يجب ان نفخر بتاريخنا واجدادنا الفراعنة الذين وصولوا الى اعلى درجات العلم فى كل المجالات، وللأن لازال العالم الغربى، المفترض بانه حقق تقدما مذهلا فى العلم، يبحث فى التاريخ الفرعونى عن اجابات لأسئلة كثيرة لازالت معلقة ولم يتوصلوا لها بعد الى اليوم.
ومن بين المجالات التى حقق فيها الفراعنة تقدما كبيرا هو الطب؛ ولقد نشر الطبيب الفرنسى برونو هاليوا وهو طبيب ومؤرخ، كتابا عن "الطب فى زمن الفراعنة" وضع فيه كل ما عرفه من تعاملات المصريين القدماء مع المرض والمريض، اعتمد فيه على كتاب "البردى الطبى فى مصر الفرعونية الذى كتبه فى عام 1995 تييرى باردينيه.
يقول برونو ان معرفة تاريخ الطب مهم جدا من اجل ادراك وفهم المشاكل التى تواجه الاطباء فى ممارساتهم اليومية. فيقول ليختنثايلر: "ان المعرفة المهنية وحدها تجعل منك مجرد فنى بسيط وموظف فى مجال الصحة. ولكن فقط من خلال الادراك التاريخى تستطيع ان تنمو وتنضج لتصبح شخصية طبية حقيقية".
ويرى برونو ان الاهتمام أساسا بالطب المصرى القديم يعود الى غرامه الكبير بتاريخ مصر القديم، التى تعتبر، حسب قوله: "أم التقاليد الروحانية الغربية". فبالنسبة له، يكفى "قراءة التاريخ المصرى القديم لكى ندرك بسرعة وجود حضارة عظيمة، ونستقبلها وكأنها هبة من أجيال مضت قبلنا. انها مصر التى تبلغ اكثر من ستة الاف عام، والتى تذهلك من اللحظة الاولى.."
هذا الاعجاب الشديد بمصر الفرعونية ليس جديدا: فقد تعرف العديد من الفلاسفة فى العصر القديم فى الغرب على الحضارة المصرية وتأثر بها من خلال اقامتهم فيها وعلى ضفاف "نهرها الخالد". لذا فقد اثرت الحضارة المصرية على تفكير فلاسفة غربيين مثل هومير وافلاطون وفيثاغوراس وبلوتارك وتاليس وهيرودوت، واخرين. واستطاع هؤلاء الفلاسفة من خلال كتاباتهم ان يقيموا الروابط بينهم وبين الحضارة المصرية، وهى الروابط التى انقطعت بعد حرق مكتبةالاسكندرية وحرق المعابد المصرية بقرار من الامبراطور ثيودوس الاول فى عام 391. منذ ذلك الحين اختفت الحضارة المصرية واللغة الهيروغليفية، ولمدة 14 قرنا. فى تلك الفترة دخلت الحضارة المصرية القديمة عالم النسيان التام، وانتهك الاستعمار المتوالى على مصر كل الاعمال الخالدة فيها سواء الهندسة المعمارية او الاعمال الادبية والفنية والعلمية.
وظلت الحضارة الفرعونية القديمة مغلقة على نفسها الى ان اكتشف شامبليون حجر رشيد فى عام 1822 واستطاع ان يترجم ويكشف اللغة الهيروغليفية، وهنا تم احياء الحضارة المصرية مرة اخرى. ومع دراسة التاريخ الفرعونى اكتشف العالم التقدم المذهل الذى حققه المصريون القدماء فى مجالات عديدة مثل الفلك والعمارة والهندسة وايضا الطب.
من خلال الوثائق الطبية اكتشف الغرب ان المصريين، قبل 30 قرن من ابوقراط، الذى علم الغرب الطب، واعتبر "ابى الطب" الحديث، كان هناك طب مصرى قديم، تم توثيقه وتنظيمه بدقة متناهية، واثر بشكل لا لبس فيه، فى الفكر الطبى للعبرانيين والاغريق والرومان.
وفى نهاية القرن التاسع عشر بدأ اهتمام العلماء بالطب المصرى يتزايد خاصة بعد اكتشاف وترجمة ورق البردى الذى يحمل معلومات طبية. وان كانت الاكتشافات الاولى ظلت غير محددة المعلومات، مما ادى الى التصور بان الطب المصرى القديم ليس الا مجموعة من الممارسات السحرية ليس لها اى سند علمى. ولقد فتح باب الجدل بين الخبراء فى ذلك الوقت حول اهمية المعلومات الطبية المصرية القديمة وقيمتها. فكان هناك من يرى اهميتها فى فهم الامراض وطريقة علاجها، وهناك من كان يرى انها مجرد خزعبلات.
ولكن خلال الثلاثين عام الاخيرة من القرن التاسع عشر، حدثت طفرة كبيرة فى علم الطب وفى العلوم المصرية، وذلك مع تعميق فهم اللغة الهيروغليفية واكتشاف وثائق اكثر كان من شأنها تعميق المعلومات التى لدى الاطباء فى ذلك الوقت فى مجالات: علوم الاوبئة، وعلوم الامراض وعلوم الادوية والمداواة.
