الرياض - زبيدة حمادنة
انطلقت أعمال المؤتمر السنوي لمؤسّسة الفكر العربي "فكر17" بالشراكة مع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي "إثراء"، بجلسة افتتاحية تمحورت حول "الفكر العربيّ وآفاق التجديد". هدفت الجلسة إلى رسم الإطار العامّ لمداخلات المؤتمر ومناقشاته، من خلال تشخيص حالة الفكر العربي المعاصر، واستخلاص سماته العامّة، والإضاءة على أبرز تيّاراته وإشكاليّاته. قدّم الجلسة الإعلامي محمود الورواري، وشارك فيها الأمين العام السابق لمنظّمة التعاون الإسلامي معالي الأستاذ إياد مدني، ووزير الثقافة سابقاً وأستاذ علم نفس الإبداع الدكتور شاكر عبد الحميد، وأستاذ القانون الدستوري في جامعة السلطان قابوس الدكتور امحمد مالكي.
بدايةً قدّم الأستاذ إياد مدني مداخلة سعى فيها إلى استقصاء الجانب السياسي لما نتحدّث عنه، والحاجة إلى أن نُعَرّف مفهوم "النحو" الذي يتصدر عنوان المؤتمر "نحو فكر عربي جديد". ورأى أنّ الحلّ يكمن في الفكر الليبرالي الديموقراطي، والقناعة بأنّ الإسلام هو الحلّ، معتبراً أنّ الليبرالية الديموقراطية هي منظور سياسي أوروبي غربي بامتياز، وأنّ بعض المفكّرين العرب ارتبطوا بالمذاهب الفلسفية المعاصرة التي نشأت في الغرب الأوروبي، ولم يستطيعوا وضع الأسس لمدرسة فلسفية عربية تنتمي إلى المذاهب التي تحمّسوا لها، مقسّماً المسار السياسي لمعظم دول العالم الثالث إلى ثلاث مراحل: مرحلة حركات التحرّر والاستقلال، والمرحلة التي أعقبت مرحلة النشوة بالاستقلال، ومرحلة واقع الحال في ظلّ العولمة".
وختم مدني مداخلته قائلاً متى ما نمى المجتمع المدني، وبسقت مؤسّساته، أمكن للاجتهادات الفكرية أن تجد المناخ الملائم لتبين السمات الاجتماعية، والمحطات التاريخية، والخصوصيات الثقافية التي تميزنا كعرب وكيف يمكن أن ننسج منها فكراً سياسياً يخصنا، ويحول دون ذوبان وجودنا في سياق آخر.
وقدّم الدكتور شاكر عبد الحميد مداخلة بعنوان "القوقعة واللؤلؤة"، سلّط فيها الضوء على ثقافة التكرار وثقافة الابتكار، معتبراً أنّ حركة الثقافة التي تسير في اتّجاه الانطواء والانغلاق أو الانبساط والانفتاح، تحكمها عوامل داخلية وخارجية كثيرة، منها: هيمنة التراث الانغلاقي، التشكّك في الآخر أو الصدمات الثقافية والحضارية. وأكّد أنّ ثقافة القوقعة فردية كانت أم جماعية، هي ثقافة انسحابية في جوهرها، وتُجسّد التكراري الذي يرى البشر والأشياء ويدركها من خلال قسمة ثنائية ضدّية ثابتة: أبيض/ أسود، لافتاً إلى أنّها تجسّد آلية عقلية نمطية جامدة مغلقة تشي بالتصلّب وتعمل ضدّ الإبداع.
ورأى أنّ ثقافة الابتكار ترتبط بالفضول وحبّ الاستطلاع، وتظهر في الفنّ بشكلٍ واضح، مؤكداً أنّ العقل الابتكاري عقل تفاعلي يرى العناصر كلّها ويدرك كيفية انصهارها في بوتقة واحدة، مشدّداً على ضرورة الابتعاد عن التكرار في الأفكار والرؤى، ملاحظاً عدم وجود مؤسّسات أو مشاريع متخصّصة لتطوير الثقافة وصناعتها، داعياً إلى البدء بتصميم خارطة ثقافية، وإطلاق مشروعات عربية مشتركة حول الصناعات الثقافية الإبداعية، في مجالات النشر والسينما والفنون التشكيلية والحِرف الشعبية والتراثية وغيرها.
