نشأ عنترة في أحضان بني عبس وكان أسود اللون صلب العظام فكان اذا نظر تطاير من أحداقه الشرر ففرح به والده شداد.
ما زال الفتى يكبر ويشتد حتى شاع ذكره وذاع صيته ولما سمع به الملك زهير أمر بإحضاره فلما جاءوه به رآه من أعجب الغلمان وكان عمره لا يزيد على أربعة أعوام.
وكلما كبر اشتد وكان مع صغر سنه شديد البطش فاذا تجاسر عليه أحد أذاقه الويل حتى كثرت الشكوى فضاق والده شداد بشكاوي القوم فأعطاه قطيعا من الأغنام.. وكان للملك زهير عبيد ترعى إبله كما كان لكل ولد من أولاده رعاة وعبيد ولزهير ولد يقال له شاس، ذو بأس وقوة وله عبد يسمى راجي طويل القامة شديد السواد وكان لبني عبس غدير يقال له ذات الآصاد وهو أحسن غدير في البلاد وفي يوم من الأيام اجتمع على الغدير الرعاة والأرامل والأيتام ووقف العبد راجي يسقي ابل سيده، ويمنع سائر الناس فتقدمت منه عجوز كانت ذات نعمة، وأخذت تستأذنه لكي يسمح لها أن تسقي غنماتها فما كان من العبد إلا أن لطمها على وجهها لطمة تلقيها على ظهرها وتكشف للرجال سوأتها فتضاحك العبيد وكان عنترة حاضراً فأخذته النخوة العربية وصاح في العبد قائلاً: ويلك كيف تفضح الأحرار فهجم العبد على عنترة ولطمه لطمة لو أصابت غيره لمات فاذا بعنترة يمسك العبد ويرفعه ويلقيه على الأرض ثم يضربه ضربة تقضي عليه فهجم العبيد على عنترة بالعصي والحجارة فتلقاه بعصى معه وضرب باليمين والشمال فلم يستطيعوا أن يصلوا إليه.. وقد عفى الملك عنه ولم يعاقبه بعد سمع القصة وعلم أن عنترة انما كان يدافع عن العرض.
ولما عاد إلى الحي وجد أن فعله قد انتشر في القبيلة وأحاطت به النساء والبنات تسأله عن حاله وكان ممن احاط به عبلة بنت عمه مالك.
وكانت عبلة أجمل من القمر وكانت تمازحه وتكثر الكلام معه وهي في عمر أصغر من عنترة.
حامي بني عبس وفارس كل من طلعت عليه الشمس
أَنا في الحَربِ العَوانِ ... غَيرُ مَجهولِ المَكانِ
أَينَما نادى المُنادي ... في دُجى النَقعِ يَراني
وَحُسامي مَع قَناتي ... لِفِعالي شاهِدانِ
أَنَّني أَطعَنُ خَصمي ... وَهوَ يَقظانُ الجَنانِ
أَسقِهِ كَأسَ المَنايا ... وَقِراها مِنهُ داني
أُشعِلُ النارَ بِبَأسي ... وَأَطاها بِجِناني
إِنَّني لَيثٌ عَبوسٌ ... لَيسَ لي في الخَلقِ ثاني
خُلِقَ الرُمحُ لِكَفّي ... وَالحُسامُ الهِندُواني
وَمَعي في المَهدِ كانا ... فَوقَ صَدري يُؤنِساني
أكثر عنترة من التغزل بابنة عمه عبلة بأشعاره حتى تناشدت بها العرب وقيل بعضها بين يدي شاس بن الملك زهير والربيع بن زياد. وكان في مجلس شرب، وكان عندهما عمرو أخو عبلة، فقال شاس لقد اعجب هذا العبد بنفسه وترفع عن العبيد فقال الربيع: (والله ما أطمعه في ذلك إلا أبوك واخوك مالك، فثارت نفس عمرو وقال: (والله لئن سمعته يذكر أختي في شعره لأسفكن دمه فلما كان الصباح ركب عنترة جواده وأخواه بين يديه يسوقان الجمال في المرعة، وكان أخوه شيبوب من أفرس الشباب اذا عدا لحق بالغزلان وكان أولاد الملك زهير قد ذهبوا إلى وليمة عند عمهم اسيد حيث طلبوا منه ألا يبعدهم عن الحي ويسقيهم على بعض روابي الأعيان فأرسل عبيده بالأغنام والطعام والمدام إلى ربوة خضراء مشرفة على الصحراء، حولها عيون جارية ولحق بهم أولاد الملك زهير العشرة