رئيس مجلس الإدارة   
            د/ نبيلة سامى                   

                                               

          صحافة من أجل الوطن 

              (  مجلة مصر )

                             ( أحدث إصدارتنا)

الاثنين 1 ديسمبر 2025 6:43 م توقيت القاهرة

ماوراء الإعصار

قراءة في قصة إعصار الشمس - للكاتبه سحر القوافي
بقلم الناقد والكاتب الليبي رمضان العوامي

كلمة لابد منها :
إن هذا النص الابداعي المتميز، والذي يمكن تصنيفه بالأدب التسجيلي ، جاء نتاج مخاض ذاكرة حفيظة لا يشوبها تشويش أو تشويه ، وقدرة أدبية فائقة ، متمكّنة من كل أدواتها على نحو لا يبارى.
... و بالمناسبة نحن لا نستنكف مما جاء فيه ، فقد لمسنا تلك الحياة عيانا ، بل عشناها ذات سنين ، أقصد نحن سكان الشمال الافريقي وعلى طول امتداده ، وهكذا كان هذ النص لسان حالنا بتناوله لحقبة ضربت مجتمعنا ذات زمان ، وبهذا يصبح هو الأقرب لنا في دراسته ونقده.
ولا نملك الا أن نحيي فكر هذه الكاتبة العملاقة ، على هذا العمل الراقي ، والذي خطته بريشة الأشجان والصبر الجليل ، وبمداد واقع مأساوي أسير ، فهي لم تضطر للي أعناق المفردات أو اغتصابها ، بل كان النص بمفرداته سهل ممتنع ، توجهه حيث تشاء وأطاعها حيث أرادت ، مثل شياه لطيفه تنساب خلف عزف راعيها في سهل تعانقت فيه أعشاب الرياض كالعشاق ... بالرغم أن النص كل حرف فيه يقطر بالمرارة..
كما أني لا ادعي وصولي إلى سبر أغوار هذا النص ، ولكنني حاولت أن ٱفيه شيئا من حقه، في الوقت الذي يخامرني شعور بعجزي عن إخراج كل ما جال في نفسي تجاهه .
( فحين تتسع المعاني ... تضيق التعابير )
ومن الضرورة أن اقول ...
إن هذا النص لا ينقصه شيء في أن يكون في مصاف النصوص العالمية للأدب التسجيلي، فقد كان مختزلا للمعاني ، ومرتقيا بجودة مفرداته ، ومتماسك الاركان بسرده، وفي تناص كامل ، وبعيدا عن الانشاء المملة والمط الفراغي .
إنه نص يصرخ بالمحن القاسية ... لا مجال فيه لهمسات أو رومانسية .
إعصار الشمس... بهذا العنوان المرعب يباغتك عنوان هذا النص المبهر ، ليتركك تسبح في أتونه حتى نهايته ، فهو ليس عنوانا كما اتفق ، بل إنه ينم عن المعرفة الكاملة لتلك الظاهرة الكونية ، لتسقط وسما له .
وعند اقترابك منه أي النص ، فان الأمر يتطلب قوة احتمال فوق احتمالك ، لمواجهة إعصار شمسه الجهنمي ، وعلى الرغم أن الشمس هي أم كوننا ، فهي التي تمد كل كائناته بالطاقة والغذاء والنور والدفء ، فإنها أحيانا ودون انذار ترسل عبر متاهات الفضاء الشاسعة وعلى حين غرة إعصارها المدمر ، الذي لا يبقي ولا يذر ، مثلما فعلت ذلك منذ قرنين خلت من الزمان ، حيث أحالت قراصنة وسفنهم الى رماد عند تنافسهم للسيطرة على البحر الكاريبي .
ولنا أن نتساءل لما تفعل ذلك هذه الأم الرؤوم و التي أحبها الإنسان منذ الأزل وتعلق بها لدرجة العبادة ذات عصور ؟؟ ... وتأتي الإجابة بأن لا غرابة في ذلك ... فهي تعكس صورة الأوطان ... التي تحضننا حينا ... وتنكرنا أحايين أخرى .
فكما خط فوق الصخر حكماء مصر الأوائل ( كما فوق كما تحت ).
وفي محاولة لقراءة هذا النص بالبصيرة لا البصر ، ستصطدم ومنذ اللحظة الأولى بتلك الرياح العاتية والتي ستبذل تجاهها مكابدة قاسية ، محاولا التبصر بما نسفت وما خلفت من دمار فيما اجتاحت ، وكيف أنها أيقظت ( شهقات ) دفينه لروح معذبة ، لتجد في هذا السياق أن المؤلفة تمكنّت وبحرفية عالية أن تضعك ومنذ البداية وحيدا في ذلك الخضم الموحش والمظلم ، وتفزعك بنعت الريح بــ ( المنكبّة )، لدق جرس إنذار لما هو آت.
(كبات الريح بالخارج أطبق صفيرها صمت الليل الشتوي الحالك الطويل وأيقظ شهقات الروح المعذبة).
... ثم يحيلك النص بمنطقية ودون تمهيد إلى ما ( تغلغل ) بذاكرة ( كوب الشاي الأخضر) عارضا مشاهد متسارعة قاسية وعنيفة ، ليكسو تلك المشاهد بثوب نحيب غاية في إثارة زوابع الأحزان على نحو بركاني لا يمكن للنفس مقاومته ... وتنال تلك المشاهد منك حتي تظن أنك لن تجد عزما لما هو قادم ... ويظل هذا أيضا رغم تكاثفه المريع مجرد تمهيد لما يليه!!!
