بقلم د/سماح عزازي
على لسان بيرثا بنز
لم أكن أبحث عن المجد، ولم أرد أن أُدهش العالم…
كنت فقط أؤمن أن عجلة صغيرة يمكنها أن تغيّر كل شيء. حين أمسكت بالمقود ذلك الصباح، لم أكن أقود آلة، بل كنت أقود الحلم الذي خاف الجميع من اختباره. لم يكن الطريق ممهّدًا، ولا الناس مصدّقين، لكنني كنت أعرف أن كل تروس التاريخ تبدأ بجرأة امرأة لم تنتظر إذنًا من أحد.
في صباحٍ هادئ من عام 1888، وبينما كانت ألمانيا الصناعية تنام على صوت الآلات البخارية ووعود الثورة التكنولوجية، تركت امرأة تُدعى بيرثا بنز ورقة على طاولة المطبخ كتبت فيها ببساطة:
"ذهبت لزيارة والدتي مع الأولاد."
لكن الحقيقة أن تلك الرحلة لم تكن زيارة عائلية عادية، بل كانت بداية لتحولٍ غير مسبوق في تاريخ البشرية؛ رحلة غيرت وجه العالم… إلى الأبد.
حين ضحك العالم من فكرة السيارة
كان زوجها، كارل بنز، يعمل بجد على اختراعه الذي لم يصدقه أحد: عربة ذاتية الحركة بمحرك يعمل بالبنزين. المجتمع سخر من الفكرة، واعتبرها ضربًا من الخيال. حتى كارل نفسه، رغم عبقريته، ظل مترددًا في إخراج اختراعه إلى النور. كان يخشى فشلًا يُضاف إلى قائمة المخاوف التي تحيط بأصحاب الرؤى الجديدة.
لكن بيرثا لم تكن امرأة عادية. كانت ترى ما لا يراه الآخرون؛ لم تكن فقط زوجة مهندس، بل شريكة حلم، وصاحبة رؤية، وأمًا شجاعة قررت أن تسبق الزمن.
فجر الرحلة العظيمة
في فجر أحد الأيام، انتظرت بيرثا حتى غفا كارل، ثم تسللت إلى الورشة وسحبت السيارة ذات الثلاث عجلات بهدوء كي لا توقظه. اصطحبت معها ولديها، وبدأت رحلتها الأسطورية من مدينة مانهايم إلى بفورتسهايم، مسافة تقارب 106 كيلومترات، في وقت لم تكن فيه الطرق ممهدة، ولا الخرائط واضحة، ولا حتى المحطات متاحة للتزود بالوقود.
لقد كانت أول رحلة طويلة تُقطع بسيارة في التاريخ… ولم يكن خلف المقود مهندسٌ عبقري، بل امرأة تجرأت.
الطريق، التحديات، والانتصار
واجهت بيرثا خلال رحلتها كل ما يمكن تخيله من مصاعب: تلال شاهقة، طرق طينية، أعطال تقنية، وانقطاع الوقود. وعندما نفد البنزين من السيارة، اشترت مادة الليجروين من صيدلية محلية، كانت تُستخدم آنذاك كمذيب… وهكذا دخل التاريخ:
أول صيدلية تتحول إلى أول "محطة بنزين" في العالم.
ولم تقف العبقرية عند ذلك؛ فعندما انسدّ أنبوب البنزين، استخدمت دبوسًا من قبعتها لتفتحه، ولما تعطلت الفرامل، أصلحتها باستخدام دبوس شعرها.
لقد كانت بيرثا بنز المهندسة، والسائقة، والمخترعة،
والمسعفة، والداعمة… في آنٍ واحد.
بعد 12 ساعة… بدأ العالم يسمع
عادت بيرثا بعد اثنتي عشرة ساعة إلى المنزل، وقد صنعت التاريخ دون أن تدري. لم تكن رحلتها مجرد تجربة جريئة، بل كانت إعلانًا مدويًا عن ميلاد عصر جديد، جعل العالم لأول مرة يسمع صوت محرك يعمل بالوقود على الطريق العام.
منذ تلك اللحظة، لم يعد اختراع كارل بنز موضع سخرية، بل تحوّل إلى أساس صناعةٍ ستقود القرن العشرين، وتغيّر ملامح المدن، وتربط المسافات، وتعيد تشكيل الاقتصادات والحضارات.
ليست زوجة داعمة… بل صانعة حضارة
كثيرون أرّخوا لثورة المحركات ونسبوها للرجال فقط، لكن التاريخ العادل يعرف أن عجلة الحضارة لا يدفعها الذكور وحدهم.
بيرثا بنز لم تكن فقط الزوجة الداعمة لمخترع، بل كانت شريكة الفكرة، وقائدة التنفيذ، وصاحبة الجرأة الأولى.
أثبتت للعالم أن النساء لا ينتظرن دورهن في التاريخ، بل يكتبنه بأيديهن… وأحيانًا بدبوس شعر.
إرث لا يُمحى
اليوم، بعد أكثر من قرن على تلك الرحلة، لا تزال بيرثا بنز تُذكر في كتب التاريخ، بل خُصّص لها طريق رسمي في ألمانيا يحمل اسمها:
Bertha Benz Memorial Route
يمتد لمسافة رحلتها الأسطورية، تخليدًا لخطواتها الأولى نحو المستقبل.
النهاية التي كانت بداية
ما كتبته بيرثا في ورقتها لم يكن سوى تغطية بسيطة على مغامرة كبرى.
لم تذهب فقط لزيارة أمها، بل ذهبت لتفتح بابًا للتقدم البشري.
في اللحظة التي دارت فيها عجلات تلك السيارة، بدأ تاريخ جديد.
امرأة، سيارة، وطريق مفتوح…
ذلك كل ما احتاجته بيرثا لتصنع الفارق.
وتختم بيرثا الحكاية بقولها…
لم تكن رحلتي على الطرقات، بل كانت في عمق الزمن.
أردت أن أُثبت فقط أن الإيمان بالفكرة أقوى من الضجيج حولها، وأن الجرأة لا تحتاج عضلات، بل تحتاج امرأة لا تعرف التراجع. قدت السيارة، لكنني في الحقيقة قدت المستقبل.
إضافة تعليق جديد