رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الخميس 3 يوليو 2025 2:24 ص توقيت القاهرة

دراسة نقدية أدبية إبداعية لرواية "الجريمة والعقاب" للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي

بقلم  د/سماح عزازي 

في عالمٍ تُجلد فيه الأرواح بسياط الفقر، وتضيق فيه الأزقة برائحة العفن واليأس، في بطرسبورغ المتجهمة التي تختبئ خلف ستائرها الرطبة أنفاس الحزن والجنون… يولد السؤال الأزلي: ما الذي يصنع الجريمة؟ أهي يد تمسك بالسكين؟ أم عقل يتآمر مع الفكرة؟ أم قلب منهك، أرهقته سطوة الحياة وضراوتها، فانسحب إلى زاوية مظلمة حيث تتماهى الحدود بين الخير والشر؟

على مسرح هذه المدينة المتصدعة، يقيم دوستويفسكي محاكمته الكبرى للروح البشرية. محاكمة لا يحضرها القضاة ولا يصدر فيها حكم مكتوب، بل تُدار في دهاليز النفس، وتُكتب أحكامها بالدم، والندم، والعذاب الذي لا يهدأ.

هنا لا نقرأ رواية عن قاتل وضحية. بل نقرأ ملحمة عن الإنسان حين يتورط في لعبة الأفكار المسمومة، حين يظن أنه قادر أن يكون إلهًا يصدر أحكامه على الحياة والموت. «الجريمة والعقاب» ليست قصة راسكولينكوف وحده، بل قصة كل إنسان سار يومًا على حواف الجنون الأخلاقي، وسأل نفسه: هل أنا فوق القوانين؟ هل يحق لي أن أقرر من يستحق الحياة ومن لا؟

في كل صفحة، نرى انعكاسًا لوجوهنا المخبأة خلف الأقنعة الاجتماعية. نرى ضياع الفقراء، جشع الأغنياء، انهيار القيم أمام سطوة الحاجة، وصراع النفس بين أن تكون ملاكًا مهزومًا أو شيطانًا منتصرًا. دوستويفسكي هنا لا يمنحنا إجابات مريحة، بل يدفعنا لنتورط أكثر في الأسئلة؛ أن نحفر في وجداننا، أن ننبش قبور ذنوبنا المؤجلة، وأن نعترف بأن الجريمة ليست فقط في القتل، بل في الفكرة التي تبرر القتل.

هذه الرواية ليست كتابًا يُقرأ... بل مرآة تُحدّق في أعماقك، وتجرّك إلى مواجهة لا مفر منها مع ظلك… مع ضميرك… مع إنسانيتك.

في مدينة بطرسبورغ الرمادية، حيث تتداخل الأزقة الضيقة مع وجوه البشر المرهقة، وتتصاعد أنفاس الفقر والضياع مع ضباب الشتاء القارس، تولد الحكايات الكبرى... وهناك، على حافة الجنون، وعلى تخوم الجريمة، يكتب دوستويفسكي ملحمة النفس البشرية بعنوان: "الجريمة والعقاب".

ليست رواية عادية، بل مرآة صافية، عارية، تُرينا وجوهنا حين نخفيها، وتكشف عن المساحات المعتمة في الروح، حين يطغى الكبرياء، ويلوّن التبرير الأخلاقي سُبل الهروب من الضمير. إنك لا تقرأ دوستويفسكي، بل تسير في ممرات عقله المتشابكة، تسمع صرخاته المكتومة، وترى العتمة التي يسكنها أبطاله.

هذه ليست رواية عن القتل. إنها عن الإنسان حين يتوه بين أن يكون إلهًا أو شيطانًا. بين أن يبرّر سقوطه كفعل بطولة، أو يخضع لسلطة الضمير التي لا تموت.

