الحمد لله جعل الحمد مفتاحا لذكره، وجعل الشكر سببا للمزيد من فضله، ودليلا على آلائه وعظمته، قضاؤه وحكمه عدل وحكمة، ورضاه أمان ورحمة، يقضي بعلمه، ويعفو بحلمه، خيره علينا نازل، وتقصيرنا إليه صاعد، لا نقدر أن نأخذ إلا ما أعطانا، ولا أن نتقي إلا ما وقانا، نحمده على إعطائه ومنعه وبسطه وقدره، البر الرحيم لا يضيره الإعطاء والجود، ليس بما سُئل بأجود منه بما لم يُسأل، مسدي النعم وكاشف النقم، أصبحنا عبيدا مملوكين له، له الحُجّة علينا ولا حُجّة لنا عليه، نستغفره ونتوب إليه مما أحاط به علمه وأحصاه في كتابه، علم غير قاصر وكتاب غير مغادر وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله سيد البشر أجمعين ورسول رب العالمين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، ثم أما بعد إن من أطرف ما يروى في طلب العلم ما ذكره الإمام الذهبي في السير عن محمد بن الفيض الغساني، سمعت هشام بن عمار، يقول باع أبي بيتا له بعشرين دينارا، وجهزني للحج، فلما صرت إلى المدينة، أتيت مجلس مالك، ومعي مسائل أريد أن أسأله عنها فأتيته، وهو جالس في هيئة الملوك، وغلمان قيام، والناس يسألونه، وهو يجيبهم، فلما إنقضى المجلس قال لي بعض أصحاب الحديث سل عن ما معك؟ فقلت له يا أبا عبد الله، ما تقول في كذا وكذا؟ فقال حصلنا على الصبيان، يا غلام احمله، فحملني كما يحمل الصبي وأنا يومئذ غلام مدرك فضربني بدرة مثل درة المعلمين سبع عشرة درة، فوقفت أبكي فقال لي ما يبكيك؟ أوجعتك هذه الدرة؟
قلت إن أبي باع منزله، ووجه بي أتشرف بك وبالسماع منك فضربتني، قال يعقوب بن إسحاق الهروي، عن صالح بن محمد الحافظ سمعت هشام بن عمار، يقول دخلت على مالك، فقلت له حدثني، فقال اقرأ، فقلت لا، بل حدثني، فقال اقرأ فلما أكثرت عليه، قال يا غلام، تعال إذهب بهذا، فاضربه خمسة عشر، فذهب بي فضربني خمس عشرة درة، ثم جاء بي إليه، فقال قد ضربته، فقلت له لم ظلمتني؟ ضربتني خمس عشرة درة بغير جرم، لا أجعلك في حل، فقال مالك فما كفارته؟ قلت كفارته أن تحدثني بخمسة عشر حديثا قال فحدثني بخمسة عشر حديثا، فقلت له زد من الضرب، وزد في الحديث، فضحك مالك، وقال اذهب " ومن بديع ما يروى في طلب العلم أيضا ما حكاه أهل السير عن الإمام الأعمش رحمه الله " قال عيسى بن يونس خرجنا في جنازة ورجل يقوده.
فلما رجعنا عدل به فلما أصحر قال أتدري أين أنت؟ أنت في جبانة كذا ولا أردك حتى تملأ ألواحي حديثا قال اكتب، فلما ملأ الألواح رده، فلما دخل الكوفة دفع ألواحه لإنسان، فلما أن انتهى الأعمش إلى بابه، تعلق به وقال خذوا الألواح من الفاسق، فقال يا أبا محمد قد فات، فلما أيس منه، قال كل ما حدثتك به كذب، قال أنت أعلم بالله من أن تكذب " ولا شك أن أثر الجهل في حياة الخلق مميت ماديا ومعنويا ومن المواقف التي تبين ذلك ما حدث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال " خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منّا حجر، فشجه في رأسه، فاحتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك.
قال قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده " فقد يقتل المرء نفسه بجهله، لأن الجهل رديف الموت، وقد يدمر المرء عبادته بجهله إذا لم يركن إلى العلم الذي يحفظ عليه دينه.
إضافة تعليق جديد