...ثم ينبثق من التي ( أطبق صفيرها صمت ليال الشتاء ) ، ومن تنامي ذاكرة كوب الشاي ، تداعيات محزونة تؤجج الأفئدة إلى حد الانسحاق ... عن قرية ( الأكواخ القصديريه ) وما تتضمن من مفردات معيشة دودية ، لا ترتقي على سلم الحياة ولو بدرجة واحدة... حيث تنقلنا رصانة التراكيب وقوة المفردات المأسوية المفجعة الى نمط سير المعيشة في ذلك الحي المنسي، والذي مثلت فيه حالة الإنسان القديم في زمن غزو الفضاء!!!، فكانت المحصلة القهر والحرمان والتخلف وقتل الآمال وتوالي الأيام في ... لا شيء ...
(مناظر موجعة مقززة تشعرك بالغثيان والرغبة الجامحة في التقيؤ. فحتى الكلاب تنبح لتشي بوجودها وتدمرها وجوعها وبردها. تلسعها سياط القر وتلفحها نيران الحر. تجوب الحي من أقصاه إلى أدناه ).
... وبسيطرة كاملة على نواصي الكلم ، يغوص بك النص إلى أبعد من ذلك ، ليخطفك وعلى نحو إيمائي إلى وصف أفعال خاصة ، متلاطمة ومتصاعدة ومتناقضة في ذلك الحي بمختلف مخلوقاته واختلاف أنفسه ... فيذكر الأفعال ويغض النظر عن فاعليها ، وفي ذلك ترفع مهيب .
(يرتفع فيه الأنين والشخير والآهات والبكاء والنباح والخوار والمواء والصياح والنهيق. أما الصدور فيملأها الفراغ واليأس ) .
وحتى لا تهتز الصورة أو تضيع المشاهد ، يذهب بك النص وعلى نحو فوري إلى ما يجري في ذلك الحي من حالات عامة .. فتكتمل الصورة دون حذف أو إخفاء ، لتجد نفسك تراها واضحة المعالم أقوالا وأفعال ،حتى تخال أنك أحد مكونتها .
( في هذا الحي البائس تلتهب الألسنة بالقيل والقال. وتترقب العيون الطالع والهابط الذاهب والٱيب والحافي والمجنون ..تتعارك النسوة والأطفال والقطط والكلاب والدجاج.)
.. ولا يقف النص عند هذا الوصف المدهش والدقيق لذلك المجتمع والذي كأنه لا ينتمي لهذا العصر ، حتى يصل إلى بؤرة ذلك الإعصار الشمسي ، وما تضمن من قتل على نحو شنيع للأحاسيس الإنسانية ، وتكسّر مريع لآمال ابن الشمس – هارون ، وتحطم قلب – فاطمة – مثل تحطم موجة عنقاء على شاطئ صخري .
... إن الرزايا المتكاثفة التي عج بها النص منذ بدايته ، وبالرغم من شدة قسوته ، إلا أنه كان مقدمة لهذه الرزية الماحقة ... فاجعة فاطمه في هارون...
فاطمه المكلومة والتي اضطرت للجوء إلى تلك العرافة لعلها تتسقط منها أخبار الحبيب الذي غيبه البحر اثر العوز ... فكل ما تلقته منها تلك النبوءات والتي جاء في ثالثتها ما يشبه البشارة ، ولكنها ليست لفاطمة
(وثالثة تضرب كالإعصار .. تدوس غطرسة الجبل تعريه ..تهدم قصور سيدي الحاكم وحاشيته ..تتوغل إلى جميع الخواطر والأفئدة وتمسح عنها اليأس والشجن وتزرعها أملا وبسالة ..فيعود الحمام وتبرعم الأحلام في أرض الوطن ويزدهر الربيع ..)
ولا يقلل النص من إدراك العرافة وإحساسها بواقع مرير رغم تكسّبها من جهالة ذلك المجتمع وتعلقه بنبوءات الغيب والتي قد لا تأتي أبدا ، فتقول ضاربة صدرها بكفها :
( ...أتكلم عن لهيب الصدر المكتوم ونزيف جراحه ..عن الأعاصير المكبوتة في أرواح الحيارى والبائسين والمحرومين والمفقودين وسجناء الرأي والحيف والجور. حرقة العمر ورماده ..النور الذي يغرق في الدجى .. ابن الزيتون والجياد والرمال. ابن الخيام والنخيل والقمح والبحر. )
و رغم ذلك فإن عيني فاطمة الحيارى تلاحقها بسؤال عن ذلك الغائب ، فما كان من العرافة إلا أن ...
( ... اعتدلت في وقفتها ومدت يدها إلى ثقب في الجدار الحجري العتيد ).
ويصمت النص فجأة ... ليتركنا في حيرة ، عما إذا أخرجت العرافة شيئا لفاطمة من ذلك الثقب أم لا... ولكننا ندرك ان الثقوب لا تأتي بمن رحلوا . !!!
وأختتم بمقولة الأديب الليبي الكبير الراحل الصادق النيهوم حيث قال :
( الحزن ليس عار...)
بقلم الناقد والأديب الليبي
رمضان العوامي.

تصنيف المقال : 

إضافة تعليق جديد

CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.
2 + 14 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.