وهم شاس، وقيس، ودرقة، ومالك، وخداش، والحارس، وكثير، وجندل، وجندب، ونهشل. ولما جلس القوم أكلوا وشربوا، ثم مد مالك عينيه فرأى عنترة عند سفح الجبل ومعه أخواه فقال لاخوته: (هذا عنترة بن شداد الذي افتخر على العرب وساد، ثم أمر أحد العبيد بأن يذهب ليدعوه إليهم ليشاركهم مجلسهم هذا، فقال شاس لأخيه: (إني أراك تحسب هذا العبد شيئاً كبيراً وتنسب إليه قدراً خطيراً ووالله لولا خوفي أن أنغص على أبي وليمة الأمس لضربت رأس هذا العبد النحس، ولئن حضر الآن على هذا المدام لأضربن عنقه بهذا الحسام، وبينما شاس وأخوه مالك في هذا الحوار، اذ سار في الجو الغبار وانجلى عن ثلاث مائة فارس، كأنهم الليوث والعوابس، فلما خرجوا من تحت الغبار وقربوا من المرعى ورماحهم تتلوى كالأفاعي انفصل منهم عشرة فرسان أبطال شجعان. وكان أولئك القوم من بني قحطان، خرجوا من أرضهم حتى اتوا أرض بني عدنان، وصادف مرورهم على مراعي بني عبس فرأوا الجماعة يشربون المدام، فقال بعضهم لبعض: (احملوا بنا على هذه العصابة لنأخذهم أسارى ثم انهم حملوا عليهم، وبادروهم بضرب السيف فلما رأى ذلك بنو عبس تواثبوا إلى الخيول واختطفوا الرماح وطبقت عليهم فرسان اليمن فسمع عنترة بن شداد صياحهم وقد مدوا إلى بني عبس رماحهم، فخاف عليهم أن تنصبهم الأعداد، لا سيما لأجل مالك بن زهير الذي أحبه، فصاح في أخيه شيبوب وأسرع حتى أدرك مقدم القوم (فاتك بن محبوب) فانقض عليه، وطعنه بين ثدييه، فانطرح قتيلاً بدمائه وحمل بعده على الرجال، ففرقهم ذات اليمين وذات الشمال، ونثرهم بالحسام فوق الرمال.
حَسَناتي عِندَ الزَمانِ ذُنوبُ ... وَفَعالي مَذَمَّةٌ وَعُيوبُ
وَنَصيبي مِنَ الحَبيبِ بِعادٌ ... وَلِغَيري الدُنُوُّ مِنهُ نَصيبُ
كُلُّ يَومٍ يُبري السُقامَ مُحِبٌّ ... مِن حَبيبٍ وَما لِسُقمي طَبيبُ
فَكَأَنَّ الزَمانَ يَهوى حَبيباً ... وَكَأَنّي عَلى الزَمانِ رَقيبُ
إِنَّ طَيفَ الخَيالِ يا عَبلَ يَشفي ... وَيُداوى بِهِ فُؤادي الكَئيبُ
وَهَلاكي في الحُبِّ أَهوَنُ عِندي ... مِن حَياتي إِذا جَفاني الحَبيبُ
يا نَسيمَ الحِجازِ لَولاكِ تَطفا ... نارُ قَلبي أَذابَ جِسمي اللَهيبُ
فلما شاهدوا ذلك الهول. لم يبق منهم إلا من طلب الهرب ونظر عنترة إلى ذلك وتفقد أولاد الملك زهير لخوفه على مالك، ورآهم سالمين وكان العبيد الذي في المراعي قد نقلوا الخبر إلى بني عبس، فخاف الملك زهير على أولاده وركب في فرسانه ومضت من خلفه الفرسان، ولما وصلوا إلى مكان القتال اذا بعنترة قد فرق القوم، فعاد بنو عبس إلى الخيام وعنترة بين أيديهم كأنه الأسد الضرغام.
ففرح الملك زهير على سلامة أولداه، وشكر عنترة على حسن جهاده وسألهم عن الحادثة فحدثوه بجلية الخبر وما فيهم إلا من أثنى على عنترة وشكره ولما وصل الملك زهير إلى مضاربه جدد لأولاده الوليمة وأجلس عنترة إلى جانبه وسقاه من شرابه، وخلع عليه من ملابسه خلعة موشاة بالذهب، وأركبه فرساً من أجود خيل العرب وقلده بسيف محلى بالذهب وقال لأبيه شداد: (لا تخفض بعد اليوم منزلة عنترة برعي الجمال بعد ما بدا منه، ولا تمنعه من غزو الأبطال، حتى يقال أن لبني عبس شابا يذل الفرسان، وسماه زهير من ذلك اليوم "حامي بني عبس وفارس كل من طلعت عليه الشمس".
