رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الثلاثاء 29 أبريل 2025 1:22 ص توقيت القاهرة

كتاب بنو اسرائيل من النبوة الي الاحتلال قراءة في التاريخ والدين والسياسية الفصل الثاني يوسف في مصر – التمكين والتمهيد

 

بقلم د/ سماح عزازي 

مقدمة الفصل
 قصة يوسف عليه السلام ليست مجرد حكاية عن شخص تعرض للظلم فنجا، بل هي رحلة تتداخل فيها أبعاد الإيمان والصبر والحكمة. هي قصة صراع داخلي لا ينتهي، بين الرغبة في الانتقام والمغفرة، بين الحزن العميق والأمل الواضح. يوسف، ذلك الفتى الذي ألقي به في بئر الظلم والخذلان، أضحى بفضل إيمانه وتوكلّه على الله، أميرًا لحكمة الأرض، حاكمًا على خزائن مصر في وقت الشدة. وفي قلب تلك الرحلة المليئة بالألم، سطع النور الإلهي ليمنح يوسف التمكين في الأرض، ويكشف له عن مقاصد الله العليا التي كانت أكبر من كل ما مر به. بين ابتلاءاتٍ متنوعة ومواقف درامية، تظهر لنا القصة كيفية تجسيد الإيمان بالله في أصعب الظروف، وكيف أن الإحسان والعفو ليسا مجرد خيارات، بل دربٌ من دروب السمو النفسي الذي يرفع صاحبه إلى أعلى مراتب الجود والرحمة.

يوسف لم يكن مجرد نبي، بل كان رمزًا من رموز العدل والصدق، حيث يعلّمنا كيف يتحول الظلم إلى نعمة، والحزن إلى سعادة، والشدة إلى تمكين. في هذا الفصل، نغوص في أعماق قصة يوسف عليه السلام، لنستعرض مراحل حياته التي جمع فيها بين العبرة والدرس، والشجاعة والحكمة، والتوكل على الله، حتى صار رمزًا للعدل والصبر في مواجهة أقسى الابتلاءات.

إن قصة يوسف عليه السلام هي من أعظم القصص التي وردت في القرآن الكريم، وهي قصة حافلة بالعبر والدروس التي تتناول موضوعات الصبر، الإيمان، والتمكين الإلهي. هذه القصة تمثل محطة حيوية من محطات تاريخ بني إسرائيل، ودرسا في كيفية اجتياز المحن والابتلاءات، وكيف يمكن للإنسان أن يجد في أقسى الظروف أملًا وعونًا من الله. وتكشف لنا القصة كيف تحولت معاناة يوسف عليه السلام من ظلمٍ إلى تمكين، ومن محنة إلى نعمة، ليصبح في نهاية المطاف أحد القادة المُلهمين الذين ساهموا في إنقاذ بلاد مصر من المجاعة.

على الرغم من أن يوسف عاش حياة مليئة بالظروف القاسية، بدءًا من الخذلان من قبل إخوته ووصولًا إلى السجن، إلا أن الله تعالى كان يختبره ويعده للتمكين، حتى يصبح مثالًا في الصبر والعفو والحكمة. قصة يوسف هي نموذج يُحتذى به لكل من يواجه ظلمًا أو ابتلاء، فصبره على البلاء وتوكله على الله جلب له التمكين والتوفيق في النهاية.

يوسف في بئر الظلم – بداية القصة
في البداية، كان يوسف عليه السلام محبوبًا جدًا من والده يعقوب عليه السلام، حتى أن إخوته بدأوا يشعرون بالغيرة منه. فقد كان يوسف عليه السلام يتمتع بخصال عظيمة مثل الصدق، البر، والفطنة، مما جعل يعقوب يحبّه حبًا جَماً. لكن حب يعقوب ليوسف أثار حسد إخوته، فأخذوا يخططون للتخلص منه. وفي يوم من الأيام، اجتمعوا على أن يتخلصوا من يوسف بدافع من الغيرة، فقرروا إلقاءه في بئرٍ عميقٍ.