 أولًا: الخلفية الفلسفية... حين يتكلّم الوجود
في قلب الرواية ينبض سؤال الوجود الأعظم: هل للإنسان الحق في أن يعلو فوق القانون؟ أن يتجاوز الأخلاق بحجة تحقيق الخير الأكبر؟

يستعير دوستويفسكي ملامح الفلسفة الوجودية، ويغازل أفكار نيتشه عن الإنسان الأعلى، ذلك الكائن الذي يرى نفسه فوق القوانين البشرية، قادرًا على إزاحة العقبات متى رأى أن وجوده يستحق أكثر من الآخرين.

راسكولينكوف، الطالب الفقير، لا يقتل بدافع المال فقط. بل بدافع الفكرة... فكرة أنه مختلف، أعلى، أسمى، وأن التخلص من مرابية عجوز لا يعني شيئًا أمام خدمة الإنسانية. غير أنه، حين تتلطخ يداه بالدماء، يبدأ سقوطه الحر داخل متاهة النفس... حيث لا ينقذه العقل، ولا تشفع له الفكرة.

 ثانيًا: تشريح النفس البشرية... مأساة الروح في مرآة الضمير

 راسكولينكوف... حين يتحول الفكر إلى مقصلة
هو ليس قاتلًا بالمعنى التقليدي. بل عقلٌ متخم بالأفكار، متخم بالتبريرات، حتى اختنق. يرى العالم ظلمًا متراكمًا، ويسأل نفسه: من يحق له أن يكسر القوانين؟ ومن الذي يقرر الخير والشر؟

جريمته لم تكن فقط طعن المرابية... بل طعن ذاته. كل خطوة بعدها كانت نزيفًا مفتوحًا في شرايين روحه. يترنح بين نشوة التفوق، ورعب السقوط. بين صمت الضمير، وصراخ الأعماق.

 سونيا... النور في قاع الظلمة
على النقيض، تقف سونيا، الفتاة العفيفة في مظهرها رغم سقوطها الاجتماعي. جسدها للبيع، لكن روحها ظلت ناصعة. تجسد ذروة الإيمان، قمة التسامح، وقدرة مذهلة على العطاء رغم القهر. هي ليست مجرد شخصية، بل تجسيد لفكرة الغفران، النور الذي يتسلل عبر شقوق الجدران المظلمة.

 بورفيري... المحقق الذي يحقق في الروح لا في الجريمة
بورفيري ليس محققًا تقليديًا. هو أعمق من ذلك. رجل يقف على أعتاب علم النفس والفلسفة أكثر مما يقف في مكتب التحقيق. لا يبحث عن الأدلة المادية، بل يحاصر المجرم بفخاخ الضمير، بحوار ذكي، بدفعه للنظر في مرآة نفسه حتى ينهار.

ثالثًا: لوحة اجتماعية... بطرسبورغ المريضة
دوستويفسكي لا يرسم فقط ملامح شخصياته، بل يرسم ملامح مدينة بأكملها. بطرسبورغ، المدينة التي تتنفس البؤس. كل زقاق فيها شاهد على مأساة، كل نافذة خلفها صراع، كل شارع يفوح منه عبق العرق، والجوع، والجنون.

الرواية تصرخ في وجه العالم: الفقر ليس مبررًا للجريمة، لكنه بيئة خصبة لانهيار الإنسان. ومع ذلك، ليس كل فقير قاتلًا، ولا كل غني ملاكًا. إنها معادلة معقدة، لا يحسمها إلا الضمير.

 رابعًا: الأسلوب... عندما يتحول الأدب إلى مرآة للروح
لغة دوستويفسكي ليست سردًا بقدر ما هي نزيف. كلماته ليست حبرًا، بل دمًا. حواره الداخلي مع الشخصيات يغوص بالقارئ إلى أعماق لم يكن يظن أنها موجودة في نفسه.
يعتمد على تيار الوعي، حيث تتداخل الأفكار، الذكريات، الهواجس. يغوص في الوصف النفسي حتى تكاد تختنق مع البطل. الحوار ليس بين شخصيات، بل بين ظلال الروح، بين الخير والشر، بين الكبرياء والندم.