العاشق القوي
أَلا يا عَبلَ قَد زادَ التَصابي ... وَلَجَّ اليَومَ قَومُكِ في عَذابي
وَظَلَّ هَواكِ يَنمو كُلَّ يَومٍ ... كَما يَنمو مَشيبي في شَبابي
عَتَبتُ صُروفَ دَهري فيكِ حَتّى ... فَني وَأَبيكِ عُمري في العِتابِ
وَلاقَيتُ العِدا وَحَفِظتُ قَوماً ... أَضاعوني وَلَم يَرعَوا جَنابي
ارتفع موضع عنترة وزاد في عبلة طمعه، وكانت هي سبب فصاحته لأنه كلما ذكرها انطلق لسانه بالشعر الرقيق، حتى وقعت هيبته في قلوب الأنام، وسمعت بذلك الشعر أم عبلة وأبوها، غير أنهما لم يكترثا به، فلما كثر الحديث عند أم عبلة دعت عنترة إليها، وقالت له: "ياعنترة ، سمعت أنك تحب ابنتي وتذكرها في شعرك"
وكانت عبلة بجانبها وقد أرخت ذوائبها، وسمعت أمها تقول لعنترة ذلك المقال، فتبسمت عن ثغر نادر المثال فازداد بعنترة الهيام، وقال: "ياسيدتي. هل رأيت من يبغض مولاته..! أي والله أحبها وحبها لا أنكره وصورتها لا تبرح ناظري ، وقالت له: "سأطلب لك من زوجي أن يزوجك خمسية جارية ابنتي عبلة فليس لها شبيه في الجمال ولا حاز مثلها رجل من الرجال، فتبسم عنترة في حسرة وقال والله ما أتزوج غير من يهواه الفؤاد، فهمست عبلة في أذن عنترة "بلغك الله أمانيك" وشاعت أبيات عنترة في جميع القبائل فازداد حقد اخي عبلة وأثار عليه شاس بن الملك زهير والربيع بن زياد، فواعداه على قتله.
وكان لشداد بنت من غير سمية يقال لها "مروة" وكانت متزوجة في بني غطفان برجل يقال له الحجاج بن مالك، فاتفق أن الحجاج زوج أخته فلما جاء وقت العرس وأعلنت في الحي الدعوة جاءت مرة لكي تدعو شداد أباها وعمها وأخاها وأقاربها، واجتمع الرجال والنساء وفي السير بعد أن استأذنوا من الملك زهير هذا وقد سبقت النساء الفرسان بنصف يوم وخرجت النساء بعدهم في الهوادج. وقد أرخين الذوائب وأبرزن وجوها مثل البدور، والجواري أمام الهوادج والعبيد متقلدين السيوف وعنترة معهم وهو من دون العبيد راكب على جواد يمشي إلى جوار عبلة يحدثها.
يا عَبلَ إِنَّ هَواكِ قَد جازَ المَدى ... وَأَنا المُعَنّى فيكِ مِن دونِ الوَرى
يا عَبلَ حُبُّكِ في عِظامي مَع دَمي ... لَمّا جَرَت روحي بِجِسمي قَد جَرى
وَلَقَد عَلِقتُ بِذَيلِ مَن فَخَرَت بِهِ ... عَبسٌ وَسَيفُ أَبيهِ أَفنى حِميَرا
يا شَأسُ جِرني مِن غَرامٍ قاتِلٍ ... أَبَداً أَزيدُ بِهِ غَراماً مُسعَرا
يا شَأسُ لَولا أَنَّ سُلطانَ الهَوى ... ماضي العَزيمَةِ ما تَمَلَّكَ عَنتَرا
مالت الشمس إلى الاصفرار فحملوا الرجال، ونزلوا على غدير هناك فتولى عنترة حراسة النساء إلى اليوم التالي.
فلما أرادت العبيد أن ترفع الهوادج، واذا بالغبار قد ملأ القفار ثم انكشف الغبرة عن مائة فارس كأنهم الليوث في أوائلهم فارس ينادي (الثأر الثأر.. البدار.. البدار)
وكان شاس بن الملك زهير والربيع بن زياد بعد أن تآمروا على اغتيال عنترة وضعا عليه العيون فلما علما بسيره مع بني عبس إلى بني غطفان..
اتفقا على أن يبادروه بمن لديهم من الفرسان.. وكمنوا له في وادي الغزال، وحاولوا أن يهاجموه في الظلام واذا بهم يفاجأون بمائة فارس قد أغاروا عليهم ونادوا بهم أثبتوا يا فتيان قبل أن تطير رؤوسكم، فلما سمع بسام عبد الربيع ذلك المقال نبه أصحابه للقتال وقال للفرسان من أنتم وما شأنكم؟ فقال المقدم لبسام: (لقد أتينا لسفك دمائكم ونهب أموالكم لا سيما اذا كان فيكم عبد السوء عنترة بن شداد.
