الحلقة الأولى من سلسلة
شخصيات أثرت في حياتي
بقلم د/سماح عزازي
كل بداية حقيقية تبدأ برجل عظيم، وكل فتاة يُزهر قلبها كانت في الأصل زهرة نبتت في كفّ أبٍ مختلف... وأنا، كنت زهرة أبي.
كنتُ أول فرحته، بكر نسله، ونسخته الأقرب إلى ذاته. لم أكن مجرد ابنته، بل كنت مرآته، وصوته الآخر، وامتداده. علاقتي به لم تكن علاقة تقليدية بين أبٍ وابنته، بل كانت شراكة روحية نادرة، كأننا وُلدنا توأمين في روح واحدة.
كنا وجهان لعملة واحدة، ينطبق علينا ذلك القول: "كلما تطابقنا، تنافرنا". اختلفنا أحيانًا، نعم، لكننا كنا متشابهان في العمق، حدّ الذوبان. في قوته كنت أرى نفسي، وفي صلابته وجدتُ صدري الصامد في وجه الحياة.
نشأتُ في قلب الريف الشرقي، بين عادات صارمة وتقاليد لا تلين. وكان أبي، رغم انغماسه في هذه البيئة، مختلفًا. كان قائدًا بطبعه، مثقفًا متعلمًا، صاحب شخصية قوية وعقلٍ واعٍ لا يستشير أحدًا غالبًا، لكنه كان يستشيرني أنا. كان يحبني لدرجة رفعني إلى مقام المسؤولية منذ نعومة أظفاري. جعلني المرجع الأول في كل شأن يخصه أو يخص العائلة.
لم يكن يتخذ رأيًا دون الرجوع إليّ، لا حبًا في المشورة فحسب، بل إيمانًا بي.
كان أول من لقّنني الحروف، وأول من شرح لي دروسي. لا أنسى يومًا شرح لي درس "حمدان والذئب"، فظل عالقًا في ذهني حتى اليوم.
حفظني القرآن، وشرح لي معانيه، وكافأني عليه بمحبة لا تنضب. فقد كان إمامًا وخطيبًا في المسجد، بجانب عمله الحكومي، خطيبًا مفوّهًا، محبًا للكتابة، حافظًا لكتاب الله وسنّة نبيّه، وعاملًا بهما كما ينبغي للعالم الرباني أن يكون.
كان أبي أسطورة تمشي على قدمين... كتلة من الحب النقيّ والحنان الدافق، مختبئة خلف وجه صارم وقلب عنيد.
ورثتُ شخصيته كما هي، صرامته وعناده، قوته وحنانه، عقله ولسانه... شكلاً وموضوعًا، كنت "كوبى بست" من أبي، كما اعتاد أن يقول.
عندما تزوّج إخوتي، كان يقول لزوجاتهم: "هذه ابنتي الكبيرة... هي أنا. من أساء إليها فقد أساء إليّ، ومن أكرمها فقد أكرمني."
لم يكن يرى فيّ مجرد بنت، بل كان يراني ذاته.
ومن المواقف التي تخلّد حبه لي:
انا أقيم في القاهرة، وعلمتُ أن أبي ذاهب لشراء شبكة زواج لأخي الذي يصغرني بعام ونصف. هاتفني قائلاً: "هنشتري الشبكة لأخوكِ"، فقلت له: "مليون مبروك وربنا يتمم بخير."
لكن المفاجأة كانت حين ذهب إلى محل الذهب، ووجد والد العروس وأمي وأخي في انتظاره، فسأل: "أين سماح؟"
فأجابت أمي: "لم تأتِ، هي في القاهرة."
فجلس أبي خارج المحل وقال: "لن أدخل إلا إذا جاءت ابنتي، أو نؤجل للغد."
قالوا له إنني بعيدة، ولن أصل قبل ساعتين، والوقت متأخّر، لكنه أصرّ.
هاتفَتني أمي وقالت لي: "أفهم ظروفك، لكن والدك رافض يكمل من غيرك."
فتركت كل شيء، وذهبت إليه على جناح الريح ، لا لأشارك في شراء ذهب، بل لأرضي أبي لا يرضى عنّي بديلًا.
وصلتُ إلى هناك، فوجدته جالسًا خارج المحل، ولما رآني قال لوالد العروس: "هذه ابنتي الكبيرة، لا أخطو خطوة بدونها."
وانتهى الموقف بسلام، لكنه ظلّ راسخًا في القلب.
وفي موقف آخر، يوم عيد الفطر، كنت أقضي العيد في القاهرة مع أولادي. وكان من عادة أبي، منذ انتقلتُ للعيش بالقاهرة، أن أعود كل عيد إلى قريتنا، نعيد معًا.
لكن في ذلك العيد، قررت ألا أذهب.
كانوا ينوون قراءة الفاتحة لأخي في ذلك اليوم. وعندما علم أنني لست موجودة، رغم حضور السيارات وكل الترتيبات، توقّف كل شيء.
رفض أن تُقرأ الفاتحة من دوني. قالها بمنتهى البساطة والحسم:
"مش هنعمل حاجة إلا لما تيجي سماح."
وكأنّي حجر الزاوية في البيت... وكأن البيت لا يُقام بدوني.
أبي لم يكن مجرد سند في حياتي... بل كان حياتي نفسها.
كان عالمي، وحين فقدته، شعرت أن الأرض تميد من تحت قدمي.
لكنه لم يغب... فما زال ظلّه يرافقني، وصوته يسكنني، ومحبته تسكن قلبي كأنها وُلدت معي.
ولم يكن أبي لي فقط، بل كان الأب والمربي والصديق. منذ وفاة أمي، حاول أبي جاهدًا أن يعوضني عن فقدها، وكان سندًا لي في كل لحظة، يحميني من الحزن ووألم حرمان الام ، فكان دائمًا قريبًا، يهمس لي : "أنا هنا، ولن أتركك". لقد استطاع أن يحمل عنّي ثقل اليتم، ويجعلني أشعر بالأمان رغم أن العيون كانت تشتاق لوجودها.
ثم جاء اليوم الذي افترقنا فيه عن أبي... جاء الموت، الذي أخذه من بين يدي، وأخذ مني أعز ما كان لديّ. تركني، لكنّه ترك لي إرثًا ضخمًا من القيم، والسمعة الطيبة، والحب غير المشروط.
رحمك الله يا أبي...
تركتَ لي اسمًا مضيئًا في المجالس، تركت لي أسطورة لا تنتهي. تركت لي دربًا أحتذي به، وحبًا لا يزول.
إضافة تعليق جديد