المؤامرة ..............الجزء الثانى والثلاثين
..
من البداية اتخذت القوات المُسلحة موقف الحياد الداعم فى نفس الوقت لثورة الشباب، مُعترفة بحق المحتجين فى التظاهر، وهو ما أقره مبارك نفسه واعترف به فى خطابه الأول قبل نزول الجيش إلى ميدان التحرير، حيث أشار مبارك إلى أنه مُتفهم لدوافع الشباب وما أدى بهم إلى الاحتجاج والتظاهر، وقد بدا من اللحظات الأولى أن القوات المسلحة تميل إلى إزاحة مبارك فى كل الأحوال، وإن اختلفت الطريقة؛ إما بالإطاحة به فورا كما حدث فى النهاية، أو الانتظار حتى نهاية فترة رئاسته، والحل الثانى كان سيوفر على الجميع- من وجهة نظر القوات المسلحة- كثيرًا من المُعضلات الدستورية والقانونية من أهمها الإجابة عن سؤال مُهم: هل الجماعات التى احتشدت فى ميدان التحرير وفى أماكن أخرى كثيرة على امتداد القطر تُمثل بالفعل أغلبية حقيقية من عدمه؟! وكان الحل الوسط لهذه المعضلة انتقال السلطة إلى المجلس الأعلى إلى أن يتم تعديل الدستور، وإجراء انتخابات ديمقراطية سلمية، يمكن من خلالها دفع الجميع إلى منافسة سياسية فى مناخ ديمقراطى سليم .
.
وطبقا للحالة الصحية المُتردية للرئيس مبارك، بدا فى الأفق أن البديل الثانى سيكون توريث ابنه جمال مبارك، و يبدو أن القوات المسلحة لم تكن راضية عن مشروع التوريث، كما أنها كما يبدو لم تكن أصلًا مُؤيدة لتجديد رئاسة مبارك لفترة أخرى، نتج عن الأحداث ذلك التجانس المُوفق بين القوات المسلحة وما حدث من انتفاضة يناير.
وبعد رحيل مبارك عبّر المجلس العسكرى الأعلى فى أكثر من مناسبة عن عدم رضاه لاستمرار التظاهر فى ميدان التحرير أو فى أى مكان آخر، مُؤكدا أن التظاهر سوف يعوق ويؤخر الوصول إلى نظام ديمقراطى فى وقت قصير كهدف يسعى إليه العسكريون، على عكس ما يعتقد أغلبية الناس.
.
أيضًا أتاح انسحاب الشرطة من مسرح الأحداث لفترة معينة فُرصة أمام القوات المسلحة للتعرف على كثير من أوضاع المحافظات والمدن الكبرى، كما أدى ذلك إلى مزيد من التلاحم بين القوات المسلحة وعناصر الإدارة المدنية على مستوى المحليات. ويبدو أيضًا أن القوات المسلحة بحكم مسئوليتها كانت حريصة قبل كل هذه الأحداث على متابعة ما تقوم به الحكومة وسياساتها الاقتصادية، وخاصة فى مجال الخصخصة. ويُواجه العسكريون حاليًا تحدى إنجاز ما وعدت به الشعب، ومدى التزامها بتحقيق الأهداف طبقًا لبرنامجها الزمنى.
.
فكان هناك ثلاث مراحل مرت بها القوات المسلحة فى التعامل مع أحداث تلك يناير :
.
المرحلة الأولى: موقف القوات المسلحة خلال عام ٢٠١٠ وعدم تأييدها بشكل صامت لخطط مبارك من أجل انتخابه لفترة أخرى جديدة، أو تمهيد الطريق إلى اختيار جمال مبارك بدلا منه.
.