وكان هؤلاء الجماعة من قوم يقال لهم بنو المصطلق والمقدم عليهم غالب بن وثاب وكان عنتر قد قتل له أخاً.
فسار في مائة فارس يطلب بني عبس يأخذ الثأر، وهو يقول: إن كان عبد بني عبس قد قتل أخي، فأنا أقتل ساداتهم وأعود برأس ذلك الأسود ولم يزل سائراً حتى أشرف على وادي الغزال وكمن بمن معه من الرجال ثم أنفذ أحد العبيد ليأتيه بالخبر، فمضى وعاد وأخبره بأن بني عبس قادمون في الأثر، وبعد قليل تصل النساء وبينهم عنترة.
فلما سمع بسام كلام المقدم قال: أسعدنا الحظ لأن كلاً منا ما أتى إلا لقتل عنترة ونحن أيضاً أرسلنا مواليا من بني عبس في طلبه حتى نسقيه كأس عطبه.. لأنه أصاب بعضنا بالظلم والعدوان.
فقال مقدم القوم: لا نريد منكم مساعدة، ولكن عاهدونا على أنكم لا تكونون علينا، فعاهدهم بسام، وقد رأى ذلك صواباً في قضاء حاجة مولاه فطاوع غالباً وجاراه وقال لأصحابه: ستكونون على أي حال منصورين. لأننا رأينا عنترة وقد أضعف هؤلاء القوم وأصبحوا في مثل عددنا ما نمكنهم من أخذ الحريم وان رأيناهم قتلوه قاتلناهم حتى تدركنا الرجال.. نخلص نحن النساء ونبلغ من قتل عنترة ما نشاء. فقال، افعل ما تريد..
دَعني أَجِدُّ إِلى العَلياءِ في الطَلبِ ... وَأَبلُغُ الغايَةَ القُصوى مِنَ الرُتَبِ
لَعَلَّ عَبلَةَ تُضحي وَهيَ راضِيَةٌ ... عَلى سَوادي وَتَمحو صورَةَ الغَضَبِ
إِذا رَأَت سائِرَ الساداتِ سائِرَةً ... تَزورُ شِعري بِرُكنِ البَيتِ في رَجَبِ
يا عَبلَ قومي اِنظُري فِعلي وَلا تَسَلَي ... عَنّي الحَسودَ الَّذي يُنبيكِ بِالكَذِبِ
إِذ أَقبَلَت حَدَقُ الفُرسانِ تَرمُقُني ... وَكُلُّ مِقدامِ حَربٍ مالَ لِلهَرَبِ
فَما تَرَكتُ لَهُم وَجهاً لِمُنهَزِمٍ ... وَلا طَريقاً يُنَجّيهِم مِنَ العَطَبِ
فَبادِري وَاِنظُري طَعناً إِذا نَظَرَت ... عَينُ الوَليدِ إِلَيهِ شابَ وَهوَ صَبي
خُلِقتُ لِلحَربِ أُحميها إِذا بَرَدَت ... وَأَصطَلي نارَها في شِدَّةِ اللَهَبِ
بِصارِمٍ حَيثُما جَرَّدتُهُ سَجَدَت ... لَهُ جَبابِرَةُ الأَعجامِ وَالعَرَبِ
وَقَد طَلَبتُ مِنَ العَلياءِ مَنزِلَةً ... بِصارِمي لا بِأُمّي لا وَلا بِأَبي
فَمَن أَجابَ نَجا مِمّا يُحاذِرُهُ ... وَمَن أَبى ذاقَ طَعمَ الحَربِ وَالحَرَبِ
واشهروا مرهفات نضالهم، وقصدوا عنترة، وكان يحرس وقتئذ ركب النساء والأولاد فلما اقتربوا منه صرخت النساء وبكى الأطفال ونظر عنترة إلى عبلة فرأى دموعها تنحدر على خديها وسمية وأم عبلة تصيحان بالويل والحرب.. وقد خشينا على العرض فتقدم عنترة إلى أم عبلة وقال لها: أتزوجينني عبلة حتى أرد هذه الخيل من أول حملة، فقالت ويلك يا عنترة.. أفي مثل هذا الوقت يكون المزاح والأجساد قد كرهت الأرواح. فقال عنترة "لا" وحق خالق الصباح. إن وعدتني بذلك رددت هذه الخيل كلها على أعقابها وأعطيتك كل عددها فقالت "دونك الخيل ولك ما تريد". غير أنها لم تكن تضمر له الوفاء.
