرهم فيتكلو" فأخبر بها معاذ بن جبل عند موته تأثما أي خشية من وقوعه في إثم لكتمان العلم عن رسول الله صلي الله عليه وسلم .
وإن الغفلة هي أن ينشغل قلب وعقل الإنسان البالغ الراشد، وهو بكامل وعيه بشيء أو معتقد أو مبدأ، فينصرف بسببها كليًّا عن أشياء أخرى أو سلوكيات وأفعال هي الأولى والأصلح، فالغفلة في الغالب الأعم مذمومة، ونادرًا جدًّا ما تحمد، وقد تكون الغفلة حجة تُستغل لتبرير شيء عظيم ومصيري، وقد ضرب الله تعالى عليها مثلاً، ومنها التحذير من اتخاذها حجة للانصراف، كفرًا وضلالاً، عن حقيقة الفطرة التي فطر عليها البشر أجمعين من عبادة الله تعالى وحده، مبيِّنًا أنه لا يفيدهم ادعاء الغفلة شيئًا، لأن الله تعالى قد أخذ عليهم عهدًا.
وتبدأ الغفلة في القلب عند بعض الناس، وتنسل عند آخرين من خلال التبعيض في تطبيق الأحكام، وهو مطمئن من أن قلبه في مأمن للفصل المذكور بين المادي والمعنوي، وهي ربما تبدأ بالإكثار من الرخص الشرعية، ثم الفتاوى المشروطة، ثم الإبقاء على الفتوى بسقوط الشروط، كل ذلك وأحدنا يظن أن قلبه صاح لم يغفل، ولا يكتشف ذلك إلا والغفلة التراكمية صارت رانًا على قلبه، والغفله تعني عدم التفكير في شؤننا وشئون من حولنا.
وأن نترك الفوضى والسلبية تنتشر في حياتنا ونحن لا ندري، وأن لايعرف المرء الخير من الشر، ولا الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل، ولا الصديق من العدو، فيقول لكل أحد أنه معه دون أن يدري لماذا هو معه؟ وهذا هو "الإمعة"، وهو خلق ذميم حذر منه الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يكن أحدكم إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا ألا تظلموا".
وحينما فصلنا شؤون الروح والنفس وعلومها عن علوم وشؤون حياتنا المادية، من طب وفلك، واتصالات وصناعات، وبيع وشراء، وربح وخسارة، كانت النتيجة أننا ما أنجزنا في هذا ولا في ذاك، وكانت غفلتنا مركَّبة حين غفلنا عن أنَّهما بنيانان متلازمان ومتكاملان في الكينونة البشرية، بل هما مترافقان منسجمان في فطرتنا، والشرعة والمنهاج الذي ارتضاه الخالق لخلقه ليُحْسِنوا الحياة على أرضه وإعمارها، والغفلة تعطل الإدراكات الحسية والسمعية والبصرية والعقلية، فالغفله عن الواقع تفقد المسلم خاصية استشعار الخطر.
كما أن الغفلة هي تسليم النفس لإرادة الآخر، كما يفعل الغثاء مع السيل، فتأمَّل كيف لا يغفل الجندي عن سلاحه، وفي ذلك موته لو غفل، وكذلك لا يغفل العاقل سليم الفطرة والقلب عن طاعة ربه، ولو غفل لمات قلبه وشقيت روحه، والغريب أن الأمر واضحٌ وضوح الشمس في أسس ديننا ومصادره، وعلى رأسها القرآن الكريم والسنة المشرفة، ولكننا قد "نغفل" عنه، والغافل هو من تموت مشاعره ووجدانه فلا يتفاعل مع الواقع، فلا يفرح للحسن، ولا يغضب للقبيح، ولا يبتهج لانتصار الحق وانكسار الباطل، ولا يتألم من انتشار الرذيلة وانحسار الفضيلة.
وهذا هو "ميت الأحياء" الذي حدثنا عنه حذيفة بن اليمان بقوله: "أتدرون من ميت الأحياء؟، من لا يعرف قلبه معروفًا، ولا ينكر قلبه منكرًا"، فالغفلة هي التقليد الأعمى للآخر، وإن الغفلة من أمراض النفس والروح، وهى درجات ومراحل منها الخفيفة ومنها الشديدة، ومنها المحدودة ومنها المنتشرة، ومنها ما هو قبل الوحي والعلم، ومنها ما هو بعده، وإن الإصرار على ذاك الفهم الخاطئ رغم شواهد تصحيحه في القرآن الكريم والسيرة المشرفة هو من التغافل عن حقيقة الغفلة.
