منذ بداية شهر شعبان من عام 585هجرية، والمسلمون في عكا يساندهم جيش صلاح الدين الأيوبي يقاتلون جميعاً حشود الإفرنج والصليبين الذين يحاصرون مدينتهم قتال الأبطال لا يألون جهداً، ولا يملكون دماً أو مالاً إلا جادوا به وبذلوه.
وامتد حصار الإفرنج واشتد ساعِدُهم بالإمدادات الجمة التي كانت تصلهم من معظم دول أوربا، وتوالت النكبات على المسلمين المحصورين في عكا، فلم تعد المؤن تستطيع الوصول، وقد فني معظم جيشهم، وحل السأم والقنوط في النفوس، فبلغت به روح المسلمين الحلقوم.
وسط هذا الجو من المصائب وبين هذه العواصف الهوجاء قرر زعماء المسلمين الاجتماع بأبناء الشعب كي يروا أثر هذه المصائب على نفوسهم، وماذا يريدون وما هي مطالبهم؟!!
ووقف أحد الزعماء يخطب في الجموع المحتشدة ويقول:
أيها المسلمون: أنتم ولا شك تعلمون ما نحن فيه، وإنه - يعلم الله - امتحان صعب علينا حله، فبتنا وإياكم لا ندري ما يأتي به الغد، وإن غداً فناظره قريب، وإنكم أمام طريقين: طريق جهنم وهو طريق العار والخزي في الدنيا والآخرة، وطريق الجنة وهو طريق الشرف والعزة والكفاح، فإما أن تستسلموا وحسابكم على الله، وإما أن تقفوا موقف الأبطال البواسل فتفوزوا بإحدى الحسنيين - النصر أو الشهادة!!
وهاج الناس وماجوا، وعلت صيحاتهم مطالبة باستمرار القتال، ودوى الميدان بالتهليل والتكبير.
وفي خضم هذا الضجيج انطلق صوت من بين الجموع قائلاً:
أيها القائد العظيم، لقد اخترنا جميعاً طريق الجنة، وسترى منا العجب العجاب، فو الله الذي لا إله إلا هو، لئن أمرتنا أن نخوض هذا البحر ما أخلفنا أمرك قط.
وصاح به القائد: من أنت أيها الجندي اللبيب؟!!
أنا عيسى الغواص يا سيدي القائد.
احضر إليَّ يا عيسى بعد انتهاء الاجتماع.
سمعاً وطاعة يا سيدي القائد.
وعلى باب منزل القائد كان عيسى الغواص يستأذن في الدخول وعلى الفور أذن له وبعد أن رحب به القائد خاطبه بقوله:
اسمع يا عيسى لقد رأيت فيك ما أتمناه في كل شاب مسلم ولا أكتمك أننا في حاجة إلى كثير من أمثالك، أتجيد فناً من فنون البحار يا عيسى؟
نعم يا سيدي القائد أجيد السباحة إجادة تامة.
اسمع يا عيسى لقد كنا على صلة تامة بقائدنا صلاح الدين، أما وأن الحصار قد ضرب علينا فلم يعد باستطاعتنا ذلك. أتستطيع خدمنا في هذا المجال؟
بكل ثقة يا سيدي القائد. ففي استطاعتي أن أسبح في الماء كما أسير في اليابس.
إذن يبدأ عملنا من الغد بإذن الله فعليك أن تحضر إلينا إن شاء الله غداً.
وفي الغد جاء عيسى فأمر القائد بعض جنوده بتجهيزه فجهزوه، وشدوا على وسطه حزاً، وعلقوا في عنقه حقيبة صغيرة، وأعطاه القائد رسائل يبلغها إلى صلاح الدين. وحملها عيسى وسار يسبح في البحر حتى وصل إلى هدفه.
وكم يعجب الناس لرجل كعيسى يسير أميالاً في البحر وقت ما درى العالم فيه فناً من فنون السباحة الحديثة، ولكنه الإيمان الذي يدفع صاحبه إلى أعنف المعارك فينتصر عليها ويقحمه في أشد الغمرات فيخرج منها ظافراً، وهكذا كان إيمان صاحبنا عيسى رائده في عشرات الأميال التي قطعها عبر البحار، وقائده في كل ما يطلب منه من خدمات لدينه الحنيف.
وظل أمر عيسى هكذا. السفير بين المسلمين المحاصرين في عكا وبين صلاح الدين خارجها. يقوم بحمل الرسائل لصلاح الدين ويعود بالأموال والأوامر منه.
وذات يوم خرج عيسى كعادته يحمل بعض الرسائل إلى صلاح الدين ليعود بالرد عليها بعد أن يوصلها له.
وانتظر المسلمون عودته وطالت مدة غيبته أكثر من ذي قبل، وقلق المسلمون عليه واضطربت أعصابهم خوفاً وصاروا يخرجون كل يوم شاطئ البحر ينظرون ويتأملون ويدعون الله ويبتهلون. وعاد عيسى الغواص. عاد عيسى لا بتلك الهيئة التي ذهب بها ولكنه عاد جسداً بالياً لا حياة فيه. عاد جثة تتقاذفها الأمواج ويلعب بها الماء.
وهنا وقف المسلمون مذهولين، وأطبق عليهم الصمت وعلت وجوههم الكآبة. وانحنى أحدهم على جثة عيسى ليرى ثلاثة آلاف دينار ويضع رسائل من صلاح الدين ما زالت معلقة في عنقه.
فنظر المسلمون إلى الرجل الذي انحنى، ونظر ذلك الرجل إلا المسلمين بعد ما رأى من عيسى ثم قال ودمعة تنحدر على خديه:
أيها المسلمون لقد مات عيسى الغواص ولكنه أبى إلا أن يؤدي الرسالة ميتاً كما أداها حياً فوَارحمةَ الله عليه. فردد المسلمون:
رحمة الله عليه. رحمة الله عليه.
إضافة تعليق جديد