أما عنترة فلما سمع ذلك سر وركب الجواد وتهيأ وأمر العبيد بترك الجمال.. وحل الرحال وقال لأخيه شيبوب احمي بنبالك ظهري وأنا أتلقى الخيل بصدري وما كاد يهجم عليه القوم حتى صاح بهم واذا بسيفه قد طوق النحور.. وخاض في الأحشاء، ولم يلبث أن أهلك منهم ثلاثين فارساً.
وكان جواد عنترة قد جهد ومل ووهن عزمه واضمحل. فنزل عنه وركب غيره من الخيل المغيرة، وعاد إلى المجال.
أما عبيد بني عبس فلما رأوا ما فعل عنترة بالقوم انقطعت ظهورهم، وقال لهم بسام: "ويلكم.. اشكر الله أن وقع لنا هؤلاء القوم.. وقاتلوا عنا في هذا اليوم، فقد فدونا بأنفسهم من هذا البلاء.
ونظر مقدم القوم غالب إلى ما أصاب أصحابه من العذاب وقال: يا للمصيبة لو علمت أن الأمر يفضي إلى هذه الحالة لسبقت إلى قتل هذا الشيطان قبل أن يفعل ما فعل ولكني أهملت أمره، ثم وثب إلى الميدان فصدم عنتر صدمة تهز الجبال وحمل عليه حتى طعنه بين ثدييه وانقض على باقي أصحابه فشردوا في الجبال فنظرت عبيد الربيع إلى فعاله فولوا الأدبار وعاد عنترة وسنانه تقطر من الدم فلقيته عبلة وهي تبتسم، وأمر العبيد فجمعت أسلاب القتلى وساقوا الخيول.
إِلى كَم أُداري مَن تُريدُ مَذَلَّتي ... وَأَبذُلُ جُهدي في رِضاها وَتَغضَبُ
عُبَيلَةُ أَيّامُ الجَمالِ قَليلَةٌ ... لَها دَولَةٌ مَعلَومَةٌ ثُمَّ تَذهَبُ
فَلا تَحسَبي أَنّي عَلى البُعدِ نادِمٌ ... وَلا القَلبُ في نارِ الغَرامِ مُعَذَّبُ
وَقَد قُلتُ إِنّي قَد سَلَوتُ عَنِ الهَوى ... وَمَن كانَ مِثلي لا يَقولُ وَيَكذِبُ
هَجَرتُكِ فَاِمضي حَيثُ شِئتِ وَجَرِّبي ... مِنَ الناسِ غَيري فَاللَبيبُ يُجَرِّبُ
وساروا في أمان فوصلوا والناس في الولائم وأخبرت النساء رجالهن وماجرى من عنترة، فما كان منهم إلا من أثنى عليه، وأخبروه كيف صان عنترة الحريم، فزادت رغبة شداد فيه وقبله بين عينيه وأخذه بيده ليجلسه بين الشرفاء فأبى وعاد ووقف مع العبيد وقال: لا والله يا مولاي فعجبت فرسان العرب من أدبه وأجلسوه بين الفرسان وما أن عاد القوم إلى مضاربهم حتى سمعوا الصياح في جميع الجنبات والغبار قد خيم على الروابي. فقال شداد لقد نزلت بنا الدواهي، واقتحموا المضارب فرأوا النساء في خوف والبنات في شدة الهلع وقد اثخن الغزاة من بقي من فرسان بني عبس بالجراح وكان السبب في ذلك ان الملك زهير كان قد ركب في فرسان بني عبس وسار بهم إلى بني قحطان يطلب عدوا وكان الملك زهير قد بلغه أن المتغطرس سائر إليه فشق ذلك عليه وقام بفرسان بني عبس ليلقاه في الطريق وترك في الحي أخاه زنباغ في نفر قليل وسار ولكن سار هو في طريق والمتغطرس في طريق آخر في تلك البطاح فوصل المتغطرس إلى ديار بني عدنان فوجد الحي خالياً من لسكان والتحم بمن بقي في الحي من الرجال، وفي ذلك الوقت أشرف شداد بن قراد وعنترة وشيبوب فقال شداد لعنترة: هيا وارني اليوم منك ما سمعت عنك فقال نعم يا مولاي ليس الخبر كالعيان، ثم وثب إلى فرسه وانتظم بين الفرسان ونادى فيهم اقتحموا القوم لنأخذهم أسارى وسل حسامه وانقض على الأعداء وهو يصرها وأبصر المتغطرس بن فراس هذا الحال وهو قائم على رابية في تلك التلال فهاله أن رأى خيله ترتد وقد وجلت سروجها من أصحابها فتحدر من الرابية بمن معه وقد أكثروا الصياح فرجعت الخيل المنهزمة لما رجع أميرها والتهبت نيران الحرب وزاد سعيرها فالتقاها عنترة ومن معه من الفرسان بالصدور حتى أنزلوا بالأعداء البلاء.
