المقاتل المصري محمد طه يعقوب، وكان أحد رجال الفرقة 19 مشاة، من الجيش الثالث الميداني.صاحب علامة النصر بعد العبور في 1973من هو محمد طه يعقوب صاحب الصورة الأشهر عن حرب أكتوبر 73؟
- ولدت فى مدينة بورسعيد وعشت بها سنوات الطفولة، حتى التحقت بكلية المعلمين جامعة عين شمس، ودخلت القوات المسلحة، وعينت بعد التخرج مدرساً فى مدرسة «خان جعفر» فى الجمّالية، وفى عام 1972 قررت أن أترك التدريس وأنضم للجيش، كان لا بد أن نفعل شيئاً بعد أن نفد الصبر بنا منذ نكسة 67.
■ كيف انضممت للتجنيد فى القوات المسلحة وقتها؟
- كان معى حكم بتأجيل الخدمة بحكم أننى مؤهل عالٍ، لكنى توجهت لمنطقة التجنيد، وقابلت مدير التجنيد، وقال لى بالحرف «ليس لك حق دخول القوات المسلحة»، وخرجت ثم عاودت المحاولة، وتم رفضى 3 مرات، وفى الرابعة تم قبولى وترحيلى للجيش الثالث فى منطقة المثلث، وكان مقر كتيبتى هناك الفرقة 19، اللواء الثانى، الكتيبة 22 مشاة ميكانيكى، وعلمت أننى ضمن سرية الهاون الـ82 ملم.
■ وماذا عن استعدادات الحرب وكيف أبلغت بقرار الحرب؟
- لم يكن لدينا أى علم بأى شىء حتى قبل لحظة العبور بدقائق، لكن كل الذى أذكره أننا كنا نخضع لتدريبات شاقة وعنيفة جداً قبل العبور يمكن بربع ساعة فقط، لدرجة أن الأمريكان حينما كانوا يأتون للتدريب معنا كانوا ينسحبون بعد أسبوع ويقولون إنهم لا يستطيعون تحمل تلك التدريبات الشاقة، كما أذكر أننا كنا نتدرب على كيفية عبور قناة السويس فى إحدى الترع بأنشاص وكيفية استخدام القوارب المطاطية وتركيبها واستخدامها، والعبور بها فى التوقيت المناسب تماماً وفقاً للأوامر، إلى أن جاء الميعاد وفجأة وجدنا القائد يقول لنا «اعبُر»، وكانت أعظم كلمة سمعتها فى حياتى، ولا يزال رنينها حتى الآن فى أذنى وما تبعه من هتافات الجنود «الله أكبر».. ربنا كان مدينا قوة وإحنا صايمين لا يمكن أن أنساها.
■ ما قصة الصورة التاريخية؟
- هذه الصورة التقطت فى منطقة الخدمات على خط بارليف أثناء الحرب، وتعتبر أول صورة التقطت لجندى مصرى على خط بارليف بعد العبور، وهى أول صورة أيضاً ترفع فيها علامة النصر، وكان شعوراً لا إرادى منى برفع علامة النصر مع أن ذراعى كانت مكسورة فى المعركة، وتأكدت وقتها أن مصر لازم تفضل رايتها مرفوعة، وأتذكر مصور «أخبار اليوم» الذى التقط الصورة، التى تعد أسعد لحظات حياتى.
أكلنا الثعابين والفئران الجبلية وبعض الزواحف بعد أن نفد الطعام فى الحصار
■ لماذا ظللت جندياً مجهولاً طوال تلك السنوات؟
- بعد أن وضعت الحرب أوزارها بحثت عن فرصة عمل حتى التحقت بهيئة التدريس فى دولة الكويت لمدة 30 عاماً بعد أن أديت واجبى تجاه بلدى، وتوقف الأمر لدىّ عند تلك النقطة الفاصلة فى الصورة التاريخية، ومنذ فترة صغيرة أبلغتنى حفيدتى الكبيرة بصفحة على «فيس بوك» اسمها «يللا نكرمهم ونوثق بطولاتهم» تدعو كل الجنود الذين شاركوا فى حرب أكتوبر للظهور، لمن بقى منهم على قيد الحياة، لكى يحكوا شهاداتهم للأجيال الجديدة، وبالفعل تواصلت مع تلك الصفحة، وقلت لهم من أكون، وفرحت بهذه المجموعة القائمة على الصفحة التى استطاعت تجميع أكثر من 5000 جندى من أبطال مصر فى حرب أكتوبر، وكان هذا أعظم تكريم حدث فى حياتى على مدار السنوات الماضية بعد أن بقيت مجهولاً طوال تلك السنوات.
