رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الأحد 27 يوليو 2025 3:47 ص توقيت القاهرة

سلسلة حكايات من واقع الحياة المقال الرابع عشر "بصمات على كفّ الموت" بقلم د/سماح عزازي

في دهاليز المستشفيات، حيث يختلط وجيب الأجهزة بنبض القلوب المرتجفة، وحيث يمرّ الموت بجلاله فيطرُق الأبواب بلا استئذان، تتكشّف أعمق طبقات النفس البشرية، ويظهر المعدن الحقيقي للناس. هناك، في تلك اللحظات التي يُنتزع فيها الأمل كما يُنتزع النفس الأخير، يصبح كل شيء واضحًا… فإما أن تلمع الضمائر نورًا، وإما أن تغرق في سواد لا قرار له.
في ممرّ بارد في مستشفى جامعة المنصورة، انكشفت حكاية لا تُروى لتمضي، بل لتُسطر كصفحة دامية في كتاب الدنيا؛ حكاية تصفع الوجوه كريح شتوية قارسة، وتطرح على أرواحنا سؤالاً مخيفًا: كيف يمكن لإنسان أن يرى الموت وجهًا لوجه، وأن يشمّ رائحته الثقيلة، ثم لا يرتدع قلبه ولا ترتجف يده عن سرقة آخر ما يملكه الميت؟
إنها قصة تختصر تناقضات البشر جميعًا، قصة تُذكّرنا أن الطمع لا يعرف عمرًا، ولا يتوقف أمام ثلاجة موتى، وأن بعض القلوب يمكن أن تُقايض آخر لحظة احترام بما يزنها من أوراق نقدية وعقود.
في أروقة المستشفيات، حيث يمتزج صمت الموتى بهمهمة الأحياء، وحيث تفوح رائحة المعقمات مع أنين الأرواح الراحلة، تتجلى أعظم الدروس، وتنكشف أبشع الحقائق. هناك، بين الجدران الباردة لمستشفى جامعة المنصورة، حدثت حكاية تُشبه صفعة على وجه الإنسانية، حكاية لا تُروى لتهزّ المشاعر فقط، بل لتوقظ الضمائر من غفوتها الثقيلة.
كانت البداية حين أُسدل ستار الحياة على امرأة في الحادية والأربعين من عمرها. توقفت أنفاسها، وسكت قلبها، وانتقلت روحها إلى بارئها، بينما جسدها البارد أُودع في ثلاجة الموتى، حيث تتساوى الملامح، وينتهي الجمال والقبح، ويتوقف كل شيء إلا أثر المرء وما خلّف. اتصلت إدارة المستشفى بأخيها، السائق الذي كان يشق طريق العودة من الصعيد، ليسمع الخبر الذي هزّ كيانه. صمت الرجل للحظة، ربما اجترّ ذكرياته مع شقيقته، ثم أطلق أنفاسًا ثقيلة وقال لأخته الكبرى:
"الحقي المستشفى… وبلغي إخواتنا يسبقوني…"
لكن الأخت الكبرى – صاحبة الـ 59 عامًا – حملت الخبر وحدها، ولم تُبلّغ أحدًا. أسرعت إلى المستشفى، قلبها مثقل – ظاهريًا بالحزن – لكنها تحمل في حقيبتها نوايا لا يعرفها إلا الله. على باب المشرحة، دفعت لفرد الأمن ورقة نقدية مشدودة الأصابع – 200 جنيه – كي يفتح لها الباب إلى العالم البارد حيث تنام شقيقتها للأبد. المال كان المفتاح، والبوابة انفتحت… دخلت هي، وخرجت من إنسانيتها.
في مكان يفترض أن يتجمد فيه الطمع كما تتجمد الأجساد، كانت هي تُعيد الحياة – لا بروح ولا بأنفاس – بل بخطة شيطانية أعدّتها على مهل. دخلت المُغسلة بالصدفة، فلم تصدّق ما رأت: الأخت الكبرى تمسك بورقة بيضاء، وتُقرّبها من يد الميتة، تُجبر أصابعها المتيبسة على ترك بصمة، ثم أخرى، ثم أخرى… ستّ عقود كاملة صارت مخضّبة ببصمات من لا تعرف ولا تدرك ما يُكتب باسمها.
يا الله… كيف يمكن ليد خرجت من الدنيا أن تُساق قسرًا في عالم الأحياء لتُوقع على ما لا تعلم؟!