ومن العجائب الغريبة أن بساما عبد الربيع بن زياد خرج في هذا اليوم وقاتل مع بني عبس قتالا يحير الأذهان وانهزم حتى أقبل عنترة ومن معه من الأبطال المشهورين فشاهد من عنترة فعالاً تحير منها عقله فزاد حسده وصار يتوقع فرصة في الحرب، وحمل على المتغطرس مع بقية الفرسان ليتمكن من عنترة في هذا المجال، ولما اشتد القتال صوب بسام إلى عنترة بن شداد ليقتله ويفوز بالحظوة عند مولاه الربيع بن زياد وما دانى عنترة ليطعنه في ظهره حتى أصابته نبلة في صدره فوقع قتيلاً وكان الذي قتل بساما هو شيبوب أخو عنترة، وكان عنترة قد أوصاه بأن ينزل عبلة من الهودج ويلاحظ خدمتها وخدمة النساء فظل شيبوب عندهن، حتى رأى الأعداء حول عنترة فخاف عليه وعدا نحوه ورأى بساماً قد عدا إلى أخيه عنترة، فأرسل له نبلة القاه بها.
وكان المتغطرس قد وصل وأخذ يرد جماهير رجاله وقد هربوا من وجه عنتر فشق عليه ذلك واستقبل عنتر فصدمه بالرماح، وسالت الدماء من كثرة الجراح فاشتد بعنترة الغضب واقتحمه اقتحام الأسد، وطعنه بشدة فغاص الرمح في أحشائه ففر من بقي من اصحابه، وتبعهم فرسان بني عبس حتى بددوهم في تلك الفلوات وقامت عبيد بني عبس فجمعت الأسلاب وعادوا إلى الأحياء بعد أن فرقوا الأعداء..
أقبل الملك زهير وهو لا يصدق أن أهل الحي في خير، فخاف أن يكون هذا من عدم التوفيق، ولما رأوه أقبل استقبلوه بالبشرى، وأخبروه ما فعل عنترة، فقال الملك لله در عنتر ولئن طال عمره ليسودن على كل محارب، ثم انه ترجل ودخل على تماضر زوجته. وبعد أن رحبت بمقدامه أخذت تمدح عنترة وتقول: والله لقد حمى الحريم ، فعظمت عنده منزلته، ثم أمر بذبح الأغنام واجتمعت حوله السادات والفرسان والأمراء الشجعان وحضر الربيع بن زياد وأتى أيضاً بنو قراد وزخمه الجواد ومالك وشداد.
لَو كانَ قَلبي مَعي ما اِختَرتُ غَيرُكُمُ ... وَلا رَضيتُ سِواكُم في الهَوى بَدَلا
لَكِنَّهُ راغِبٌ في مَن يُعَذِّبُهُ ... فَلَيسَ يَقبَلُ لا لَوماً وَلا عَذَلا
وكان عنترة قد وقف للخدمة مع العبيد فقال الملك، لن تجلس إلا بين السادات ولا شربت قدحي إلا معك، ثم أمره بالقرب منه فتقدم وبش في وجهه وتبسم، وقد قدم للجميع الطعام، ودارت عليهم الكاسات وعزفت القيان، وضربت بمزاهرها الجواري المولدات، وطابت لهم الأوقات، وقد جعل الملك زهير عنترة خاصته ونديمه وسميره وكليمه، وكلما أراد أن يقف في الخدمة منعه وسقاه، وقربه وأدناه، إلى أن لعبت الخمرة بعقل شاربها، وتفرقت العرب إلى مضاربها، وقدم الملك زهير شداد إليه وقربه وخلع عليه، واركبه فرساً من كرائم أفراسه، وخلع على عنترة خلعة لا يلبسها إلا الأكابر، وعممه بعمامة معلمة بالذهب وقلده بسيف يدعو إلى العجب وخرجوا من بين يدي الملك زهير وهم بأنعم بال، وأوفر خير.
ولما قرب شداد من أبياته، ترجل عنترة ومشى في خدمته حتى وصل إلى خيمته والطيب يفوح من ثيابه وقبل عنترة يديه وقال له: يا مولاي لماذا لم تعرف حقي كما عرفه القريب والبعيد، وتبلغني منك ما أريد؟ فقال: قل لي ما حاجتك حتى أقضيها وأبلغ نفسك وأمانيها؟ وكان شداد يظن أنه يطلب نوقا يقتنيها أو أبياتا يسكن فيها. فقال: يا مولاي اني أحب أن تلحقني بك في النسب وتنزع عني عار العبودية بين العرب، وأنا أكافئك بشيء لا يقدر عليه انسان واترك سادات العرب تخدمك في كل مكان، وأساويك بملوك الزمان فلما سمع شداد كلام عنترة قال والله لقد حدثتك نفسك بأمر يحفر لأجله رمسك ولقد لعبت خلعة الملك زهير بعطفيك، ودخل كلامه في أذنيك وارتدت أن تضعني وترتفع، وتتركني حديثا لمن تحدث وسمع، والله ما بقي لك جواب على هذا الكلام إلا ضرب الحسام.