■ هل كان أبناؤك وأحفادك يعرفون أنك بطل تلك الصورة كلما نشرت أو أذيعت فى أحد البرامج التسجيلية؟
- نعم، فى البداية لم يكونوا مصدقين، لكن حينما شاهدوا الأصل معى صدقوا ذلك، بالإضافة إلى أننى أملك عدداً آخر من صور الحرب التى تسجل أهم مرحلة فى حياتى، وحينما كانت تذاع أغنية بها الصورة الشهيرة أو تحقيق صحفى فى ذات التوقيت كل عام عن ذكرى النصر، يجرى أبنائى، والآن أحفادى، للبحث عن صورتى بين الملفات المنشورة وكلهم فخر.
الـ«999» «نضَّفت» لنا الأرض من مدافع «أبوجاموس» الإسرائيلية أثناء العبور
■ ما أهم بطولات الفرقة 19 ولماذا تسمى بفرقة «الأبطال فوق العادة»؟
- لقد قدمت الفرقة العديد من الأعمال البطولية، وأذكر منها على سبيل المثال أنه حينما أمرنا قائد اللواء الثانى، الذى كنت أتبعه فى الفرقة 19، اللواء الفاتح كُريّم، بأن نحتل جبل «المُر» بجانب عيون موسى، الذى كان يحتله الإسرائيليون أثناء فترة الحصار بعد عبور خط بارليف، استطعنا أن نحتل الجبل ونحصل على الأسلحة ونأسر الجنود الإسرائيليين بعد أن تسلقناه رغم تصويب العدو الإسرائيلى النيران علينا، وكانت مهمة شبه مستحيلة، فمن المعروف أن الطرف الذى يكون فى مكان مرتفع هو من بيده القوة الأكبر لأنه يكشف المنطقة ككل بحكم موقعه، بالإضافة إلى أن الجبل كان عليه تحصينات شديدة وأسلحة كثيرة ومتطورة، وكان اللواء «كُريّم» معنا خطوة بخطوة أثناء عملية احتلال الجبل، ونظراً لبطولاته العظيمة أصبح هذا الجبل يُعرف باسم «جبل الفاتح كُريّم» الآن، كما يضاف لبطولات تلك الفرقة تحديداً صمودنا 134 يوماً، وهى فترة الحصار، بدون أى إمدادات أو طعام أو مياه، وأصبحنا نعتمد على جهودنا الذاتية فى توفير سبل الإعاشة فى فترة الحصار.
الشهيد «الحسينى» فدانا بجسمه حين قفزنا فى حفرة هربا من الطائرات الإسرائيلية وسال دمه الدافئ فوق وجهى
■ وكيف تغلبتم على نقص الإمداد طوال تلك الفترة؟
- بعد أن انتهت «تعييناتنا» بدأنا نبحث عن الطعام بطريقتنا، فكنا نبحث فى الرمال عن عبوات «البسكويت الخشابى»، كما كنا نسميه، مما قد تكون سقطت من بعضنا أو تخلص منها لأنه كان جافاً وخشناً، كما أكلنا الثعابين وبعض أنواع الزواحف والقوارض، وفى بعض الصدف حينما كنا نهجم على دُشم الإسرائيليين أو ملاجئهم، كنا نجد ما هو غير متوقع أثناء الحرب فى تلك الدُّشم، مثل ثلاجة بها فرخة كاملة معلبة كاملة بالشوربة مع المكرونة فى علبة واحدة، وقطع لحم مطبوخة بالصلصلة، وأنواع متعددة من الشوربات والمربات والعصائر، خلاف المواد الغذائية الجافة، وكأنهم ذاهبون إلى رحلة لا إلى حرب.
