بقلمى د/سماح عزازي
في عالمٍ يتسارع نحو التقنية والذكاء الاصطناعي، حيث غالبًا ما تُختزل النجاحات في الأرقام والشهادات، تبرز المهندسة المغربية ابتهال أبو السعد بصوت مختلف. شابة لم تكتف بأن تتفوّق في الهندسة والبرمجة، بل حوّلت مسارها المهني إلى رسالة إنسانية، تُزاوج بين العلم والموقف، وبين التقنية والضمير، لتصبح حديث العالم في لحظة مواجهة قلّما يجرؤ عليها أحد.
مسيرة علمية متميزة ونشأة ملهمة
وسط أجواءٍ عائلية تقدّر التعليم وتثمّن دور المرأة في بناء المجتمع، نشأت المهندسة المغربية ابتهال أبو السعد، التي باتت اليوم واحدة من الوجوه النسائية البارزة في مجال الهندسة والتقنيات الحديثة في المغرب. وُلدت في مدينة الدار البيضاء في أواخر الثمانينيات، وتفتحت عيناها على مشهد حضري نابض بالحياة، كان محفّزًا لشغفها المبكر بالتكنولوجيا والهندسة.
منذ سنواتها الدراسية الأولى، أظهرت ابتهال تفوقًا ملحوظًا في المواد العلمية، خاصة الرياضيات والفيزياء، وهو ما لفت انتباه أساتذتها وشجّع أسرتها على دعم طموحاتها. وقد التحقت لاحقًا بثانوية التميز في الدار البيضاء، حيث صقلت مهاراتها العلمية وشاركت في مسابقات وطنية ودولية، محرزةً نتائج مشرّفة.
بعد حصولها على شهادة الباكالوريا بتفوق، التحقت بمدرسة المحمدية للمهندسين، واحدة من أرقى مؤسسات التكوين الهندسي في المغرب، وهناك تخصصت في هندسة النظم الصناعية. وخلال سنوات دراستها، لم تكتفِ ابتهال بالتحصيل الأكاديمي فحسب، بل انخرطت أيضًا في برامج تدريبية داخل وخارج المغرب، مما أكسبها خبرة عملية وعقلية منفتحة على التطوير والابتكار.
ولم يكن طموح ابتهال ليتوقف عند حدود الشهادة الجامعية؛ فقد حصلت على منحة دراسية لمتابعة دراستها العليا في فرنسا، حيث نالت درجة الماجستير في هندسة الجودة والتصنيع من جامعة ليون. هذا التكوين الدولي شكّل نقطة تحول في مسارها، ومنحها بعدًا عالميًا في تفكيرها وتطبيقاتها المهنية.
اليوم، تُعد ابتهال أبو السعد رمزًا للمرأة المغربية الطموحة، التي جمعت بين الجذور الأصيلة والرؤية العالمية، وأسهمت في تمثيل بلدها في عدد من المحافل العلمية والهندسية، مؤكدة أن طريق النجاح يبدأ من الإيمان بالذات والاجتهاد في التعلم.
من الرباط إلى هارفارد عقلٌ متّقد وطموح لا حدود له
وُلدت ابتهال أبو السعد سنة 1999 في العاصمة المغربية الرباط، وسط أسرة تُؤمن بقيمة التعليم وأهمية بناء الذات بالمعرفة. من ثانوية مولاي يوسف، إحدى أعرق الثانويات المغربية، شقّت طريقها في شعبة العلوم الرياضية، لتتوج مسارها الدراسي بمنحة متميزة إلى جامعة هارفارد الأمريكية، حيث تخصصت في علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي.
خلال سنوات دراستها، التحقت ببرنامج "TechGirls" التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، والذي يستهدف دعم الفتيات في مجالات العلوم والتكنولوجيا. تجربة فتحت أمامها أبواب العالم، لكنها لم تُغلق خلفها بوابة الانتماء. فقد ظلّ الوطن، بقضاياه وتحدياته، يسكن عقلها وروحها.
المهندسة التي لم تسكت
انضمت ابتهال إلى شركة مايكروسوفت في قسم الذكاء الاصطناعي، وهناك شاركت في تطوير خدمات "Azure" السحابية، لتُثبت مكانتها في واحدة من أكبر شركات التكنولوجيا العالمية. لكنها لم تنسَ أن التقنية، مهما بلغت من تطور، يجب أن تُستخدم في خدمة الإنسانية، لا في قمعها أو تدميرها.
في أبريل 2025، خلال احتفال مايكروسوفت بالذكرى الخمسين لتأسيسها، وقفت ابتهال أمام المئات، لتقاطع كلمة المدير التنفيذي لقسم الذكاء الاصطناعي، متهمة الشركة بالتواطؤ مع الاحتلال الإسـ، رائيلي في تطوير أدوات قتل تستهدف المدنيين في غـ، زة. قالت بصوتٍ ثابت:
"تزعمون أنكم تستخدمون الذكاء الاصطناعي من أجل الخير، بينما تبيع مايكروسوفت تقنيات أسلحة ذكاء اصطناعي للجيش الإسـ، رائيلي. خمسون ألف شخص قُتلوا، ومايكروسوفت تساهم في هذه الإبادة الجماعية في منطقتنا."
بهذه الكلمات، تحوّلت من مهندسة شابة إلى رمز عالمي للمقاومة الأخلاقية داخل عالم الشركات العملاقة. لكن النتيجة كانت سريعة وحاسمة فصل فوري من العمل. قرارٌ لم يُثنها عن موقفها، بل أكسبها احترامًا عالميًا.
ما بعد مايكروسوفت من منصة الكود إلى منصة الوعي
انتشر موقفها كالنار في الهشيم، وتحوّلت إلى أيقونة في الإعلام العربي والدولي. وصفها البعض بـ"الضمير الحي للتكنولوجيا"، وآخرون اعتبروا ما قامت به "أقوى صفعة أخلاقية توجهها امرأة عربية لشركة عالمية".
ورغم الضغوط، تؤكد ابتهال أن ما قامت به لم يكن خيارًا بطوليًا، بل "واجبًا إنسانيًا". تقول في أحد لقاءاتها:
"لم أدر ظهري لقيمي. لقد تعلّمت أن المهندس الحقيقي لا يصمم فقط، بل يُسائل الغاية من تصميمه. لم أدرس الذكاء الاصطناعي لأُساهم في قتل الأبرياء."
ثقافة وهوية… لا تُختزل في شاشة
ليست ابتهال مجرّد مهندسة، بل مثقفة حقيقية، تتقن أكثر من لغة، وتقرأ الفلسفة كما تكتب الأكواد. تؤمن بأن التكنولوجيا يجب أن تُرافقها إنسانية عميقة، وأن الهوية لا تُفقد في الترحال، بل تُعمَّق.
تحمل رؤيتها لمستقبل المغرب في قلبها تعليم شامل، تمكين حقيقي للنساء، وعدالة اجتماعية تبدأ من القرى والمناطق النائية، لا من الأبراج الزجاجية في المدن الكبرى.
ختامًا امرأة من زمن نادر
في زمنٍ تسكت فيه الكفاءات خوفًا على امتيازاتها، وتختبئ فيه العقول خلف الشاشات، اختارت ابتهال أبو السعد أن تكون صدى لما تؤمن به. إنها ابنة المغرب، ابنة العصر، وصوت المستقبل الذي يرفض أن يُباع تحت أي ظرف.
لقد علمتنا أن الذكاء لا يُقاس فقط بعدد الشهادات، بل بقدرة صاحبه على قول "لا" حين يكون الجميع صامتًا.
إضافة تعليق جديد