 خامسًا: المآخذ... وهل على العظمة ملام؟
بعض النقاد وجدوا أن الرواية تثقل القارئ بكثافة المشاعر والتشريح النفسي المتواصل، حتى تصبح القراءة تجربة مرهقة. لكنها مرهقة بالمعنى النبيل، مثل صعود جبل تعرف أن القمة في نهايته تستحق كل هذا العناء.

ربما النهاية كانت دينية أكثر من الفلسفة التي بدأت بها الرواية، حين اختار دوستويفسكي التوبة والغفران طريقًا للخلاص. لكنها في النهاية، امتداد لفهمه الخاص أن الروح لا تهتدي إلا حين تعترف، وحين تركع أمام حقيقتها.

«الجريمة والعقاب» ليست رواية لتُقرأ، بل لتُعاش. لتدخلها كما يدخل أحدهم متاهة بلا مخرج واضح، وتخرج منها شخصًا آخر، أكثر وعيًا بذاته، وأكثر فهمًا لظلمة القلب ونوره.

دوستويفسكي لم يكتب عن راسكولينكوف فقط، بل كتب عنا جميعًا. عن كل إنسان ظن يومًا أنه قادر على تجاوز ضميره، على كسر القوانين، على تبرير سقوطه. ثم وجد نفسه، مهما ركض، عائدًا إلى نقطة البداية: الضمير.

في النهاية، يعلمنا دوستويفسكي أن الجريمة ليست في القتل فقط، بل في الفكرة التي تبرر القتل. والعقاب ليس فقط في السجن، بل في الغرفة المظلمة التي بداخلنا... حين نجلس فيها وحدنا، مع ذواتنا، مع حقيقتنا.

هذه الرواية، صرخة في وجه كل من يحاول أن يتجاوز حدود الإنسانية، ليكتشف في النهاية، أن لا مهرب من أن نكون بشرًا... لا أكثر، ولا أقل.

وها نحن، بعد أن أنهكنا عبور متاهات هذه الرواية العظيمة، نقف على ضفة الوعي؛ مثقلين بندوب الأسئلة، ومرهقين بثقل الإدراك. ندرك أن دوستويفسكي لم يكن يروي لنا حكاية رجل قتل امرأة عجوزًا... بل كان يزرع في أرواحنا بذور التساؤل، يسائل فينا تلك الزاوية المعتمة حيث نقف نحن أنفسنا على حافة الجريمة… أو على حافة الخلاص.

«الجريمة والعقاب» تعلمنا أن العقاب الحقيقي لا يُنفذ في ساحات العدالة، ولا يُوقع بالأصفاد الحديدية. بل هو ذلك الصوت الذي لا يصمت في أعماقنا، حين ننكفئ على ذواتنا في العتمة، نتقلب بين ذكرياتنا وخطايانا، ونصغي له وهم يهمس في قسوة: "أنت تعرف الحقيقة، ولا مفر منها."

دوستويفسكي يخبرنا، بل يصرخ فينا، أن الإنسان ليس ذلك الملاك النقي ولا الشيطان المطلق. بل هو كائن معجون بالتناقض، يعيش حياته بين السقوط والنهوض، بين أن يبرر ظلامه أو أن يبحث عن قبس نور يغسل به أدران روحه.

في نهاية هذه الرحلة الأدبية المرعبة والمبهرة، نتعلم أن الخلاص لا يأتي عبر تبرير الجريمة، بل عبر مواجهة الذات، عبر الانكسار الصادق أمام مرآة الضمير. وأن أقسى أنواع العقاب، ليس الموت، بل أن تبقى على قيد الحياة، محاصرًا بجدران نفسك، تلوك ندمك، وتُجلد بأفكارك، حتى تقرر أن تعبر ذلك الجسر الطويل نحو التوبة، نحو المغفرة، نحو إنسانية أكثر صدقًا، وإن كانت أكثر وجعًا.

«الجريمة والعقاب» ليست رواية تنتهي بآخر صفحة، بل لعنة أدبية تظل تلاحق قارئها، تطرح عليه السؤال ذاته كلما واجه نفسه: هل أنت حقًا بريء… أم أنك تخفي داخلك جريمة لم ترتكبها بعد؟

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
6 + 9 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.