قال الله تعالى في القرآن: "إِذْ قَالُوا۟ لَيُوسفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰٓ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌۭ ۚ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَـٰلٍۢ مُّبِينٍۢ" (سورة يوسف 8).

بهذا بدأ يوسف في معاناته، حيث أُلقي به في بئرٍ مظلمٍ، دون أن يعرف متى سيأتي الفرج. وبالرغم من الظلم الذي تعرض له، ظل يوسف متوكلًا على الله، مُحتسبًا، موقنًا بأن الله سيُخلصه ويُحقق له ما هو خير له في النهاية.

يوسف في مصر – بداية التغيير
تم العثور على يوسف عليه السلام من قبل قافلة تجارية كانت تمر بالقرب من البئر. فباعوه كعبدٍ في مصر، ودخل أرضًا غريبة عن وطنه. وفي مصر، كان يوسف خاضعًا للابتلاءات الجديدة، حيث أصبح عبدًا في بيت العزيز. ورغم محنته الجديدة، ظل يوسف عليه السلام متمسكًا بإيمانه وثقته بالله، وكان الله تعالى يرسل له العديد من الفرص التي تُمهد له الطريق نحو التمكين.

وفي بيت العزيز، واجه يوسف فتنةً عظيمةً، حيث حاولت زوجة العزيز إغواءه، لكنها فشلت عندما رفض يوسف عليه السلام الانصياع لها. وعندما حاولت التهمة أن تُلقى عليه زُورًا، لم ييأس يوسف، بل تمسك بالصبر وفضل السجن على الوقوع في هذا الابتلاء. قال الله تعالى: "وَفَتَنَّاهُ فِى الْمُصِيبَةِ وَجَاءَتْ إِلَيْهِ الْمَرَأَةُ الَّتِى هِيَ فِى بَيْتِهَا" (سورة يوسف 25).

كان هذا الابتلاء اختبارًا عظيمًا من الله، ولكنه أيضًا فرصة لتزكية يوسف وتنقيته. وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن الابتلاءات كيف أنها تكفر عن الذنوب وترفع الدرجات: "ما من مسلم يصيبه أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها عن خطاياه" (رواه البخاري).

يوسف في السجن – اختبار جديد
بعد أن اتهمته امرأة العزيز زورًا، أُلقي يوسف في السجن، ولكن الله لم يتركه وحده، بل كان يهيئه لمرحلة جديدة من التمكين. في السجن، استخدم يوسف مهاراته في تفسير الأحلام، وتوسعت شهرته بين السجناء الذين بدأوا يأتون إليه ليطلبوا تفسيرًا لأحلامهم. كانت هذه المهارات، على الرغم من كونها بسيطة، تحمل في طياتها إشارات إلى المستقبل. قال الله تعالى: "وَفَتَنَّاهُ فِى السِّجْنِ" (سورة يوسف 35).

وكان السجن مرحلة أخرى من مراحل تطهير يوسف عليه السلام، حيث ازداد يقينه بأن الله سيكمل له أمره.

التفسير وظهور التمكين
ثم جاءت اللحظة الحاسمة في قصة يوسف عليه السلام عندما طلب الملك تفسيرًا لحلمٍ كان يدل على مجاعة ستضرب البلاد. تمكّن يوسف من تفسير الحلم بكفاءة وبدقة، مما لفت أنظار الملك إليه، وجعل الملك يُعطيه منصبًا في الحكومة. قال الله تعالى: "فَصَارَ فِى مِصْرَ وَزِيرًا فِى الْأَرْضِ" (سورة يوسف 56).

في تلك اللحظة، بدأت رحلة يوسف نحو التمكين الحقيقي. أصبح وزيرًا في مصر، وكان هو المسؤول عن خزائن الأرض في وقت المجاعة. لم يكن هذا المنصب نتيجة لتخطيط يوسف، بل كان نتيجة لإرادة الله وتدبيره.