■ هل تعاملت مع الأسرى الإسرائيليين بعد العبور؟
- حينما كنا نأسرهم كان يتم تسليمهم فوراً للشرطة العسكرية، لكننى أذكر أسيراً إسرائيلياً كان فى قبضتنا إلى حين وصول الشرطة العسكرية من نقطة أخرى مجاورة لنا، حينها بكى بكاءً حاراً وأخذ يهذى قائلاً «أنا باحب مصر، أنا ماكنتش عايز أحارب، أنا أصلاً من شبرا».. وكان يتحدث بلهجة مصرية مكسرة، فضحكنا جميعاً وقتها من حالة الرعب التى تملكته وقلنا له «نحن لا نقتل أسرانا كما فعلتم فى أسرانا فى حرب 67 حينما مشيتم عليهم بالدبابات وهم أحياء.. عندنا نخوة مش زيكو».. فصمت ولم يتحدث مرة أخرى واستمر فى البكاء.
الفرقة «19 مشاة» احتلت جبل «المُر» فى 3 أيام رغم نيران العدو فوقنا
■ ثغرة الدفرسوار، موضوع شائك، حدث به تبادل اتهامات حول من يتحمل مسئولية ما حدث، فأين الحقيقة وقد كنت مجنداً بالجيش الثالث الميدانى؟
- لا أستطيع أن أحمّل شخصاً بعينه المسئولية، والتاريخ هو الذى سيثبت من المسئول، وسمعنا وقتها الكثير من الأقاويل عكس بعضها، لكن على الأرض كان الوضع معقداً، ورغم أنه تم رصد عملية زرع ألغام هستيرية تقوم بها القوات الإسرائيلية حول معسكرات قواتها، فإن «شارون» فشل فى دخول الإسماعيلية يوم 22 أكتوبر بسبب بسالة رجال الصاعقة والمظلات المصريين الذين كانوا مسئولين عن الإسماعيلية، أما الجنرال «أدان» ومن خلفه الجنرال «ماجن»، اللذان انطلقا بفرقهم المدرعة تجاه السويس لاحتلالها بعد أن استمع لنصيحة الجنرال بارليف، القائد الفعلى للقيادة الجنوبية الإسرائيلية، الذى أعطاه الاختيار (إذا كانت بئر سبع فتقدم، إنما إذا كانت ستالنجراد فلا تتقدم)، أى إذا كان احتلال السويس مثل بساطة احتلال بئر سبع عام 1948 فليتقدم، أما إذا كانت عنيدة وصلبة كستالنجراد فلا تتقدم، وتوقع «أدان» أن تكون السويس مثل بئر سبع فتقدمت دباباته ترفع أعلام المغرب والجزائر لخداع أى قوة مقاومة بالمدينة، ورغم القصف الجوى العنيف للسويس يومى 22 و23 أكتوبر، فإن قوات المقاومة الشعبية، تعاونها وحدات من الفرقة 19 مشاة متخصصة فى اصطياد الدبابات، تمكنت من صد التوغل الإسرائيلى على كل المحاور، وكبدت الدبابات الإسرائيلية خسائر كبيرة، وأيضاً سقط العشرات من جنود المظلات الإسرائيليين قتلى فى معارك ضارية بين العمارات والشوارع، الإسرائيليون هم من حُوصروا وخسروا كثيراً فى الثغرة ووقتها فقط تأكد «أدان» أن السويس لم تكن بئر سبع.
■ كيف استقبلتك عائلتك لأول مرة بعد العودة من الحصار؟
- أغمى على والدتى وزوجتى فى نفس التوقيت، فقد تخيلوا أننى قد استشهدت، فى حين أننى كنت متغيباً فى فترة الحصار، وللعلم أنا لى شقيق كان ضابطاً فى الجيش الثانى الميدانى، وعاد بعد حرب أكتوبر إلى المنزل قبلى، فلم ترضَ وقتها والدتى، رحمها الله، أن يبقى أخى فى المنزل دون أن يعرف مصيرى.
