الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وإمتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد، قيل أنه بعد أن عاد الرسول الكريم المصطفي محمد صلي الله عليه وسلم من رحلته إلي الطائف فقد قرر صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة في إجارة مشرك، ولم تأخذه الأنفة أن يتعامل مع مشرك، أو أن يدخل في حمايته، بل لم يفكر في الدخول في إجارة مؤمن لأن ذلك سيكون بمنزلة إعلان الحرب في مكة، وسينقسم أهل مكة إلى فريقين مؤمن وكافر، وهذا ليس وقت المواجهة، ولا بد من ضبط النفس حتى يأتي أمر الله تعالي، وفي الوقت نفسه هو صلى الله عليه وسلم لا يجد في بني هاشم على عظمها من يجيره.
فكبير بني هاشم بعد موت أبي طالب هو أبو لهب، وأبو لهب من أشد أعداء هذه الرسالة، ولن يقبل أن يقوم بحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبلغ رسالة هو كاره لها، ولن يستطيع أحد من رجال بني هاشم أن يتعدى على أبي لهب في هذا الأمر، لذلك لم يتردد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يراسل رجالا من المشركين من قبائل أخرى يطلب إجارتهم له، فراسل في البداية الأخنس بن شريق، فرفض وتعلل بأنه حليف، أي ليس أصيلا صريحا في مكة، والحليف لا يجير، وكان الأخنس حليفا لبني زهرة، فلمّا أبى الأخنس راسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو، وهو من عظماء مكة، وكان من المتوقع منه أن يقبل الإجارة، وكان رجلا عاقلا، ولكنه تخلى عن عقله ومروءته وقال إن بني عامر لا تجير على بني كعب.
ومن المؤكد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذه القوانين التي تعلل بها الأخنس أو سهيل ليست ملزمة، وإنه من الممكن أن يجير الحليف، وكان إبن الدغنة كان حليفا لبني زهرة كذلك، ومع ذلك أجار أبا بكر الصديق رضي الله عنه، كذلك يعلم أنه من الممكن أن تجير بنو عامر على بني كعب، وإلا لما أرسل إليهما، ولكن على كل حال فهذه كانت إعتذارات مؤدبة من قادة مكة، ثم فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل آخر، وهذا التفكير وهذه الطريقة التي إستخدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مراسلته تدل على عمق الفكر السياسي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى وعيه الكامل بالجذور التاريخية للمنطقة، وعلى حكمته الدبلوماسية في التعامل مع كافة الظروف والأطراف.
ولقد راسل رسول الله صلى الله عليه وسلم المطعم بن عدي، وهو من زعماء مكة الكبار، وهو سيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف، وراسله عن طريق رجل من خزاعة لم تذكر الروايات اسمه، ولا يعنينا إسمه في شيء بل تعنينا قبيلته خزاعة، فلماذا راسل رسول الله صلى الله عليه وسلم المطعم بن عدي تحديدا؟ ولماذا إختار رجلا من خزاعة وهي قبيلة غريبة على مكة؟ وذلك لأن لهذا الأمر جذورا في غاية الأهمية، وحتى نفقه البعد العميق في فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تعالوا نقلب قليلا في صفحات التاريخ ويعود أصل العرب إلى فرعين رئيسين هما عدنان وقحطان، أما عدنان فقد سكن نسله في الحجاز ومكة وما حولها، وأما قحطان فقد سكن نسله في اليمن، ثم مع مرور الوقت تفرقت الذرية في كل أطراف الجزيرة العربية.
لكن ظل العرب يدركون الأصول العدنانية والقحطانية لكل قبيلة، فمثلا من أشهر القبائل العدنانية قبيلة قريش، وهي قبيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أشهر القبائل القحطانية قبائل الأوس والخزرج في المدينة، وكانت بدايتهم في اليمن ثم هاجروا إلى المدينة، وكذلك قبائل خزاعة، ونجد في تاريخ مكة فترة سيطرت فيها قبيلة خزاعة على البيت الحرام وكانت لها إدارته والهيمنة على مكة، ثم جاء قصي بن كلاب وهو من أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحارب خزاعة وطردها من مكة، وسيطر هو على البيت الحرام مع أنه كان متزوجا من بنت زعيم خزاعة، وهكذا فقد حدث صراع قديم بين خزاعة وقريش، وطردت خزاعة من مكة، وهكذا لما وصلت الرسالة إلى المطعم بن عدي عن طريق الرجل الخزاعي دارت كل هذه الأمور في ذهن الرجل الحكيم.
المطعم بن عدي، وفوق حكمته فإنه كان رجلا صاحب مروءة، لأنه أحيانا تغطى الخسه والندالة على عقل الرجل فلا يرى الأمور على حقيقتها، ويأخذه الكبر والعناد في أمور قد تؤدى إلى الهلكة، ولم يكن المطعم كذلك، لذلك وافق على إجارة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخرجت كتيبة مسلحة من بني نوفل تستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاطت به لحمايته، وسارت به حتى وصل إلى البيت الحرام، فصلى هناك ركعتين، وقام المطعم بن عدي، فخطب في الناس فقال يا معشر قريش إنى قد أجرت محمد فلا يهجه أحد منكم، ثم سارت الكتيبة المسلحة تحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدخلته في بيته.
إضافة تعليق جديد