يوسف وزير علي مخازن الأرض
بعد أن فسر يوسف عليه السلام حلم الملك، الذي كان يرمز إلى مجاعة شديدة ستضرب الأرض، أصبح يوسف عليه السلام في موقع هام ورفيع في مصر. فقد تم تعيينه في منصب وزير الخزائن أو ما يمكن تسميته بـ "رئيس مخازن الأرض"، وهو المنصب الذي كان يتطلب حكمة وإدارة حكيمة في وقت الأزمات. هذا التمكين الإلهي كان نقطة فارقة في تاريخ يوسف عليه السلام، فبعد سنوات من الظلم والابتلاء، أصبح صاحب السلطة الذي يتحكم في موارد البلاد الحيوية.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: "فَصَارَ فِى مِصْرَ وَزِيرًا فِى الْأَرْضِ" (سورة يوسف، 56).

كان يوسف عليه السلام مؤهلاً تمامًا لهذا المنصب، إذ أظهر من خلال حياته صبرًا وحكمة في التعامل مع الأزمات، ومعرفة دقيقة بكيفية تنظيم المخازن والموارد. تمكّن من أن يُدير أزمة الجفاف التي كانت ستضرب الأرض بشكل مدروس، فبدأ بتخزين الطعام في السنوات السبع المخصبة التي سبقت المجاعة، ليضمن توفيره للناس في سنوات المجاعة. وهكذا، تحول يوسف من شخصٍ مظلومٍ في السجن إلى مسؤولٍ حكوميٍ يعول الأمة بأسرها.

كانت هذه الخطوة تتويجًا لمراحل من الصبر والابتلاء الذي مر به يوسف عليه السلام. فقد أصبح بعد ذلك رمزًا للإدارة الحكيمة، وكان مثالًا يُحتذى به في كيفية تحويل المحن إلى فرص لخدمة الآخرين. ورغم التمكين الذي ناله، ظل يوسف عليه السلام على إيمانه واعترافه بأن هذا التمكين كان بفضل الله وحده.

هذه اللحظة كانت محطة مهمة في حياة يوسف، فقد صار على رأس "مخازن الأرض" مسؤولًا عن أرزاق الناس، وقاد مصر من خلال حكمته ورؤيته الاستراتيجية إلى النجاة من مجاعة محققة، بل وقدم مثالًا حقيقيًا على أن التمكين في الأرض لا يأتي إلا بعد امتحانات وتحديات كبيرة، وأن الله يختار من عباده من يكون أهلاً لهذا التمكين.

اللقاء بين يوسف وإخوته – العفو والمغفرة
مع بداية المجاعة، جاء إخوته إلى يوسف ليطلبوا الطعام، وقد أرادوا أن يتعاملوا معه بتواضع. ولكنهم لم يتعرفوا عليه، ولم يعلموا أن الشخص الذي يطلبون منه العون هو أخوهم الذي ألقوه في البئر. ومع مرور الوقت، كشف يوسف عن هويته لهم، قائلاً: "لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۚ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (سورة يوسف 92).

كانت هذه اللحظة بمثابة ذروة في قصة يوسف، حيث قدم نموذجًا عظيمًا للعفو والمغفرة، وهو ما يجعلها واحدة من أكثر اللحظات تأثيرًا في تاريخ الأنبياء. يوسف، الذي تعرض للظلم، اختار أن يغفر لإخوته بدلاً من أن يعاقبهم، وقدم لهم درسًا في التسامح الذي لا يأتي إلا من قلب طاهر. وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على فضل العفو في الحديث: "من لا يُعَفِّ عن الناس لا يُعَفِّ الله عنه" (رواه البخاري).

وصية يعقوب لابنائه
في لحظاتٍ من العمر، وفي ظلِّ مشاعر متباينة من الفقد والاشتياق، أتى الوقت الذي أوصى فيه يعقوب عليه السلام أبناءه بما هو أسمى وأغلى من الدنيا بأسرها، وهو التوحيد والإيمان بالله سبحانه وتعالى. فقد كان يعقوب عليه السلام يطمح إلى أن يظل أبناؤه على نفس الطريق الذي سار عليه هو، طريق الأنبياء والصلاح. في تلك اللحظات، كان يعقوب يتأكد أن رسالة الله ستستمر في ذريته، وها هو يوصي أبناءه بما يضمن لهم النجاة في الدنيا والآخرة.

