مالك عادل
إن مأزق الأنظمة العربية أنها فقدت أهميتها لدى الأمريكان، ولم تعد فزاعة الإسلاميين التي كانت ترفعها ذات أهمية، ولم يعد هناك جدوى من تخويف الأمريكان من شرور الإسلاميين الذين ربما صاروا الحل الأمثل والرهان الذي يوشك أن يلعب عليه الأمريكان في المنطقة، وهو ما يمكن أن يبينه أي متابع لتقارير جهات بحثية مؤثرة في رؤية الإدارة الأمريكية، مثل مؤسسة «راند» أو «كريسس جروب»، فهى تكاد تشير صراحة إلى أهمية النظر بعين الاعتبار إلى مشاركة الإسلاميين في اللعبة السياسية.
.
وإذا كانت العقبة في ذلك هي موقف الإسلاميين من إسرائيل، فإننا هنا نميز بين موقفين للإسلاميين:
.
الأول خاص بالحركات الإسلامية في البلاد البعيدة نسبيًا عن المشكلة مثل تركيا والمغرب، وسنلاحظ أن إسلاميى هذه البلاد ليست لديهم حساسية كبيرة تجاه المشكلة الإسرائيلية بما يضر بالسياسات الأمريكية أو يهددها، فهى لم تبنِ شعبيتها في الشارع السياسي على العداء لإسرائيل ولم تربط مشروعها -يومًا ما- بالقضاء على إسرائيل، وأقصى ما كانت تفعله هو التجاوب مع مشاعر الشارع السياسي والتعبير عنها.
ويمكن فهم هذا في ضوء الموقف الذي وقفته حكومة الإسلاميين الأتراك من إسرائيل، ففي رسالة الرئيس المعزول مرسي في خطابه لشيمون بيريز «عزيزى وصديقى العظيم»، فما هي إلا مجرد عناوين تختبئ خلفها أقنعة زائفة .
.
أما الثانى، فهو موقف الإسلاميين في مصر وليبيا وغيرهما، فهو موقف يعتمد على إظهار العداء مع ممارسة عكس ذلك، من أجل الحصول على دعم شعبى واتخاذ صورة المدافع والمناضل عن حقوق الشعوب، من أجل اكتساب قاعدة جماهيرية، وفى سبيل الوصول للحكم، وهى ورقة يعرف الأمريكان جيدًا، كيف يلعبون بها.
.
بدءًا من عام ٢٠٠٤، بدأ المحافظون الجدد في إدارة بوش الابن، استعادة حماستهم لتشكيل خريطة «الشرق الأوسط الكبير»، والتفكير الجاد في الاستعانة بالإخوان مجددًا، وهكذا حافظ تغيير الرئيس الأمريكى القابع في البيت الأبيض (من بوش إلى أوباما) على هدف واحد، وهو بناء «الشرق الأوسط الكبير» وهذا ليس مفاجئًا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أعضاء فريق السياسة الخارجية لـ«بوش الابن» المسئولين عن سياسة التقارب مع الإخوان يمسكون بمناصب مهمة في إدارة أوباما .
.
ولهذا، قررت إدارة باراك أوباما أن الإخوان هم الذين يجب أن يحكموا في كل البلدان العربية بعد سقوط حكامها، ففى الواقع يفيد وجود الإخوان الراديكاليين مصالح واشنطن في جعل منطقة «الشرق الأوسط» أكثر حيوية، فنظام الحكم العسكري المصرى الذي ترأسه حسنى مبارك لا يفيد لتحقيق مثل ذلك الغرض، فقد بات «لينًا»، وكفّ عن أن يكون قوة إقليمية ضاربة رئيسية.
.