ويقول برونو الطبيب الفرنسى انه بدأ يهتم بالطب المصرى القديم فى احدى الاحتفالات اليهودية حيث يتم سرد الافات المصرية العشرة، وهناك اكتشفوا غياب اجابة دقيقة حول اسباب وفيات المولود الاول، وهو ما دفع الطبيب الفرنسى الى التعمق فى علم الطب فى هذا العصر. ودحض مزاعم العديدين من ان المصريين القدماء لم يقدموا علما فى مجال الطب. وكان هذا الكتاب هو نتيجة هذا البحث من جانب برونو هاليوا. ومن خلال ترجمة برديات الطب استطاع الطبيب الفرنسى ان يملأ الفراغات فى المعلومات الخاصة بهذا المجال، ونشر اعجابه بالطب المصرى الذى ظل هو نفسه على مدى ثلاثة الاف عام. كما ان ادراك والتعرف على الامراض التى كانت منتشرة فى المجتمعات يعكس صورة المجتمع بشكل عام وتطوره، كما يمنح المؤشرات لفهم تلك المجتمعات بشكل كامل.
من هم الاطباء المصريين؟
يقدم برونو المجتمع الطبى واطباءه فى مصر. فهناك اطباء العيون والاسنان والجراحين وخبراء الطب الداخلى. كما ان التقدم الذى احرز فى مجال التشريح سمح التأكد من المعلومات التى حصل عليها من الوثائق الخاصة ببعض الفراعنة الكبار.
ولكن الكيان الطبى كان يتكون من الممثلين الثلاثة للجسد الانسانى: الطبيب الكامل، القسيس الكامل التابع للاله سخمت، و"سيركيت الذى يضع يده او اصابعه على الرأس او على العنق او على اليدين او على المقعد الداخلى..". كما ان هناك فرق بين الطبيب العلمانى "سونو" وفى المقابل رجل الدين التابع لسخمت والذى يعتبر من رجال الدين الذين يمارسون الطب، وفى المقابل الساحر التابع لسيلكيت او سيلكيس.
هذا التقسيم للمهام يفسر الفكر العام للطب فى مصر القديمة. فكان المصريون يرون ان من يعانى من مرض او من آلم فهو فى الغالب الأعم ضحية قوة سلبية، بل مس من الشيطان. لذا فكان على الطبيب ان يحارب القوة الخفية وغير العقلانية التى تهدد الجسد. عليه ان يحارب الاسباب الرئيسية والاعمق للمرض، وذلك سواء عن طريق كلمات سحرية او انشاد دينى.
وتدريجيا يبدأ الشكل العلمى والعقلانى للطب يفرض نفسه، وذلك عندما تنجح بعض الادوية فى العلاج. ويرى برونو ان فى مصر القديمة الدين يعد الارضية التى صعد عليها العلم. وعبر 3500 عام كان هو الذى ينظم ويدير الحياة اليومية لكل شخص من الفرعون الى ابسط مواطن، وهو الذى كان يضمن استمرار النظام ضد الفوضى.
المجتمع المصرى وامراضه
الامراض تعكس نمو وتطور المجتمع، لذا قام برونو بابحاث عديدة عن المجتمع المصرى القديم ومشاكله اليومية من لحظة الولادة الى الموت. واستطاع برونو الحصول على كمية كبيرة من المعلومات اخذها من البرديات الخاصة بالطب، كما قام بدراسة عدد من الموميات غير المعروف شخصيتها.
تحدث برونو عن آلام الطفولة والتحولات الجسدية مع الشباب، والمخاوف من الشيخوخة حيث كان يتم استخدام منتجات ضد التجاعيد؛ كما كتب عن الامراض المهنية خاصة للعاملين فى المناجم والصيادين فى نهر النيل والكتبة، والامراض الخاصة بهم مثل الاصابة بالامساك وتدهور حالة الاسنان..
بيوت الحياة
بيوت الحياة هى بمثابة صومعة يستكمل فيها الطبيب تكوينه. فى تلك المنازل هناك نشاطات طبية ودينية وهناك ايضا قسم للسحر الطبى. وهناك يقوم "كتبة بيوت الحياة" بكتابة ونسخ الوثائق القديمة الدينية والطبية. فكانوا يمثلون "كلية من العلماء المسئولين عن حماية حياة الملك والألهة". يرى برونو انه فى هذه البيوت تم نسخ كل الكتب القيمة التى كتبت على ورق البردى.
كما يمكن مقارنة تلك البيوت بمراكز ثقافية حيث يجتمع مع الكتبة المتخصصين، الاساتذة والاطباء وعلماء الفلك، يقدمون النصائح لمن يريد ويجيبون على الاسئلة لمن يتساءل خاصة فى مجالات الطب والدين. وكان يطلق عليهم "اساتذة اسرار بيت الحياة". و"مديرو الكتابة فى بيت الحياة".
إن علينا نحن المصريين، دينا كبيرا لأجدادنا؛ وبدلا من ان نظل نعتمد عليهم فى الصرف علينا سواء من خلال السياحة او ارسال ملوكنا يجوبون العالم من اجل ضخ المال الى خزائنا، علينا ان نبحث فى تاريخهم ونعود الى جذورنا التى يهتم بها الاخرون، ربما، فقط ربما، وجدنا هناك الاجابات على الاسئلة التى تحيرنا اليوم.
إضافة تعليق جديد