رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الخميس 13 نوفمبر 2025 3:26 م توقيت القاهرة

في حضرة الخلود... حين زرت المتحف المصري الكبير

بقلم د/سماح عزازي 
في حضرة الأبد، حيث تتكلم الحجارة بلغة الروح، ويستيقظ التاريخ من سباته على أنغام الفخر والعظمة، وقفتُ أمام المتحف المصري الكبير، ذلك الصرح الذي لا يُشبه إلا مصر نفسها… عظيمةٌ في حضورها، خالدةٌ في جوهرها، متفرّدةٌ في عطائها.
لم تكن زيارتي مجرد مرورٍ بين جدرانٍ تُحفظ فيها الآثار، بل كانت رحلة في ذاكرة الحضارة، وعودة إلى الأصل الذي منه بدأت الحكاية، حكاية الإنسان المصري الذي كتب اسمه على وجه الزمن بحروفٍ من نورٍ وأبدية.
منذ اللحظة التي لامستُ فيها أرض المكان، شعرت أنني أخطو فوق ألف عامٍ من المجد.
كل شيءٍ هناك يتحدث بلسان الأجداد: الأعمدة الشامخة، والتماثيل التي تهمس بالعظمة، والهواء الذي يحمل عبق القرون. في كل ركنٍ نبضة من قلب رمسيس، وفي كل قطعة أثرية تنهيدة من روح حتشبسوت، وكأنّ الملوك والملكات عادوا ليشهدوا على انتصار الحاضر على النسيان.
كم كانت مشاعري متدفقة وأنا أتجوّل بين أروقة الخلود!
كنتُ أشعر أنني أمشي في كتابٍ منقوشٍ بالحكمة والعظمة، وأن كل خطوة لي هي سطر جديد يُضاف إلى قصة مصر التي لا تنتهي. فهنا يتجلّى الإنسان المصري في أروع صوره، وهنا يلتقي الماضي بالمستقبل في عناقٍ خالدٍ لا يعرف الفناء.
هذا المتحف لم يُبنَ من الحجر فقط، بل من إرادةٍ وطنيّةٍ صلبةٍ، من عرق أجيالٍ آمنت أن الحضارة لا تُورّث بالكلام، بل تُصنع بالعمل والإبداع والإصرار.
إنه ليس مبنى للعرض… بل منبرٌ للخلود، يقف شاهدًا على أن مصر كانت وما زالت وستظل، منارةً للحضارة وموئلًا للجمال والدهشة.
ما إن تطأ قدماك بوابة المتحف المصري الكبير حتى تشعر أنك تعبر من زمنٍ إلى زمن، ومن عالمٍ إلى عالم. ليست زيارةً عادية، بل رحلةٌ روحية في دروب التاريخ، ومصافحةٌ خفية مع الأرواح التي صنعت المجد الأول فوق هذه الأرض المباركة.
كنتُ أقف هناك، والهواء يعبق برائحة الأجداد، وكل ذرة غبار تتحدث بلغة الحضارة التي لا تموت. أمامي يمتد صرحٌ مهيب يضجّ بالهيبة والجلال، يختزل آلاف السنين من عبقرية الإنسان المصري، وكأن الزمان كله انحنى احترامًا لهذا الوطن الذي علّم البشرية معنى الخلود.
في تلك اللحظة شعرتُ أنني لا أزور متحفًا فحسب، بل أدخل قلب مصر… أدخل روحها التي لم تهزمها الحروب ولا تطفئها القرون.
تأملتُ الواجهة الزجاجية العملاقة، كيف تعكس ضوء الشمس كأنها مرآة للزمن، ورأيتُ في انعكاسها وجوه الفراعنة تبتسم بفخر، وكأنهم يرحبون بأحفادهم الذين أعادوا إليهم المجد في أبهى صوره.
 عبقرية المكان وروح الزمان
المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى عظيم في حجمه، بل هو رسالة حضارية للعالم، تقول إن مصر ما زالت قادرة على أن تكتب التاريخ بأحجارها، وتعيد صياغة الوعي بجمالها وعراقتها.
منذ اللحظة الأولى لدخولي قاعة العرض الرئيسية، أحاطت بي عظمة رمسيس الثاني شامخًا في بهائه، كأنه لا يزال يحرس بوابة الزمن.
تتبعت خطواتي بين أروقة الحضارة، من تماثيل الملوك إلى المومياوات، من الحلي الذهبية إلى الأواني الحجرية، حتى شعرت أنني أتنفس عبق آلاف السنين، وأسمع نبض المصري القديم وهو ينقش بأصابعه على جدران المعابد: “الخلود لي، لأنني من مصر.”
 فخر يلامس السماء
