بقلم د/ سماح عزازي
في المجتمعات التي تنظر إلى المستقبل بوعي، يُربّى الطفل كما تُصاغ الحضارات: على أساسٍ متين، وتخطيط عميق، ورعاية لا تغفل لحظة. أما في مجتمعاتنا، فكثيرًا ما يُترك الطفل للظروف، ويُرمى الشاب في معركة الحياة بلا درع، ولا بوصلة، ولا سند. ثم، حين يهتزّ، أو ينفجر، أو يخطئ… نتبرأ منه كما لو كان غريبًا، دخيلًا، لا يمتّ إلينا بصلة.
"شهاب" ليس مجرد اسم عابر في نشرة أخبار، بل علامة فارقة في مسار جيل، ومرآة كاشفة لعيوب منظومة تربوية أنهكتها الفجوات، والتناقضات، والإهمال. هو قصة كل شاب حُرم من التوجيه، ومن الحنان، ومن الاحتواء، فتعلم أن يدافع عن نفسه بالصوت العالي، والغضب، والانفجار.
إنه ابن بيئة لا تسأل: كيف نربّي؟ بل تُحاكم فقط عندما تقع الكارثة.
في لحظة خاطفة، وبدون سابق إنذار، خرج "شهاب" من هامش الحياة إلى مركز المشهد، لا باعتباره نجمًا ولا مجرمًا، بل كـ"علامة استفهام كبرى" ترفرف فوق رؤوسنا جميعًا. من هو؟ ولماذا انفجر؟ وهل هو فرد طائش خرج عن السيطرة، أم صورة صريحة – وإن كانت مشوّهة – لما أفرزته تربيتنا، وتعليمنا، وبيئتنا الاجتماعية؟
الحقيقة القاسية التي نغضّ عنها الطرف دائمًا، أننا – كمجتمع – نُنتج "شهاب" كل يوم. ننتجه حين نفشل في غرس القيم، ونهمل التربية، وندفن التعليم تحت ركام المناهج الجافة والعقول المعلّبة. ننتجه حين نترك أبناءنا للأرصفة والشاشات، بدلًا من أن نمنحهم القدوة، والحوار، والاحتواء. ننتجه حين نسخر من الفقراء، ونقدّس المظاهر، ونساوي بين الاحترام والثروة، وبين الأخلاق والمظهر الخارجي.
شهاب ليس قنبلة انفجرت فجأة، بل بركان تراكمت حممه بصمت.
هو نتاج بيئة صاخبة لا تعرف للهدوء طريقًا، وتربية مهزوزة بين القسوة والإهمال، وتعليم لم يعلمه كيف يفرّق بين الغضب المشروع وردّ الفعل المرفوض. ومن قبل ومن بعد، هو ابن مجتمع علّمه أن الكرامة لا تُحمى إلا بالصوت العالي واليد الغليظة، لأن القانون أحيانًا لا يُنصف، والناس لا تسمع الضعفاء.
شهاب: الصورة التي نرفض أن نراها في مرآتنا
نحن لا نخاف من شهاب، بل نخاف من الاعتراف بأن شهاب يعيش في كل حيّ، وربما في كل بيت. نخاف أن نواجه الحقيقة: أن السلوكيات لا تولد من فراغ، وأن الأخلاق لا تُورّث، بل تُزرع وتُرعى وتنمو.
فحين نفشل في زرع الاحترام في المدارس، ونُحبط الطموح في الجامعات، ونسحق الكرامة في البيوت، ثم نُلقي بهؤلاء الشباب في سوق عمل لا يرحم، وواقع لا يعد بشيء… لا يحق لنا أن نصرخ "من أين جاء شهاب؟".
بل السؤال الحقيقي: كيف لم يخرج مئة شهاب قبله؟
المعادلة بسيطة… لكننا نتجاهلها
بيئة تربوية صحية + تعليم حقيقي + احترام متبادل = جيل راقٍ، قادر على ضبط انفعالاته
بيئة مهترئة + تهميش + عنف رمزي ومادي = جيل غاضب، مستعد للانفجار عند أول شرارة
شهاب لم يولد غاضبًا. لقد صار كذلك حين سُلبت منه أدوات التعبير، وحين لم يجد في مجتمعه من يحتضن ضعفه ويهديه نحو القوة النبيلة بدلًا من العنف. إنه أحد "الضحايا-الفاعلين" في مشهد نريده أن يكون منضبطًا، بينما الأرضية كلها مائلة.
النعام لا يُصلح الخراب
إذا ظللنا نتعامل مع هذه الانفجارات الفردية وكأنها "حالات شاذة"، نكون كمن يدفن رأسه في الرمال ويتوقع أن تنجو بقية الجسد من الخطر. ليس العنف في الشارع مجرد انفعال لحظي، بل نتيجة لمنظومة فاشلة أوصلت شبابًا كثيرين إلى اليأس، وأفرغت قيمهم من المعنى.