قال الله تعالى على لسان يعقوب في القرآن الكريم: "وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُمْ مُسْلِمُونَ" (سورة البقرة 132).
في هذه الوصية، كان يعقوب عليه السلام يطلب من أبنائه أن يظلوا مخلصين للإيمان بالله، وأن يموتوا على الإسلام. وكانت هذه الكلمات تلخص فحوى رسالة الأنبياء في الحفاظ على التوحيد وعبادة الله، ليظل هذا الميراث العظيم حياً في نسلهم حتى قيام الساعة.

مواقف يعقوب مع يوسف وأبنائه
عندما فقد يعقوب عليه السلام يوسف، عاشت الأسرة فترة من الحزن العميق. لكن يعقوب كان يؤمن أن يوسف لم يُقتل، بل كان في مكانٍ ما، وأن الله سيعيده إليه في وقتٍ ما. قال الله تعالى: "وَفَتَحْنَا لَهُ الْأَبْوَابَ" (سورة يوسف 91).

عندما جاء وقت اللقاء بين يعقوب ويوسف، امتلأ قلب يعقوب بالفرحة العارمة. وبذلك، أتم الله نعمته على يوسف وأبيه.

دروس مستفادة من قصة يوسف
1. الصبر على البلاء: علمنا يوسف عليه السلام الصبر في وجه الابتلاءات، وأنه لا شيء في هذه الدنيا يدوم إلا إرادة الله.

2. العفو والتسامح: القصة تعلمنا أنه لا يحق للإنسان أن يثأر لنفسه دائمًا، بل العفو هو الطريق الذي يُحبب الله للعبد.

3. التمكين من الله: تعلمنا أن التمكين لا يأتي إلا من الله، وهو أمر لا يتعلق بموقع الإنسان أو قدرته، بل بإرادة الله وابتلاءه لعباده.

4. الحكمة في تدبير الأمور: درس يوسف عليه السلام في كيفية التعامل مع الأزمات، وتحويل كل مشكلة إلى فرصة لخدمة المجتمع، خاصة في أوقات المجاعة.

قصة يوسف عليه السلام ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي دروس وعبر تُعَلِّم الإنسان كيف يكون صابرًا في مواجهة البلاء، وكيف يحول المحن إلى فرص للتمكين. في كل مرحلة من مراحل حياته، من البئر إلى السجن، ومن التمكين إلى العفو، يظهر يوسف عليه السلام نموذجًا في الإيمان والصبر، ويثبت لنا أن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
خاتمة الفصل 
وفي نهاية هذه الرحلة المليئة بالتحديات، يتجلى لنا في قصة يوسف عليه السلام درس عظيم في الإيمان بالله والقدرة على التكيف مع أصعب الظروف. لقد كان يوسف في كل مرحلة من مراحل حياته نموذجًا للثبات والصبر، مُظهِرًا بذلك كيف أن الابتلاءات، مهما كانت قاسية، هي محطات للتمكين والإعداد لما هو أعظم. ففي بئر الظلم، كان الله يعده ليكون حاكمًا على خزائن الأرض؛ وفي السجن، كان يعلّمه كيف يحوّل الأزمات إلى فرص للخدمة والإصلاح.

ولم تقتصر حكمة يوسف على شخصه فقط، بل امتدت لتشمل الأمة كلها عبر العفو عن إخوته، ليعلمنا أن العظمة تكمن في العفو، وأن القوة الحقيقية تأتي من رحمة الله. لقد غفر يوسف لمن ظلموه، فكان ذلك درسًا في القدرة على الصفح، والتفوق على الأحقاد.

وهكذا، علمتنا قصة يوسف أن التمكين من الله لا يأتي إلا بعد ابتلاء، وأن الظلم مهما كان عميقًا سيظل وسيلة لتسخير إرادة الله. وفي النهاية، يظل يوسف عليه السلام مثالًا لكل من يمر بتجربة صعبة، ليتذكر أن الصبر على البلاء والتوكل على الله هو الطريق إلى النصر والتمكين.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.