■ متى بكى المجند مقاتل محمد طه يعقوب؟
- بعد فترة صمت.. يجيب: فى إحدى الغارات قامت الطائرات الإسرائيلية بقصفنا، فكنا نجرى للاختباء داخل الحفر «البرميلية»، فقفزت فى حفرة لأجد فوقى أكثر من 4 جنود آخرين قفزوا أيضاً فى تلك الحفرة، وللأسف بعد فترة قليلة وجدت دماء دافئة تسيل على وجهى، وكانت دماء الشهيد «الحسينى» الذى قام بفدائنا جميعاً، حيث وجدنا جثته تحولت إلى «مصفاة» جراء القصف الإسرائيلى بعد أن قام بحماية أجسادنا جميعاً فى الحفرة تحته.
■ الحرب تحمل مآسى مثلما تحمل الضحكات، فهل من مواقف مُضحكة لا تنساها أيام الحرب؟
- يقول مبتسماً: هناك موقفان لا أنساهما أبداً، الأول حينما كنا فى الحصار ونفد الطعام، فجأة شممنا رائحة شواء شهية جداً، فذهبنا لكى نتفقد الأمر فى السرية المجاورة لنا، فقالوا لنا تعالوا إحنا بنشوى لحم خروف، فسألناهم جبتوه منين؟ فقالوا لقيناه تايه من راعى غنم من البدو فذبحناه وبنشويه فتعالوا انضموا لنا عشان ناكل، لنكتشف بعد شوية من الأكل، أن اللحم المشوى كان لثعابين وفئران جبلية، أما الموقف الثانى، الذى لا يمكن نسيانه، حينما كنا نقوم بالعمليات الانتحارية، كما كنا نسميها للحصول على المياه، حيث إن العدو الإسرائيلى كان يحاصر عيون موسى، وهو المكان الوحيد الذى به مياه عذبة، وفى ثالث أيام الحصار ذهبت مجموعة منا للهجوم على نقطة تحصين العدو والحصول على المياه بأى طريقة، وكنا نبعد حوالى 3 كيلومترات عن أحد عيون موسى، وكنا وقتها نقود سيارة اسمها (يونيمك) وكانت عربات خفيفة جداً، وكنا نتصارع من أجل مَن سيخرج فى تلك العملية الانتحارية ليجلب المياه لزملائه، وكانت رحلة إما نعود بالمياه أو نقتل، وبالفعل أطفأنا أنوار العربات وحملنا الجراكن وتحركنا فى الظلام، لكن من شدة وعورة التضاريس عبر المدقات وصعوبتها انقلبت بنا السيارة ونحن بها على جانبها، ووقعنا كلنا على الأرض وأصابتنا حالة من الضحك الهستيرى لا يمكن أن ننساها أبداً، وقمنا وعدلنا السيارة مرة أخرى وأكملنا الطريق وبالفعل استطعنا العودة بـ6 جراكن مياه.
■ بعد مرور 42 عاماً على الحرب، البعض يصف معاهدة كامب ديفيد بأنها معاهدة استسلام ويقلل من شأن حرب أكتوبر المجيدة، فما تعليقك؟
- أقول لهؤلاء مَن أنتم؟ أنتم لم تعرفوا يوماً ماذا تعنى الحرب؟ ماذا يعنى القتال؟ إننا نحارب منذ عام 48 وخضنا معارك 56 و67 و73، فإلى متى سنظل نحارب؟ بالعكس أنا أرى أن السادات «معلم» واسترددنا أرضنا ولا يوجد شبر محتل مثل دول أخرى مجاورة، وللأسف هناك ناس كثيرون فى البلد لا يستحقون الجنسية المصرية، أين انتماؤهم؟ أين خوفهم على تراب بلدهم ودماء أبنائهم؟ ما كان لنا أبداً أن نحارب طوال العمر، وفى النهاية نحن كنا نحارب أمريكا وليس إسرائيل، ولن أنسى منظر الدبابات التى كانت تنزلها الطائرات الإسرائيلية فى العريش بعد العبور وهى «لسه بشحمها» جديدة تماماً.. وكانت بالطبع أمريكية.
إضافة تعليق جديد