كان المشهد كافياً ليمزّق قلب كل من رآه. امرأة لم يتبقّ لها سوى بضعة أشهر وتكمل عقدها السادس، رأت بعينيها أختها – الأصغر منها بعشرين عامًا – مسجّاة في ثلاجة الموتى، ولم يرتجف قلبها، لم ترتدع، لم تفكر للحظة أن الدور قد يأتي قريبًا. كل ما فكرت فيه هو الدنيا… الدنيا التي لا تُشبع من شربت منها، والدنيا التي لا تُغني من استغنى بها.
لحظة كهذه كفيلة بأن تذكّر أقسى القلوب بأن كل شيء إلى زوال، وأن أقصر طريق إلى الجحيم يبدأ بخطوة على جثة قريب، لكن بعض القلوب صارت حجارة – بل أشد قسوة.
إنها مأساة تتجاوز حادثة فردية؛ إنها مرآة لما صار عليه بعض البشر.
كم من مرة رأينا الموت يمر أمامنا، ولم نرتدع؟ كم من جنازة مشينا فيها ثم عدنا كما كنا – نغتاب، نطمع، نكذب؟ كم من شخص ودّع حبيبًا أو قريبًا، فبكى ساعة ثم عاد يسعى وراء نفس الدنيا التي خطفته؟
هكذا هي القلوب التي ختم عليها حب المال وحب السلطة وحب النفس: لا تهتز، لا تتعظ، لا ترى إلا ذاتها.
حين يمدّ الموت يده ليلتقط روحًا، يظن الناس أن الدرس قد وصل… لكنه عند البعض لا يصل أبدًا. يموت القريب أمام عينيه، فيُسارع ليس إلى التوبة، بل إلى استغلال البرودة التي حلّت بالجسد ليسرق توقيعًا، أو يبتز ميراثًا، أو يقتطع حقًا.
أيها القراء…
إنها ليست مجرد قصة عن امرأة جعلت من يد أختها المتوفية ختمًا لعقود طمع، إنها قصة عن كل واحد منا إن لم نحذر. كلنا نعيش فوق أرضٍ ضيقة، وكلنا إلى نفس المصير سائرون، لكن قليلون هم الذين يتعلمون.
وما أصدق الدعاء الذي يليق أن يُختتم به هذا الموقف:
"اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا."
لأن من جعل الدنيا أكبر همه، قد يجد نفسه – مثل تلك المرأة – يبصّم أصابع الموتى ليرث، ويبيع آخرته بثمن بخس من أوراق وذهب.
وحين انطفأت الحكاية في ذلك المساء، لم يبقَ سوى جسد بارد في ثلاجة الموتى، وبصمات أُخذت عنوة، وقلوب احترقت من هول المشهد. لكن ما بقي أيضًا هو الدرس، الدرس الذي يصرّ البعض على تجاهله، كأنهم خُلقوا بعيون لا ترى، وآذان لا تسمع، وقلوب لا تعقل.
إن الموت ليس فقط النهاية التي لا مفرّ منها، بل هو الامتحان الأخير لأخلاقنا، للحظة صدقنا مع أنفسنا، لبقايا إنسانيتنا. هناك، أمام الجثة المسجّاة، تتعرّى النفوس: فمنهم من يبكي خوفًا وخشية، ومنهم من يمسح دموعه بيده اليسرى ليمدّ اليمنى تبحث عن توقيع أو مال أو ميراث.
يا أيها الناس… تذكّروا أن كل يد تُمدّ على حقّ ليس لها، ستُمسكها العدالة يومًا، إن لم يكن في الدنيا ففي محكمة الآخرة، وأن كل بصمة طُبعت ظلمًا ستصرخ هناك: "ربِّ سل هذه اليد لِمَ أجبرتني على توقيع لم أُرِدْه؟"
اللهم لا تجعل قلوبنا من التي لا تلين إلا إذا واراها التراب، ولا تجعل أعيننا ترى الموت ثم تظل مبهورة ببريق الدنيا. فالدنيا زائلة مهما تمسّكنا بها، والموت آتٍ مهما أنكرنا، ولا قيمة لحياة تُعاش على جثة أخ، أو تُبنى على توقيع يدٍ متيبّسة في ثلاجة الموتى.
وفي النهاية… تبقى الحقيقة التي لا مهرب منها:
الدنيا تترنّح تحت أقدامنا، والموت على كتف كل واحد منا. لكن من أبصر الحقيقة تغيّر، ومن أعمى الطمع قلبه، ظلّ يسير… حتى يسقط.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
16 + 2 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.