والمرحلة الثانية بدأت مع اندلاع الثورة فى تونس، وبدايات التململ السياسى فى مصر نتيجة أصداء الثورة التونسية، وانتشار التجمعات الاحتجاجية الفئوية وغير الفئوية. ومن الجلى أن القوات المسلحة كانت فى دور المُراقب لما يحدث على الأرض إلى أن تفجرت انتفاضة الشباب فى ٢٥ يناير، ونزلت إلى الشارع وسط تأييد من الجماهير، ومن العجيب أن دبابات القوات المسلحة قد سمحت بحمل شعارات مُؤيدة للشباب ومناهضة لمبارك عند نزولها إلى ميدان التحرير بدون أن يحاول أحد من رجال القوات المسلحة إزالتها فورًا، وتحقق على الأرض ما يمكن وصفه بالتوحد بين الشباب المحتج الغاضب من جهة والقوات المسلحة غير المقتنعة بمنطق النظام بتجديد حكم مبارك لفترة سادسة أو فتح الطريق أمام جمال مبارك للجلوس فى مقعد والده من جهة أخرى.
.
والمرحلة الثالثة بدأت بعد تنحى مبارك وتولى المجلس العسكرى الأعلى مسئولية قيادة البلاد، وتجهيزه الساحة السياسية للثورة القادمة وإنجاز التحول الديمقراطى الحقيقى من خلال تعديل الدستور، وانتخاب حكومة مدنية، فى ظل مناخ غير مشحون بشكوك مُتبادلة، أو مُطالبات فئوية، وفى ظل إصرار من جماعات الشباب على البقاء فى الشارع حتى تُجاب كل مطالبهم.
.
بدأ الجيش بالدفع بوحدات مدرعة فى البداية من الحرس الجمهورى ربما لقربها من مكان الحدث، على أن يتم استبدالها بعد ذلك بوحدات أخرى يمكن المناورة بها بدون الإخلال بالخطة العامة للقوات المسلحة فى تلك الظروف، ومن المؤكد أن القوات المسلحة تمتلك خطة جاهزة لحماية الشرعية الدستورية ضد أى انقلابات عسكرية أو عصيان مدنى يُمثل خطرًا على الدولة وعناصرها الدستورية المعروفة، بما فى ذلك رئيس الدولة المُنتخب. وفى إطار ما كان موجودا على أرض ميدان التحرير فى ٢٨ يناير كان المتوقع أن تُجهض القوات المسلحة ذلك التجمع المُناهض لرئيس الجمهورية، وكل ما يمثله من خطر على مؤسسات الدولة الأخرى. لكن ما حدث على أرض الواقع كان مُختلفا تماما، حيث تأكد من اللحظة الأولى أن القوات المسلحة لم تأت إلى هذا المكان لحماية النظام ، ووصل الأمر إلى حد أنهم سمحوا للمحتجين بكتابة شعاراتهم المُضادة لمبارك على الدبابات، ورفع أعلامهم عليها بدون اعتراض من الجنود أو الضباط. بل أبدت تعاطفها مع مطالب الشباب ورأت أنها مشروعة.
أفرزت العلاقة بين القوات المسلحة والشعب كله، وليس فقط مع من كان فى ميدان التحرير، تجربة فريدة للأمن المُجتمعى بعد اختفاء رجال الشرطة من الشارع. وبدعوة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، طلب الناس حماية أنفسهم بطريقة مُنظمة حتى يصلهم الدعم الأمنى الحكومى، وأعلنت عن أرقام تليفونات للاتصال بها فى طلب النجدة أو فى الإبلاغ عن كل تجاوز للقانون. وفى كل الشوارع والأحياء تكونت جماعات شعبية لحماية المواطنين من اعتداءات اللصوص والخارجين على القانون، ووضعت حواجز للتأكد من تنفيذ حظر التجوال، وتفتيش العربات ومن فيها من أفراد وما قد تحمله من أسلحة أو متفجرات. ومن آن لآخر كانت عناصر القوات المسلحة تمر على المواقع للتأكد من استتباب الأمن والتعرف على أى مطالب أو معلومات من الجماهير، بل تنصحهم بكيفية التعامل مع الخطرين على الأمن.