عقب الحرب العالمية الثانية، وانتقال السيادة والزعامة للولايات المتحدة الأمريكية التي ورثت السيادة على دول النفوذ الإنجليزى، ومن بينها مصر وفلسطين والأردن ودول الخليج العربى، ظهرت ملامح الصراع العربى الإسرائيلى، وتكشفت بمرور الوقت محاولات دفع مصر إبان فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر، فيما عرف آنذاك بخطة «اصطياد الديك الرومى»، إلى معارك وبطولات وهمية، مما دفع القوات المسلحة المصرية إلى التورط في المستنقع اليمنى، وإفشال مشروع الوحدة مع سوريا، وكان من نتائجه نكسة عام ١٩٦٧، وازدياد الضغط الأمريكى على كل من الأردن وفلسطين وباقى دول الخليج العربي، مع بوادر الظهور الأولى للثروات العربية، وارتباطًا بذلك، استمرت السياسات الغربية في زرع بذور الفتنة والخلاف بين مصر وباقى دول المنطقة إبان عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فضلًا عن تدخلها السافر في شئون تلك الدول، من خلال بث بذور الفتنة لإثارة النزاعات الطائفية والدينية والانفصالية بدول المنطقة.
وفى إطار ذلك المخطط «الصهيوأمريكى» انطلقت القوى الاستعمارية الجديدة لتنفيذ مخططاتها من خلال الضغط على الحكومات العربية والإسلامية واستقطابها في آن واحد وتشجيعها سرا على ممارسة الأنشطة الديكتاتورية، وقمع الحركات الإسلامية، فضلًا عن استقطابهم للعناصر الشبابية من تلك الدول من خلال أعمال استخباراتية، بعضها معلن كشبكة المعلومات الدولية «الإنترنت»، وبعضها غير معلن من خلال تجنيد العملاء من تلك الدول، في إطار معلن هو تعليم الأجيال والشباب ثقافة نشر الديمقراطية بدول المنطقة.
.
كما استمرت السياسات الغربية تجاه تفتيت عضد الدول العربية والإسلامية من خلال التخويف المستمر من النشاطات الإيرانية والمد الشيعى في الدول السنية، دونما اتخاذ أي إجراءات دولية ضد إيران، على الرغم من التصريحات الساخنة الإيرانية والأمريكية والإسرائيلية المتبادلة بينهما منذ أكثر من (١٥) عامًا.
.
وكان من أبرز ملامح النظام الدولى بعد الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفييتى، تعاظم الدور الأمريكى الغربى في العالم أجمع، وبصفة خاصة بمنطقة الشرق الأوسط، وذلك بعد انهيار الاتحاد السوفييتى ودول الكتلة الشرقية في مطلع التسعينيات.
وقيام الولايات المتحدة الأمريكية بتوجيه الميزانيات التي كانت مخصصة لتفكيك الاتحاد السوفييتى إلى تمويل المنظمات والمؤسسات العلمانية بمنطقة الشرق الأوسط، في إطار محاصرة التيار الإسلامى المتنامى من خلال نشر ثقافة منظمات المجتمع المدنى ومراكز حقوق الإنسان، من خلال تعظيم الأدوار الحقوقية والقانونية للأمم المتحدة بالتواطؤ مع النظام الأمريكى.
.
قصور دور المنظمة الدولية (الأمم المتحدة) وخضوعها للنفوذ الأمريكى والغربى
تصاعدت الأدوار الغربية بشكل عام، وبصفة خاصة الدور الألمانى في ظل تولى الحزب المسيحى مقاليد الحكم بدولة ألمانيا (وهو ما يفسر التقارب الأمريكى الألمانى خلال السنوات الأخيرة ووجود عدد كبير من منظمات المجتمع المدنى الألمانية في مصر كمنظمة فريد رتش ناومن، ومنظمة فريد رتش أبر).
.
قيام الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام أطرافها في المنطقة والمتمثلة في دول (قطر - إيران - إسرائيل) والمؤسسات والعناصر الموالية لها.
.
وتخفيفًا للأعباء التي وضعت على كاهل الولايات المتحدة الأمريكية، فقد تم تفعيل آليات مختلفة لمواجهة التحديات في الشرق الأوسط، خاصة بعد التطورات الطبيعية في النظام العالمى الجديد الذي يتجه حاليًا إلى التعددية، ويلغى فكرة الأحادية،
ومن هذه التطورات:
.