ذَكَرتُ صَبابَتي مِن بَعدِ حينِ ... فَعادَ لِيَ القَديمُ مِنَ الجُنونِ
وَحَنَّ إِلى الحِجازِ القَلبُ مِنّي ... فَهاجَ غَرامُهُ بَعدَ السُكونِ
ثم جرد حسامه. وهجم عليه ففرت العبيد من بين يديه وسمعته زوجته سمية، فخرجت من الخباء مكشوفة الرأس منشورة الذوائب منزعجة الحواس، ووقعت على صدر شداد وقبضت السيف بيدها وقالت: "لا أمكنك من قتله لأنني ما أنسى فعاله وما أظنك تنكر صنيعه وأعماله، وان كان قد طلب منك شيئاً فان السكر قد غير عقله".
وما زالت بزوجها حتى سكن غضبه، ثم أدخلته الخباء واضجعته والسكر قد غلب عليه.
وأما عنترة فإنه استعظم ذلته واستكبر فعلته واستحى أن يصبح في أبيات بني قراد، فقام وقصد أبيات مالك ابن الملك ومضى إليه وأمر العبيد أن يستأذنوا له بالدخول عليه وكان مالك قد عاد من وليمة أبيه وهو فرحان بما نال عنترة من المرتبة الرفيعة لأنه من أصدقائه ومحبيه، فلما هم أن ينام دخل عليه عبده واستأذن بدخول عنترة عليه فاندهش لذلك، وقال لعبده مره بالدخول فوالله هذه أبرك الليالي بزيارة عنترة والمكان من الرقيب خالي، فدخل وهو كئيب حزين" فقال له مالك" أهلا وسهلا ومرحباً، ثم قربه وأجلسه جانبه وسأله عن حاله، فحدثه بما فعل أبوه شداد حين طلب أن يلحقه به في النسب، وكيف أراد قتله من شدة الغضب، وانه لولا سمية لجرعه كأس المنية فقال له مالك: والله يا عنترة لقد جنيت على نفسك بما عملت فما الذي حملك على ما فعلت فاطلعني على أمرك ولا تخفه في صدرك، وأنا أبلغ معك في تدبيري غاية الجهد.
فاضطرب عنترة عند ذلك بما سمع من كلام مالك وقال: والله يا مولاي ما حملني على هذا إلا الهوى الذي هدد كتمانه مني العزائم والقوى: ولولا تلهب قلبي النيران لما وضعت نفسي في الهوان فاعلم يا مولاي إني أحب عبلة بنت عمي مالك بن قراد وهي التي طيرت من عيني لذيذ الرقاد، وابتلتني بطول العناء والسهاد، وما طلبت من أبي النسب إلا لكي أتسبب إلى وصالها بهذا السبب، وألقي نفسي في سبيلها في كل عطب لأملأ عين أبيها بالفضة والذهب فإما أن أبلغ الأرب أو أهلك على بعض فرسان العرب، والآن وقد انقطع مني الرجاء، ولم يبق لي في هذه الأرض مقام إلا مع الوحوش في البرايا والآكام حتى القى كأس الحمام ثم زاد به الأمر فتنهد وبكى.