شهاب، بكل ما فيه من خطأ، هو ناقوس إنذار لا يجوز تجاهله. وإن كنا نريد فعلًا ألا تتكرر هذه المشاهد، فلتكن البداية من إعادة النظر في:
كيف نربي؟
ماذا نعلم؟
كيف نغرس الاحترام لا الخوف؟
كيف نجعل من الشاب إنسانًا لا مجرد ترسًا في ماكينة الحياة؟
حين يهتم الآخرون بالطفل... وننتظر نحن أن يتحول إلى مشكلة!
في كثير من المجتمعات الأوروبية، يُعتبر الطفل مشروع إنسان كامل، يستحق الرعاية والمتابعة والحماية منذ اللحظة الأولى. ليس مجرد رقم في دفتر العائلة، بل أولوية وطنية، ومؤشرًا من مؤشرات الحضارة. خذ ألمانيا كمثال: إذا لاحظ أحد المدرسين، أو حتى الجيران، أن طفلاً لا يتلقى معاملة لائقة داخل أسرته، أو يتعرض لإهمال أو عنف، فإن القوانين تفرض عليهم الإبلاغ فورًا عن الحالة، دون الحاجة إلى إذن أو تردد.
ولن تمر الواقعة دون مساءلة، بل يُفتح تحقيق فوري، وتُتخذ قرارات قد تصل إلى سحب الطفل من الأسرة، وإلحاقه بدور رعاية مؤهلة نفسيًا وتربويًا، مع متابعة دورية لحالته.
الأمر لا يتوقف على رد الفعل فقط، بل يبدأ من الوقاية:
نظام التعليم الألماني، مثلًا، لا يهتم فقط بالدرجات، بل يركز على الاستقرار النفسي، والدعم العاطفي، وبناء الشخصية.
مؤسسات الرعاية لا تُعد "عقابًا"، بل بيئة علاجية متقدمة، توفر للطفل كل ما يحتاجه من دعم نفسي وتربوي.
في المقابل، كم من "شهاب" في مجتمعاتنا كان ضحية عنف أسري أو إهمال تربوي صارخ، ومرّ الأمر مرور الكرام؟
كم طفلًا صرخ من الداخل، دون أن يسمعه أحد؟
وكم مراهقًا تعلم أن "الشارع أحنّ من البيت"، و"الصوت العالي هو اللغة الوحيدة التي تُفهم"؟
نحن لا نُنتج العنف فقط، بل نغضّ الطرف عنه في بدايته، ثم نندهش من نتائجه.
نلوم "شهاب" حين يكبر ويخطئ، لكننا لم نسأل أنفسنا:
مَن ربّاه؟ مَن وجّهه؟ مَن تابع حالته النفسية حين كان يبكي في صمت؟
الفرق الجوهري بيننا وبين المجتمعات المتقدمة هو:
أنهم يرون في كل طفل مشروعًا قوميًّا، أما نحن فنراه "مسؤولية أهلُه"، حتى يتحول إلى قنبلة… ثم نتساءل: من المسؤول؟
لسنا بحاجة إلى مزيد من الخطابات عن الأخلاق، بل إلى
واقع يعلّمها، ويرعاها، ويحتضنها. ولسنا بحاجة إلى عناوين تُدين "شهاب"، بل إلى منظومة تُنقذ من سيصبح "شهاب" القادم.
المجتمعات التي تفهم طبيعة الإنسان لا تنتظر منه أن ينهار
ثم تُحاسبه، بل تتدخل قبل أن تتراكم الانكسارات، وتتحول الطفولة المهملة إلى شباب غاضب ومتمرد.
إذا أردنا مستقبلًا مختلفًا، فلا بد أن نعيد التفكير في كيف نصنع أبناءنا، قبل أن نلومهم. فالمشكلة لم تبدأ من لحظة الانفجار، بل من لحظة الصمت على الخلل، والتواطؤ مع العشوائية، والاستسلام لمجتمع لا يرى أن التربية والتعليم والعدالة الاجتماعية… هي الجدار الحقيقي الذي يمنع السقوط.
وإلا فسنظل ندفن رؤوسنا في الرمال، ننتظر الانفجار التالي… ثم نتساءل من جديد: "من أين جاء شهاب؟"
لسنا هنا لنبرر، ولسنا ضد الحساب، لكننا نؤمن أن العدالة لا تكتمل إلا حين تحاسب المجتمع أولًا على ما صنعته يداه.
وإذا أردنا ألا نرى المزيد من "شهاب"، فلنعد إلى أصل الحكاية: هناك طفل أهملناه، ومراهق سخرنا منه، وشاب خذلناه… ثم صرخنا في وجهه عندما أخطأ.
فهل نملك شجاعة النظر في المرآة… قبل أن تنكسر تمامًا؟
إضافة تعليق جديد