وإن استحباب الحياة الدنيا ليس خطأ ولا ذنبًا نُعاقَب عليه، ولكن عندما نغفل بسببه عن الآخرة فهذا هو الذنب، والغفلة هي ترك المشورة، حيث يقود الغرور والإعجاب بالرأي إلى الاستبداد فلا شورى ولا حوار، وهو ما يقود إلى الهلاك، وبينه الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبَع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه" فالغافل لا يسفيد برأي خصمه فيه، ولا يستمع لنصيحة الآخرين، لأنه يظن دائمًا في نفسه الصواب، فلا يراجعها ولا يحاسبها، أما العقلاء، من أهل اليقظة والوعي.
فإنهم يحاسبون أنفسهم، ويعلمون أن: الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله، فقد يكون لدى الأنسان يقظة فكر تمكنه من الحرص على تنفيذ العمل، ولكنه يغفل عن تجويده وتحسينه، وإن الغافلين يريدون نجاحًا بلا ثمن، فيريدون حياتهم كلها راحة بلا تعب، ورفاهية بلا مشقة، أما العقلاء فيعلمون أن العبور إلى النجاح لا يتم إلا بالمرور فوق جسر من التعب والألم، لأن تحقيق الأهداف والآمال يحتاج إلى إرادة قوية، لا يتطرق إليها ضعف، مع التضحية بالراحة والرفاهية، فما ألذ الراحة بعد التعب، والأكل بعد الجوع، والرفاهية بعد المشقة.
فيجب علينا العمل على إيقاظ أنفسنا، وإيقاظ من حولنا من الغفلة، لنعمل معًا على إعادة مجد الإسلام، ونشر مشروعه الحضاري، وإنقاذ العالم من سيطرة وهيمنة قوى الظلم والظلام العالمية، وكفانا موت فالموت يفنينا ويمحوا من عالمنا كل معانى الحياة ومن يرحب به ويسمح بحدوثه فقد حكم على الكون بالفناء والاندثار وليتبواء مقعده من النار، وكفانا نفاقا وكفانا خداعا وكفانا من تكرار اخطاؤنا التى لم نتعلم منها شيئا غير تكرارها كفانا مذابح كفانا جرحى وجثث بلا نهاية.
ولو سرتم في الأرض ومشيتم في مناكبها وجدتم أنّ كلّ ما هو معمور سببه الألفة والمحبّة، وأنّ كلّ ما هو مطمور ناتج عن العداوة والبغضاء، ولنزرع المحبة فى كل بقاع الوجود فالمحبّة هی سبب الوجود والترقّی، والمحبة هی روح الحياة لجسد الانسانية المتهالك وسبب تمدّن الأمم فی هذه الحياة الفانیة، والمحبة هى الشرف الأعلی لكل شعب واذا خلت قلوب الشعوب من هذه المحبّة سقطوا فی أسفل درك من الهلاك و تاهوا فی بيداء الضلال ووقعوا فی وهدة الخيبة، ولنضع فى الاعتبار اننا كلنا اثمار شجرة واحدة واوراق غصن واحد.
كذلك عالم الوجود شجرة واحدة، وجميع النّاس كالأوراق والأزهار والأثمار، ولهذا وجب أن يكون الجميع من الغصن إلى الورق إلى البراعم إلى الثّمرفي غاية الطّراوة واللّطف، وحصول هذه الطّراوة وهذا اللّطف منوط بالألفة والارتباط، لهذا يجب أن يحافظ بعضكم على بعض بغاية القوّة، ويدعو بعضكم لبعض بالحياة الأبديّة، ومن ثم وجب علينا أن نكون في عالم الوجود مثالاً لرحمة الرّبّ الودود، وموهبة مليك الغيب والشّهود، وينبغي لنا أن لا نلتفت إلى العصيان ولا الطّغيان، ولا ننظروا إلى الظّلم ولا العدوان.
فهكذا هى الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا من محنة، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، فإنها الدنيا، ظل زائل، وسراب راحل، غناها مصيره إلى فقر، وفرحها يؤول إلى ترح، وهيهات أن يدوم بها قرار، وتلك سنة الله تعالى في خلقه، أيامٌ يداولها بين الناس، ليعلم الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، إنما هي منازل، فراحل ونازل، حقا إنها الدنيا، حلالُها حساب، وحرامها عقاب.
إضافة تعليق جديد