عودة العافية لروسيا الاتحادية بعد معاناة سنوات التفكيك، ومحاولاتها احتلال موقع الاتحاد السوفييتى القديم، واستعادة قوتها وارتباطاتها بالعديد من الدول في مناطق إستراتيجية على مستوى العالم، منها الشرق الأوسط، وربما تكون مساندة روسيا للنظام السورى في مواجهة قوى المعارضة في هذا البلد الذي يمثل منطقة مهمة في الشرق الأوسط، هذا إلى جانب مساندة روسيا للبرنامج النووى الإيرانى، والوقوف سياسيًا ضد توجهات الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة على المنطقة، كذلك فإن معارضة روسيا لتدخل حلف شمال الأطلنطى إبان الثورة الليبية دليل على عدم ترك أمور المنطقة للغرب، بل إن سياسة روسيا الحالية هي إحداث توازن عسكري، لإيقاف التغلغل الأمريكى في العالم.
.
صعود القوى الناشئة بفاعليتها على مستوى العالم ومحاولاتها الوجود في مناطق إستراتيجية مهمة، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، وأهم هذه القوى الصين التي تحقق أكبر مستوى تنمية على مستوى العالم، كما تتجه إلى تحديث قدراتها العسكرية من خلال تكنولوجيا متقدمة في نفس الوقت، ومن خلال القوة الناعمة تمكنت من ربط المصالح الصينية مع قطاعات واسعة في أفريقيا وآسيا، من خلال الاستثمارات الاقتصادية الكبيرة، وقامت بتوسيع مجالات نفوذها في العالم، وبما يتطلب رسم سياسات جديدة للنظام العالمى الجديد،
بدأته الولايات المتحدة الأمريكية بالفعل بالتوجه باستراتيجيتها العسكرية نحو بناء قدرات متفوقة في جنوب شرق آسيا والمحيط الهندى، على أن تعتمد في استمرار السيطرة على الشرق الأوسط من خلال حلف شمال الأطلنطى كقوة سياسية عسكرية يلعب فيها الاتحاد الأوروبي دورًا رئيسيًا، كذلك على إسرائيل كقوة ردع تنفذ تعليمات الولايات المتحدة الأمريكية، والمحاربة بالوكالة عنها.
إذن، كل الشواهد تدل على أن منطقة الشرق الأوسط ستعود إلى ما كانت عليه إبان مرحلة الحرب الباردة، تلعب فيها الاستقطابات دورًا رئيسيًا، ويبحث كل طرف قديم أو جديد على مصالحه الذاتية التي تحقق له استراتيجياته، وأهم إستراتيجيات الولايات المتحدة في المنطقة هي: أمن إسرائيل، تدفق البترول، أمن قناة السويس وارتباط القوى الرئيسية في المنطقة بها.
.
في المقابل، فما يعنى وروسيا الاتحادية في المنطقة هو الوجود بالقدر الذي يؤثر على مصالح الولايات المتحدة، وترنو إلى أن تعود العلاقات القديمة على نمط الاتحاد السوفييتى القديم، بما يجعل مصر مفتاحًا لوجودها في شرق المتوسط، بينما الصين كقوة صاعدة تهدف إلى المنافسة الحقيقية والانتشار في عالم يسوده صراع القوى، وهى تعلم أن أفريقيا هي قارة المستقبل بإمكانياتها والطفرات التي تسود شعوب القارة، وبما يحقق للصين مستقبلًا زاهرًا في تحقيق مصالحها في القارة، واقتسام المصالح مع القوى الأخرى، أما الدول الأوروبية -دول الاستعمار القديم- فهى تسعى بدورها لتثبيت أقدامها في المنطقة فرادى أو من خلال المؤسسة الجامعة، وهى الاتحاد الأوروبي.