بعد ذلك تحدّث الدكتور امحمد مالكي عن النكوص والتراجع في مسيرة الفكر العربي خلال العقود الأخيرة، مشدّداً على اكتشاف العرب المتأخّر لمفاهيم بناء الدولة العصرية وأدواتها المنهجية، من قبيل "الديمقراطية"، و"حقوق الإنسان"، و"المواطنة"، و"شرعية الاختلاف والتنافس"، و"التنمية الإنسانية المستدامة"، والقائمة طويلة من العناوين التي تندرج ضمن منظومة قيم الدولة العصرية الديمقراطية.
وأكّد في ورقته على الحاجة الماسّة إلى إعادة النظر والتفكير في معنى "العروبة"، ومعنى "أن يكون الإنسان عربياً". وأوضح عدم كفاية مقوّمات الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا لبناء عروبة متماسكة، وفاعلة في العطاء الحضاري الإنساني، مقترحاً أن يُعاد النظر في تحديد معنى العروبة، باعتبارها حاضنة للهوية المشتركة، على أساس جديد هو "المواطنة"، وليس شيئاً آخر، فلكي يعي "العربي" عروبته، ويدافع عنها باقتناع، ويُعزّز من خلالها ولاءَه، ويُقوّي رابطته بوطنه وأمّته، يحتاج إلى أن يكون مواطناً كامل المواطنة.
الجلسة العامّة الأولى
بعدها عُقدت الجلسة العامّة الأولى تحت عنوان "العالَم اليوم.. العالَم غداً: التحوّلات والتحدّيات والرؤى"، قدّم لها أستاذ العلاقات الدولية والوساطة الدولية الدكتور جوزيف مايلا، فأوضح أنّ هدف الجلسة هو عرض التحوّلات الكبرى التي يشهدها العالم حالياً، وانعكاساتها والتحدّيات التي تطرحها على مختلف الأصعدة.
وأكّد أستاذ العلاقات الدولية في المدرسة العليا للعلوم الاقتصادية والتجارية في فرنسا فريدريك تشاريون، على التغييرات الكبيرة التي حصلت في البيئة الدولية من خلال ثلاثة مجالات للتنافس الدولي هي: الصراع المادّي الاقتصادي، الساحات السياسية، والتفاعلات الاجتماعية والرمزية. ونوّه بمركزية العالم العربي في العلاقات الدولية الجديدة، مؤكداً أنّ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا يزالان في مركز الصدارة في المنافسة الاستراتيجية الدولية، لافتاً إلى الجمود في الواقع العربي على ثلاثة أصعدة: الاضطرابات الاجتماعية والإحباط، الجمود السياسي، وعدم وجود نفوذ دولي.
ونبّه رئيس مركز الدراسات العامّة الدولية الياباني ناوكي تاناكا على التحوّل لدى مؤيّدي النظام العالمي من قوى عظمى إلى قوى إقليمية، مركّزاً على الدور الرئيس لكلّ من الولايات المتّحدة الأميركية وروسيا والصين، الذين سيؤدّون دوراً أساسياً في الشرق الأوسط في المستقبل.
ورأى المدير العامّ لمعهد جنوب ووسط آسيا السفير حسين حقاني أنّ العالم تغيّر على مدى القرون الثلاثة الماضية، فقد كافح العرب للتعامل مع عالم يسيطر عليه الغرب، إذ تمّ تقسيم التطوّر الفكري العربي بين أولئك الذين يعتنقون أو يرفضون الأفكار الغربية. وشدّد على زيادة أهمّية آسيا في الوضع الراهن، فالصين والهند ترتفعان اقتصادياً، وأوروبا والولايات المتّحدة لم تعودا مهيمنتين اقتصادياً وعسكرياً. ولفت إلى أنّ الولايات المتّحدة لم تعد مهتمّةً بالعالم العربي بالقدر الذي كانت عليه، ومع ذلك، لم يتغيّر نموذج العالم العربي الذي لا يزال متمحوّراً حول الغرب، ولم يهتمّ بعد ببروز الصين والهند وتأثيرهما على العالم.
وأشار حقّاني إلى سيطرة قضيّة فلسطين على الخطاب السياسي العربي إذ كانت بمثابة الوحدة العربية، مبيناً أنّ هذه الوحدة تراجعت وأصبحت المصالح القومية ومصالح الدولة أكثر أهمّية، لافتاً إلى أنّ معظم العلماء الأميركيين يرون أنّ الفكر العربي راكد ويحتاج إلى الاستعادة، وأنّ تحديد مستقبل العالم العربي سيتمّ من خلال قدرته على إحياء فكرٍ جديد.
إضافة تعليق جديد