.
وكان أهم الأزمات التي حدثت بين المجلس العسكري الأعلى وشباب الثورة المزعومة - ومن يعضدهم من المفكرين والجماعات الشعبية التي ترى وجوب اختفاء كل من عمل من قبل مع نظام مبارك - أزمة المطالبة بإقالة الفريق أحمد شفيق، رئيس الوزراء المعين في هذا المنصب قبل تنحى الرئيس مبارك، وتم تأكيد استمرار عمله بواسطة المجلس العسكري الأعلى.
.
وقد عبرت مجموعات شباب ٢٥ يناير( الخونة و العملاء ) عن عدم ارتياحهم لوجود شفيق كرئيس للوزراء المسمى من قبل بواسطة مبارك، وكذلك طالبوا المجلس الأعلى باستبعاد بعض الوزراء ومنهم وزير الخارجية أحمد أبو الغيط، ووزير العدل، كما فتحوا ملف مباحث أمن الدولة وقادته من العسكريين، وطالبوا بإعادة النظر في هذه المؤسسة وطريقة عملها وشهرتها في التعذيب وخطف المواطنين والتخلص منهم، وهدد شباب الثورة المزعومة ومن يؤيدهم باستمرار تجمعهم في ميدان التحرير حتى يستجاب لمطالبهم.
.
ورغم أن المجلس الأعلى قد عبر عن تذمره لعودة هذه التجمعات وخطرها على الأمن والاستقرار إلا أنه استجاب في نهاية الأمر وقبل استقالة الفريق أحمد شفيق من منصبه وسمى رئيسًا آخر للوزراء بدلًا منه في ٣ مارس ٢٠١١.
كما قام بحل جهاز مباحث أمن الدولة، وحل محله جهاز جديد، أطلق عليه «جهاز الأمن الوطني» يختص بالحفاظ على الأمن والتعاون مع أجهزة الدولة لحماية الجبهة الداخلية ومكافحة الإرهاب.
.
وقد سن المجلس الأعلى تقليدًا مهمًا لتبادل الرأى بين المجلس والإعلام من خلال اجتماعات دورية مع رؤساء الصحف القومية، كما كان له دور في اختيار رؤساء التحرير الجدد بناء على المهنية والتميز في العمل، وفى الجانب القضائى أصدرت القوات المسلحة تعديلات على بعض أحكام قانون العقوبات فيما يخص أعمال البلطجة والتخويف وترويع الجمهور والاغتصاب والتحرش، وإن كان ينقصها فرض عقوبات أكثر ردعًا على المحرضين لهؤلاء. وقد نصت التعديلات الجديدة - ضمن ما نصت - على تغليظ عقوبة هتك العرض لتصل إلى ٧ سنوات سجنًا، وإذا اقترن هتك العرض بالقوة أو التهديد تصل العقوبة للسجن المشدد.
.
وهكذا يلاحظ أن العلاقة بين الشعب ممثلًا بأطيافه السياسية، وفى المقدمة منها شباب ٢٥ يناير، وبين القوات المسلحة ممثلة في مجلسها الأعلى، سوف تواجه تحديات أخرى عند كل مرحلة تالية للتحول الديمقراطى، وفى هذا المناخ السياسي المعقد والديمقراطى في نفس الوقت سيتم إنجاز كل خطوة بمخاض خاص ووسط مئات المقترحات، ولا شك أن المجلس العسكري سوف يتعامل مع هذه التعقيدات بصبر متجنبًا الصدام كما فعل من قبل في كثير من المحطات السابقة.
.
والاتجاه المفضل كان عدم التأجيل لأى خطوة تم الاتفاق عليها على أساس أن انتقال الحكم إلى حكومة مدنية سوف يدعم الثقة بين الأطراف ويفتح الطريق إلى أي تعديلات أخرى في المستقبل
الى اللقاء مع الجزء الثالث والثلاثين
إضافة تعليق جديد