.
هنا يأتى السؤال المهم، أين نحن سائرون؟ والإجابة يضعها المفكر الأمريكى «والتر هيبمان»، أمام أعيننا، حين يقول: «إن الدولة تكون آمنة عندما لا تتنازل عن حقوقها من أجل تفادى الصراع، بل إنها يجب أن تلوح بالحرب عندما تتفاوض من أجل تحقيق مصالحها»، وهذا هو مختصر ما يجب أن تسير عليه إستراتيجيات دول المنطقة إذا أرادت لنفسها تأكيد مكانها ومكانتها على خريطة العالم، وربما تكون ثورات الربيع العربى وما أفرزته من قيم ومتغيرات حادة عاملًا رئيسيًا يقود السياسات إلى أن تجد لنفسها المكان المناسب، حيث إن دول الشرق الأوسط لها تاريخها وحضارتها وتعتبر الحضارة المصرية والبابلية والأشورية والفينيقية التي ظهرت على أرض هذه المنطقة هي أقدم الحضارات التي علمت العالم، ويجب أن تعود مرة أخرى لكى تكون المنطقة منطقة إشعاع حضارى مرة أخرى، بما تمتلكه من إمكانيات كبيرة،
.
وهذا يتطلب بناء القوة الذاتية لكل دولة من دول المنطقة، مع إيجاد صيغة لتجمع إقليمى حاشد، يضم هذه الدول التي تعد مساحتها أكبر من مساحة أوروبا نفسها , فإن بناء القوة يحتاج إلى إستراتيجيات مدروسة تخالف تمامًا ما تسير عليه المنطقة حاليًا، خاصة في المجالين الاقتصادى والاجتماعى، بحيث تكون التنمية وامتلاك التكنولوجيا وبناء الاقتصاديات القوية هي الوازع الرئيسى في إستراتيجيات الشرق الأوسط وحتى تقاوم كل ما يقال عن إستراتيجيات الغرب في تفتيت دول هذه المنطقة أو تغيير أيديولوجيتها، لذا، فإن مصر لا بد أن تسارع في العمل لاستعادة قدراتها، حيث إنها القائد الفعلي لمنطقة الشرق الأوسط في نظام جديد مشرف على الأبواب، وهو نظام متعدد القوى، ولو اختلفت قدراتها، ولكنه سوق له استراتيجياته وآلياته التي يجب أن نكون مستعدين لها من الآن.
.
و بات واضحًا أن جزءًا من النخبة السياسية للولايات المتحدة يسعى لدفع «الشرق الأوسط» للسقوط في حرب واسعة النطاق طويلة الأمد في زمن الأزمة الاقتصادية العالمية… والهدف هو حل مشكلاتها الخاصة، وتحويل اهتمام الرأى العام في الغرب بعيدًا عن مشكلة انخفاض مستوى المعيشة ونوعية الحياة، لأنه بات من المستحيل المحافظة على «مجتمع الاستهلاك» بحالته السابقة بعد الآن.
.
إن حربًا طويلة الأمد في الشرق الأوسط يمكن أن تعطى دفعة لازدهار الصناعة العسكرية للولايات المتحدة، وعندها يمكن لشركات الأسلحة الأمريكية التي تمارس تقليديًا تأثيرًا كبيرًا على واشنطن، أن تبيع الأسلحة للمتحاربين، وبدورها يمكن لحكومة الولايات المتحدة أن تصبح وسيطًا في محادثات السلام التي تقوى مواقفها في المنطقة.
.
وبذلك، فإن مجيء الإخوان للسلطة في مصر سيؤدى إلى قلبها ضد روسيا والصين والقوقاز الشمالى، وما وراء القوقاز، وآسيا الوسطى، ومقاطعة شينجيانغ (اليوغور) الصينية المستقلة سوف تصبح كلها أهدافًا للإسلاميين الراديكاليين....
الى اللقاء الى الجزء الخامس .....
إضافة تعليق جديد