كل تفصيلة في هذا الصرح تُحدّثك عن إرادة مصرية لا تعرف المستحيل. من التصميم المعماري المهيب، إلى التقنية الحديثة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، إلى ذلك الإحساس الذي يسكن المكان بأن مصر لا تزال أمّ الحضارات وسيدة العصور.
سعادتي كانت تفوق الوصف. شعرت أن كل حجرٍ في هذا المتحف ينطق باسم الوطن، وأن كل قطعةٍ أثرية تقول: "انظروا إلى ما صنع أجدادكم، وكونوا على قدر هذا المجد."
حين تجولت في قاعة المقتنيات الملكية، رأيت عرش توت عنخ آمون يضيء تحت الأضواء الذهبية، فارتجف قلبي إعجابًا، وكأن الزمن عاد بي إلى قصره في طيبة، حين كان العالم كله ينحني أمام سحر الحضارة المصرية.
كانت لحظة فخرٍ وامتنانٍ وانتماءٍ عميق، لحظة أحسست فيها أنني أنتمي إلى أعظم أرضٍ خُلقت على وجه هذا الكوكب… أرضٌ كتبت اسمها على جدران الخلود بحروفٍ من ذهب.
 رسالة مصر إلى العالم
إن افتتاح هذا المتحف ليس حدثًا ثقافيًا فحسب، بل هو إعلان ميلادٍ جديدٍ للحضارة المصرية في ثوبٍ عصري يليق بتاريخها.
لقد نجحت مصر في أن تجعل من الماضي بوابةً للمستقبل، وأن تقول للعالم أجمع:
 "هنا القاهرة… هنا التاريخ حين ينطق، وهنا الإنسان حين يتجلّى في أبهى صوره."
خرجتُ من المتحف وقلبي يفيض بالعزة والفخر. نظرتُ إلى السماء وقلتُ في نفسي:
كم أنتِ عظيمة يا مصر!
تُعيدين إلينا الثقة حين نظن أننا أوشكنا على النسيان، وتذكريننا أننا أحفاد من علّموا الدنيا معنى الحضارة والخلود.
زيارتي للمتحف المصري الكبير لم تكن مجرد نزهة، بل كانت رحلة في أعماق الذات والوطن والتاريخ.
خرجتُ منه وأنا أكثر إيمانًا بأن مصر لا تزال تصنع المعجزات، وأن ما بدأه الأجداد على ضفاف النيل ما زال مستمرًا فينا، في أبنائها الذين يشيّدون اليوم صرحًا يليق بوجهها الأبدي.
غادرتُ المتحف وشيءٌ في داخلي تغيّر إلى الأبد. كنتُ أشعر أنني تركت جزءًا من روحي هناك، بين ملامح الملوك وأسرار الجدران التي لا تنام. لم تكن الزيارة مجرد تجربة ثقافية، بل كانت لقاءً بين الإنسان والتاريخ، بين القلب والوطن، بين الذاكرة والخلود.
أدركتُ أن مصر لا تُقاس بمساحتها على الخريطة، بل بمساحتها في قلب العالم. وأن هذا المتحف ليس فقط مشروعًا حضاريًا، بل هو نبضٌ وطنيٌّ يُعيد تعريف الكبرياء المصري في أبهى صوره.
لقد خرجتُ وأنا أكثر فخرًا بأنني ابنة هذه الأرض التي تُبدع حتى في صمتها، وتُعلّم العالم أن المجد لا يُشترى ولا يُستعار، بل يُبنى حجرًا فوق حجر، كما بُنيت الأهرامات، وكما شُيّد هذا المتحف العظيم.
في تلك اللحظة، وقفتُ على عتبة الخروج ونظرتُ خلفي طويلاً…
رأيتُ في الواجهة المضيئة ملامح وطنٍ يُشرق من جديد، وطنٍ يصنع من الماضي جناحين يُحلّق بهما نحو المستقبل.
فهمستُ بصدقٍ وفخر:
 "تحيا مصر… مجدًا لا يُغيب، وحضارةً لا تُهزم، ونورًا يتجدد كلما ظنّ العالم أن الزمن انطفأ."
ستظل زيارة المتحف المصري الكبير محفورةً في وجداني، علامةً على أنني كنت شاهدةً على لحظةٍ من لحظات الخلود، حيث التاريخ ينبض، والوطن يتألق، والروح ترفرف بعزة المصري الذي لا يعرف المستحيل 
تحيا مصر…
تحيا الحضارة التي لا تنطفئ،
وتبقى الروح المصرية منارةً للإنسانية، تتجدد يومًا بعد يومٍ، جيلاً بعد جيلٍ

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
5 + 2 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.