سَأُضمِرُ وَجدي في فُؤادي وَأَكتُمُ ... وَأَسهَرُ لَيلي وَالعَواذِلُ نُوَّمُ
وَأَطمَعُ مِن دَهري بِما لا أَنالُهُ ... وَأَلزَمُ مِنهُ ذُلَّ مَن لَيسَ يَرحُمُ
وَأَرجو التَداني مِنكِ يا اِبنَةَ مالِكٍ ... وَدونَ التَداني نارُ حَربٍ تَضَرَّمُ
فَمُنّي بِطَيفٍ مِن خَيالِكِ وَاِسأَلي ... إِذا عادَ عَنّي كَيفَ باتَ المُتَيَّمُ
وَلا تَجزَعي إِن لَجَّ قَومُكِ في دَمي ... فَما لِيَ بَعدَ الهَجرِ لَحمٌ وَلا دَمُ
أَلَم تَسمَعي نَوحَ الحَمائِمِ في الدُجى ... فَمِن بَعضِ أَشجاني وَنَوحي تَعَلَّموا
وَلَم يَبقَ لي يا عَبلَ شَخصٌ مُعَرَّفٌ ... سِوى كَبِدٍ حَرّى تَذوبُ فَأَسقَمُ
وَتِلكَ عِظامٌ بالِياتٌ وَأَضلُعٌ ... عَلى جِلدِها جَيشُ الصُدودِ مُخَيِّمُ
وَإِن عُشتُ مِن بَعدِ الفُراقِ فَما أَنا ... كَما أَدَّعي أَنّي بِعَبلَةَ مُغرَمُ
وَإِن نامَ جَفني كانَ نَومي عُلالَةً ... أَقولُ لَعَلَّ الطَيفَ يَأتي يُسَلِّمُ
أَحِنُّ إِلى تِلكَ المَنازِلِ كُلَّما ... غَدا طائِرٌ في أَيكَةٍ يَتَرَنَّمُ
بَكَيتُ مِنَ البَينِ المُشِتِّ وَإِنَّني ... صَبورٌ عَلى طَعنِ القَنا لَو عَلِمتُم
فلما انتهى عنترة من شكواه وتصاعدت زفراته تساقطت الدموع على وجناته فقال له مالك. أنا أعلم أن عبلة تحتجب عنك اليوم في خباها حتى لا تراها لأن أباها علم أنك تطلب من أبيك أن يلحقك بنسبه وتطلب الزواج منها، وخير لك أن لا تلم بأبياته فلربما القاك في بعض المهالك ولا تأمن على نفسك بعد ذلك، والصواب أن تقيم عندي ها هنا حتى اتحدث مع أبي وندبر لك تدبيراً حسناً، فقال عنترة: والله يا مولاي ماعدت أستطيع أن أقيم في الحي إلى أن تنطفي هذه النار، ولم تعد لي عين أبصر بها عمي مالك، وأخوه وولده عمرو والربيع ابن زياد وأخوك شاس.
وقطع هو ومالك ساعات الليل في الحديث عن الغرام واستعانا على السهر بشرب المدام، إلى أن صار وقت الفجر وكان ضوء النهاء يتنفس فركب عنترة الجواد واعتد من بيت مالك بعدة الجلاد، وسار حتى بعد عن الأبيات وهو لا يدري إلى أين يذهب من الجهات، وقد ضاقت عليه المذاهب وغلقت في وجهه كل الجوانب، وصار يهيم ذات اليمين وذات الشمال بين الروابي والتلال، إلى تضاحي النهار واتسع البر في عينيه ففاضت دموعه وتهاطلت على خديه وتذكر فعل أبيه وقومه معه بعد ذلك الصنيع الذي صنعه، فأنشد يقول:
أُعاتِبُ دَهراً لا يَلينُ لِعاتِبِ ...وَأَطلُبُ أَمناً مِن صُروفِ النَوائِبِ
وَتوعِدُني الأَيّامُ وَعداً يغُرُّني ... وَأَعلَمُ حَقّاً أَنَّهُ وَعدُ كاذِبِ
خَدَمتُ أُناساً وَاِتَّخَذتُ أَقارِباً ... لِعَوني وَلَكِن أَصبَحوا كَالعَقارِبِ
يُنادونَني في السِلمِ يا اِبنَ زَبيبَةٍ ... وَعِندَ اصطِدامِ الخَيلِ يا اِبنَ الأَطايِبِ
وَلَولا الهَوى ما ذَلَّ مِثلي لِمِثلِهِم ... وَلا خَضَعَت أُسدُ الفَلا لِلثَعالِبِ
سَيَذكُرُني قَومي إِذا الخَيلُ أَصبَحَت ... تَجولُ بِها الفُرسانُ بَينَ المَضارِبِ
فَيا لَيتَ أَنَّ الدَهرَ يُدني أَحِبَّتي ... إِلَيَّ كَما يُدني إِلَيَّ مَصائِبي
ثم انه سافر في غير مقصد وأصبح الحي يموج بحديثه وحديث ابيه شداد وشمتت به الاعادي والحساد وقالوا يا فضيحتنا بين العرب اذا علموا ان العبيد شاركونا في الحسب والنسب.
وسمع ابو عبلة هذا الحديث فزاد به الغضب، وقال ما بقي لنا غنى عن قتل هذا العبد. فاذا انتصر له الملك زهير وولده مالك، وعجزت عن ذلك، قتلت أنا ابنتي عبلة.
أُحِبُّكِ يا ظَلومُ فَأَنتِ عِندي ... مَكانَ الروحِ مِن جَسَدِ الجَبانِ
وَلَو أَنّي أَقولُ مَكانَ روحي ... خَشيتُ عَلَيكِ بادِرَةَ الطِعانِ
إضافة تعليق جديد